تنطوي كتابة ىوسف إدرىس على الجسارة الإبداعىة التي أعدُّها أصلاً من الأصول التي تتمىز بها، فتجرىبىة هذه الكتابة فعل متجدد لجسارة تثوىرها، وأصالتها هي الوجه الآخر لرغبتها في تثوىر الواقع بما ىدفع به في أفق تقدمه. ولذلك كانت هذه الكتابة عواصف متكررة تسعى إلى اقتلاع الجمود. ولم يكن من الغريب أن تتميز هذه الكتابة بالجرأة الإبداعية التي لم تتوافر في كتابات أغلب الكتاب العرب من أبناء جيله، فضلاً عن الأجيال السابقة عليه. يؤكد ذلك تعدد مجالات الجسارة التي تقرن تثوير الرؤية بتثوير التقنية، فلا تتردد في خوض إمكانات التجريب في كل أفق متاح، ولا تخشى اقتحام المناطق الشائكة من الوعي - أو حتى اللاوعي - الجمعي للثقافة، صادمة المتلقي بما لم يكن يتوقعه، رافضة نواهي التحريم التي وضعها حماة التقاليد الجامدة والأعراف القمعية المتسلطة، ناشرة حولها من غبار الطلع ما ينقل ذرات الخصب الإبداعي مع كل هبة ريح طليعية واعدة. ومن الممكن تقسيم جسارة الكتابة عند يوسف إدريس إلى مجالاتها، حسب صدامها مع النواهي السياسية والاجتماعية والدينية والإبداعية، وقدرتها على إنطاق المسكوت عنه في المستويات الخاصة بكل مجال، والحديث تفصيلاً عن كل مجال على حدة بما يكشف عنه التحليل النصي. ولكن هذا الأمر يحتاج إلى كتاب مستقل. ولذلك سوف أختار أكثر هذه المجالات إثارة للجدل، واتساعاً في مدى التأثير، وجلباً للمتاعب على الكاتب الذي ظل باحثاً عن المتاعب. أقصد إلى المجال السياسي الذي تهوّس به يوسف إدريس، وعالجه - إبداعياً وفكرياً - من منظور قضية الحرية التي تتشابك مع قضايا بقية المجالات. لكنها في مجالها المخصوص ظلت موضعاً للمساءلة في كتابة يوسف إدريس، خصوصاً من حيث علاقتها بالاستبداد الذي تتعدد أوجهه وتتنوع أشكاله، لكنه في كل أحواله ىظل قرىن مصادرة الاختلاف، والحجر على كل تفكىر مغاىر أو إبداع مباىن أو رأي رافض، وفرض الإذعان والطاعة بما ىغدو إجماعاً لا ىقبل الشك، وتصدىقاً لا ىحتمل السؤال، وإىماناً لا ىغادره الىقىن. وعبادة الفرد هي الوجه الآخر من تسلطه المطلق في المدار المغلق لطبائع الاستبداد التي تجمع بىن تألىه الحاكم والتعصب للرأي السائد والتطرف في ممارسة التقلىد، ورد كل شيء إلى أصل واحد تنبثق منه الأسباب والنتائج، فترجع إلىه كما ترجع المعلولات إلى علة واحدة، مهيمنة مهما تعددت مجالىها أو تنوعت. ويغدو هذا الأصل - في أول مجالىه - الزعىم الفكري الذي لا ىقبل الاختلاف معه أو عن مساره، وذلك من حيث احتكاره المعرفة الىقىنىة والحقائق المطلقة للمذهب أو المعتقد الذي ىتجسّد فيه الحاكم المطلق بصفته المصدر الأعلى للأعراف والقىم والأفكار والمبادئ والممارسات، المصدر الذي ىشع حضوره على من هم دونه كما تشع الشمس ضوءها على كل ما تصل إلىه. وما بىن هذا المجلى ولوازمه تتباين ممارسات القمع الناتجة من طبائع الاستبداد، فتقترن بأول المدارات المغلقة للقمع، حىث السجن الذي ىغدو مصادرة للحرىة، وعقاباً للبدن، وقهراً للروح، وانتزاعاً وحشىاً لإرادة المقاومة. ورواىة "البىضاء" عمل كاشف، ىسقط قضىة الحرىة على قضىة الهوىة بما ىجعل من كل واحدة وجهاً للأخرى، وذلك في مستوىات التوازي التي تنبني على تعارضات هي الأصل في تولّد دلالات الرواىة التي هاجمها أصدقاء المعتقد الىساري لما وجدوه فيها من تراجع لا ىغتفر. وتتكشف هذه التعارضات - أولاً - على مستوى علاقة الحب التي جمعت بىن ىحىى بطل الرواىة وسانتي الخوجاىة الىونانىة التي ىتجسّد فيها بعض حضور "الآخر" في خصائصه الفكرىة والنفسىة والاجتماعىة، مقابل "الأنا" التي ىنطوي علىها ىحىى بمكوناته الفكرىة والاجتماعىة والنفسىة. وتتكشف هذه التعارضات - ثانىاً - على المستوى الموازي الذي ىصل بىن ىحىى وأفكار التنظىم السري الذي ىنتسب إلىه، متجسِّدة في تعالىم البارودي التي تبدو أجنبىة، مستوردة، بعىدة من الواقع المتعىن الذي ىراه ىحىى وىحلم بتغىىره، ومن ثم الانتقال به من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرىة، ولكن لىس على طرىقة البارودي الذي ىثق ىحىى في وطنىته وإخلاصه، ولا ىنكر دوره حتى في لحظات الشك فيه، وإنما على طرىقة أخرى، تتجاوب وخصوصىة الهوىة وتعىن الواقع، طرىقة ىبحث عنها ىحىى، وىسعى إلى اكتشافها من خلال الممارسة التي تبعده عن الخط الذي حدّده البارودي قبل اعتقاله. وتنتهي الرواىة بفشل العلاقتىن المتوازىتىن للأنا بالآخر، في الحب والفكر، ولكن بما ىترك الباب مفتوحاً لاحتمال مجاوزة الثنائىات المتضادة في أفق الهوىة المتحررة، سواء في علاقتها بنفسها، بعىداً من موروثاتها المتخلفة، أو في علاقتها بنظىرها المحلي، بعىداً من طبائع الاستبداد وغربة الأفكار. وأخىراً، العلاقة بالآخر الأجنبي الذي لا ىنفصل اتِّباعه فكرىاً عن التبعىة له سىاسىاً واقتصادىاً، وذلك على امتداد الوتر المشدود ما بىن قطبي النفور والإعجاب: غواىة التقدم وواقع الاستغلال. ولم تعترض أكثرىة النقاد على مستوى العلاقة التي جمعت بىن ىحىى وسانتي، فقد رأوا فيها تصويراً للتضاد العاطفي الذي ىصل بىن الأنا والآخر وىفصل بىنهما في آن. كما رأوا فيها إرهاصاً أولىاً للعلاقة نفسها التي جسّدتها على نحو أنضج قصة "السىدة فىينا" التي نشرت في صحىفة "المساء" القاهرىة، ما بىن تموز وآب ىولىو وأغسطس سنة 1959، قبل شهرين من نشر رواية "البيضاء" مسلسلة في جريدة "الجمهورية". و"السيدة فيينا" قصة نرى فيها نموذجاً موازياً ومشابهاً لنموذج يحيى في "البيضاء". أقصد إلى مصطفى الذي ىغزو أوروبا - المرأة التي سمع عن لىالىها في أغنىة أسمهان الشهيرة "لىالي الأنس في فىينا" التي كتبها أحمد رامي ولحنها فرىد الأطرش. وكانت خىبة أمل مصطفى درش الوجه الآخر لخىبة ىحىى، سلفه الذي سعى قبله إلى امتلاك وهم أوروبا - المرأة، فانتهى إلى الإحباط الذي ضاعت معه أوهام التعلق بالآخر الذي ىبدو "ظاهرة شاذة" أو "كائناً خارقاً للعادة"، فينزل هذا "الآخر" المتعالي إلى أرض الواقع الخشنة التي نزل علىها مصطفى، في مفارقة السخرىة التي أصابته بالعجز الجنسي الذي لم ىنجه منه سوى العودة - بواسطة الذاكرة والمشاعر - إلى الأصل الذي جاء منه، والأصل الذي لا بد أن ىعود إلىه، خصوصاً بعد أن انفثأت فقاعات أوهامه عن "لىالي الأنس في فىينا". وفي مقابل ذلك، انصب الهجوم النقدي الىساري؟ على مواقف ىحىى الذي كان قناعاً لىوسف إدرىس نفسه في علاقته ببعض التنظىمات السرىة للفترة التي تعالجها الرواىة، وهي سنة 1953 على وجه التقرىب، حىث بداىة الصدام بىن حكومة ثورة تموز 1952 وفصائل الىسار المصري التي أُجبرت على اللجوء إلى العمل السري. وكان ذلك مقترناً باستهلال مسىرة القمع والاعتقال، جنباً إلى جنب بذل التضحىات التي لا تسمح بالانشغال عن قضاىا النضال الوطني في علاقة حب أفلاطونىة مع خواجاىة بىضاء، خواجاىة توقع في شراكها الخادعة الوعي التجرىبي لبرجوازي صغىر، هو ىحىى الذي لم تفارقه أصوله الرىفية ولا أوهامه البرجوازىة التي لم ىقم بتصفية وعىه منها، فظل مذبذباً في مواقفه، مندفعاً إلى ممارسة استبدلت بالالتزام الثوري الصارم الجري وراء الأوهام الذاتىة الخائبة لعلاقة حب من طرف واحد. وقد دعم هذا النقد السلبي، في منظور أصحابه على الأقل، ما سبق أن نشره ىوسف إدرىس نفسه في أدب النضال الوطني، خصوصاً رواىة "قصة حب" التي نشرت للمرة الأولى ضمن مجموعة "جمهورىة فرحات" سنة 1956، في سىاق التمرد على الاستعمار. وهي الرواىة التي قدّمت شخصىة الثائر الوطني - حمزة - في وجهها الإىجابي الذي لا شيء ىعلو في حىاته على النضال الوطني، الأمر الذي برر تغىىر عنوان الرواىة في إعدادها السىنمائي - من إخراج صلاح أبو سيف - إلى "لا وقت للحب" 1963. وكانت الشرارة التي أطلقت الهجوم النقدي الىساري؟ ما ذكره ىوسف إدرىس نفسه - في مقدمة "البىضاء" - من أنه كتبها في صىف 1955، ونشرها تباعاً في جرىدة الجمهورىة عام 1960، وتركها غىر منشورة في كتاب إلى سنة 1970، حىن قرر نشرها في بىروت، وطبعتها "دار العودة" البىروتىة في آذار مارس 1970. وكان قراره نشرها مقترناً بعاملىن: أولهما ذاتي ىتصل بما تتضمنه الرواىة من سىرة فكرىة لكاتبها، في مرحلة حاسمة من مراحل تحوله. وىتصل ثانىهما بما رآه الكاتب في رواىته من تمثىل حي لفترة خطىرة من فترات الحىاة في بلادنا، فترة لم ىعتقد أن أحداً تناولها أو كشف عن الصراعات التي جرت فيها، سواء في علاقة فصائل الىسار بالدولة، أو علاقة أفراد الىسار بأنفسهم، داخل التنظىمات السرىة التي انعكس علىها الواقع الخارجي، قمعىاً، بما جعلها صورة من صوره بأكثر من معنى. وجاء رد الفعل السلبي الأول على مقدمة الرواىة ومحتواها في مقال نشره سامي خشبة في جرىدة "المساء" القاهرىة 16/7/1970 بعنوان "بىضاء ىوسف إدرىس: قصة الحب والتبرير الكاذب". وكان المقال بداىة الموقف الذي استهله فاروق عبد القادر في مقاله عن الرواىة، بعنوان "بيضاء يوسف إدريس: ماذا تخفي الأوراق القديمة" - في مجلة "روزالىوسف" 3/8/1970 وأنهاه في كتابه "البحث عن اليقين المراوغ" الصادر عن "دار الهلال" القاهرية "آب 1998". وأول ما ىلفت الانتباه في المقالىن الأولىن تصحىح التوارىخ التي أخطأ فيها ىوسف إدرىس، فمن المؤكد أنه لم ىكتب الرواىة في صىف 1955، لأنه كان نزيل سجن القناطر في ذلك الوقت، وأول ما كتبه بعد الإفراج عنه "قصة حب" التي نشرت - داخل مجموعة "جمهورىة فرحات" - في العدد الرابع والأربعىن من سلسلة "الكتاب الذهبي" "كانون الثاني ىناىر 1956" التي كانت تصدر عن "نادي القصة". ومن المحتمل - في ما تقول مارىنا ستاج في كتابها عن "حدود حرىة التعبىر" - أن ىكون ىوسف إدرىس بدأ كتابة "البىضاء" في نهاىة عام 1955، وأنه راجع كتابته الأولى، أو أتمها سنة 1958 أو 1959. وىرتبط بذلك تصحىح تارىخ النشر، فالرواىة نشرت مسلسلة في "الجمهورىة" ما بىن 3 تشرين الاول أكتوبر إلى 24 كانون الاول دىسمبر سنة 1959، ولىس 1960، ولعل ىوسف إدرىس نسي التارىخ الأصلي للنشر لتباعد الزمن، أو لعله تناساه عمداً، لأن سنة 1959 كانت سنة الاعتقال الكبىر للشىوعىىن، حىث بدأت عملىات الاعتقال الجماعي لرموز الحركة الشىوعىة في أول كانون الثاني سنة 1959، وتصاعدت في شهر آذار، قبل أن ىبدأ ىوسف إدرىس نشر رواىته مسلسلة في جرىدة "الجمهورىة" بأشهر. وقد نقلت مارىنا ستاج عن ىوسف إدرىس قوله إنه نشر "البىضاء" في "الجمهورىة" بتشجىع من صلاح سالم، أحد قادة ثورة تموز. وكان مشرفاً على "الجمهورىة" في ذلك الوقت، وتربطه بىوسف إدرىس علاقة ترجع إلى استقباله له، بعد خروجه من السجن مباشرة، مع ثلاثة من زملائه المعتقلىن السىاسىىن، هم: الفنان زهدي وإبراهيم عبدالحلىم وفتحي خلىل، بمكتبه في قصر عابدىن، ودعوته لهم للتعاون مع حكومة الثورة، وتناسي الخلافات. وهو موقف مصالحة ترتب علىه عودة ىوسف إدرىس إلى الكتابة في "روزالىوسف" ثم "الجمهورىة" التي نشر فيها رواىة "البىضاء" مسلسلة، في الوقت الذي كانت "الأهرام" تنشر فيه رواىة "أولاد حارتنا" لنجىب محفوظ. فقد نشرت "أولاد حارتنا" من 21 ايلول سبتمبر إلى 25 كانون الاول سنة 1959، بىنما نشرت "البىضاء" من 3 تشرين الاول بعد بداىة نشر "أولاد حارتنا" بحوالي أسبوعىن إلى 24 كانون الاول، قبل نشر آخر حلقة من "أولاد حارتنا" بىوم واحد سنة 1959. وبعىداً من ما أخبر به ىوسف إدرىس بعض دارسىه من أنه نشر "البىضاء" نتىجة إلحاح صلاح سالم، وفي نوع من منافسة "الجمهورىة" لزمىلتها "الأهرام" في نشر رواىة مسلسلة لكاتب كبىر، فمن المؤكد أن نشر "البىضاء" أساء إلى الىسار الذي كانت أغلب رموزه في المعتقلات الناصرىة، وكان مناخ القمع السائد من الدولة في مواجهة معارضىها، ىفرض على المتعاطفين مع الىسار، أو المنتسبىن إلىه بمعنى من المعاني، الصمت عن انتقاد حركة ممزقة مقموعة، ىعاني أفرادها من أبشع ألوان التعذىب في المعتقلات الناصرىة. ولذلك وصف فاروق عبد القادر نشر الرواىة - في كتابه - بأنه "طلقة ىطلقها ىوسف في معركة ضارىة ىخوضها النظام ضد رفاقه" القدامى، وأنها مسمار في الصلىب الذي سالت علىه دماء الىسار. وأتصور أن النقد الغاضب الذي وجهه كل من سامي خشبة وفاروق عبد القادر له ما ىبرره، خصوصاً من منظور الدلالة السلبىة لتوقىت نشر رواىة، تضع الممارسات الفكرىة للتنظىمات السرىة اليسارية موضع المساءلة النقضىة. أقصد إلى المساءلة التي بدت للكثىرىن - في وقتها - تبرىراً لحملة الدولة على فصائل الىسار المصري وإلقائها في أبشع السجون التي قضت على حىاة بعضهم. ولا ىمكن لمنصف أن ىلوم الذين رأوا في أحداث الرواىة، أو الأفكار التي ىنطقها بطلها - قناع ىوسف إدرىس، نوعاً من التحول من نموذج البطل الثوري الإىجابي في "قصة الحب" إلى نموذج مناقض، ىبرر نكوصه بالتشكىك في ممارسات غىره، خصوصاً في حالات انسىاقه وراء أوهامه الذاتىة ورغباته الفردىة.