الجسارة هي الصفة الملازمة للتجريب في الكتابة، فكما أنه لا يمكن للكاتب أن يمضي طويلاً في ممارسة التجريب من دون جسارة تعينه على أن يستبدل بمنطق الاتّباع منطق الإبداع، وبالتقاليد الصارمة مبدأ الرغبة العفوية المفتوح على فعل المساءلة، لا يمكن بالقدر نفسه أن يكتمل معنى الجسارة في الكتابة من دون وعي تجريبي يؤسس معرفته بالنسبي لا المطلق، السؤال لا الإجابة، المتغير لا الثابت، النقض لا القبول، المخالفة لا الإجماع، المغايرة لا المشابهة، الطليعة القليلة لا الغالبية الساحقة. والعلاقة جدلية بين التجريب والجسارة في حال كل كاتب متمرد، فأصالة هذا الكاتب تظل مقترنة بسعيه الدائم إلى كل ما يسهم في تأكيد الهوية المتفردة لكتابته داخل ثقافته الوطنية والقومية. والممارسة التجريبية المتواصلة والمتصلة في أفق الكتابة المفتوح هي المظهر العملي لهذا السعي الدائم، وذلك بالقدر الذي تتبادل به الجسارة والتجريب الموضع والوظيفة، السبب والنتيجة، داخل السياق الإبداعي الذي تقتضي أصالة كتابته التجريب الذي يجسّد خصوصياتها ومتغيراتها في علاقتها بثوابتها، وتقتضي محاولاته التجريبية درجة عالية من الجسارة التي تدعم الممارسة التجريبية كما تتدعم بها في تجسيد الحضور المتفرد للأصالة الإبداعية. ويبدو أنه من الضروري التمييز بين نوعين من الجسارة في هذا السياق: الجسارة المجانية والجسارة الإبداعية. الجسارة الأولى تهوّرٌ خالص مصدره انعدام الوعي بالمسؤولية الاجتماعية للكتابة، وهي ادعاء أخرق بالبطولة حيث لا بطولة، وشجاعة جوفاء لا تنطوي على معنى أصيل، ولا تهدف إلى تغيير جذري، ولا ترتبط برؤية شاملة للعالم، هدفها إحداث فرقعة لا غير، وصدمة المتلقي بلا مبرر حقيقي من الفن، والمباهاة الطفولية بكتابة ما لا يُكتب وما لا يضيف إلى الكتابة في الوقت نفسه. يحدث ذلك في الكتابة الرخيصة عن الجنس التي هي رغبة تجارية في إثارة الغرائز لا غير. ويحدث ذلك في الصراخ السياسي الذي يزخر باللعنات أو أقذع عبارات الهجاء، وينتهي أثره بمجرد تفريغ شحنة الانفعالات المكبوتة في صاحبه. ويحدث ذلك في الكتابة التي تدّعي هدف الإصلاح الاجتماعي، ولكنها سرعان ما تتحول إلى التنفيث عن كبت اجتماعي لقلم مهتز، لا ينجح سوى في بعثرة الاتهامات المجانية على الناس جميعاً بلا بصيرة أو تمييز. ويحدث ذلك، أخيراً، في الكتابة الأصولية التي تنبني على التعصب، وتقتات بالتطرف، وتتحرك بقلم لا يعرف سوى لغة القمع وممارسة العنف المعنوي في فعل الكتابة الذي سرعان ما ينقلب في تأثيره إلى فعل من أفعال العنف المادي والقمع الجسدي. ولا فارق في مضمون هذا النوع من الكتابة الأصولية التي يمكن أن ترفع شعارات دينية، أو شعارات سياسية تتراوح ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، فالمهم هو آليتها التي تنقلب معها الجسارة إلى تهور، والشجاعة إلى ما يشبه رغبة الانتحار، وفعل الكتابة إلى فعل لإقصاء الآخرين جميعاً وقمع المختلفين. ولذلك فهي كتابة عنف مجاني، لا غاية لها إلا الضرر الذي يلزم القمع والإقصاء، وتغليب الصوت الواحد الذي لا يوجد إلا باستئصال المختلف عنه أو المخالف له. أما الجسارة الإبداعية فهي الجسارة التي تمضي إلى أقصى حد، في شجاعة لا تعرف التردد، ومواجهة لا تقبل التنازل، مندفعة بقوة إيمانها بما تنبني علىه من دوافع نبيلة ومبادئ أصيلة، دوافع تسعى إلى الانتقال بعلاقات الواقع التي تناوشها الكتابة من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية، ومن ظلمة التعصب إلى استنارة التسامح، ومن الظلم إلى العدل، ومن التخلف إلى التقدم. وتهدف مبادئ هذه الجسارة إلى تغليب النسبي على المطلق، والسؤال الكاشف عن الإجابة النهائية، والوعي المتجدد على الوعي المتكلس، والحوار مع المختلف على استئصاله أو إقصائه، والأطر المرجعية للحاضر المتحرك إلى الأمام على الأطر التأويلية للماضي الذي يغدو قيداً. وهي دوافع ومبادئ متجاوبة في الفعل الإبداعي الذي يستبدل مبدأ الرغبة بمبدأ الواقع، والابتداع بالاتِّباع، والاختلاف الخلاّق بالإذعان الخانع أو التشابه الكسول، كما أنها دوافع ومبادئ تتبادل الموضع والهدف في الثورة على جمود الكتابة وجمود الواقع، وذلك بما يجعل من الفعل الجسور لتثوير الكتابة فعلاً لتثوير الواقع في الوقت نفسه، تحقيقاً لمعنى الكتابة نفسها من حيث هي فعل اكتشاف، وفعل تحرر وتجدد لا نهاية له. وللجسارة الإبداعية وسائل عدة ومسارب متعددة. تتجسد في الرواية على غير ما تتجسد في القصيدة. وحضورها في التأليف المسرحي غير حضورها في القصة القصيرة. وتجلياتها في الأدب غير تجلياتها في أنواع الفن المغايرة التي تشمل الموسيقى والنحت والرسم والعمارة، وغيرها من أجناس الفن التي لا تتميز إلا بما ينطوي علىه فعل الإبداع نفسه من جسارة تخلع علىه قيمة، وتفتح أمامه المغلق من مدارات الواقع التي يخشى الآخرون الاقتراب منها. وإذا كان تغير الاتجاه السائد في كل نوع من أنواع الفن يقتضي الجسارة التي تنقض الثابت، وتقوِّض الجامد، تحريراً لمجرى الإبداع من العوائق التي تحول بينه والتدفق، وفتحاً لمسارب جديدة للمتغير الذي ينقض ما هو من جنس العرف والعادة والوخم، فإن كل عمل إبداعي لا قيمة له من دون هذه الجسارة التي تؤسس لجدته، وتؤكد أصالته، خصوصاً من حيث هو كشف مغاير وتقدم واعد في آفاق الخبرة الإبداعية. وإذا كان فلاسفة الفن تحدثوا عن العلاقة بين أداة الفن ورسالته، مميزين بين النغم في حال الموسيقى واللون في حال الرسم والحجر في حال النحت والكتلة في حال العمارة والكلمة في حال الأدب، فإن حضور الجسارة يختلف باختلاف الأداة التي تتمايز بها الفنون، فهو في الموسيقى قرين التمرد على التوقعات، والمراوحة المستمرة المتوترة بين إشباع التوقع النغمي وإحباطه. وتبتدى الجسارة نفسها في العمارة ثورة في علاقات الكتلة من حيث صلتها بالفراغ، أما في النحت فتتصل بالجرأة على تغيير النسب بين عناصر الموضوع، والإطاحة بمبدأ المحاكاة الذي يرد قيمة التناغم النحتي إلى حرفية ما يعكسه من صور خارجية. شأن النحت في ذلك شأن الرسم، حيث الانتقال من محاكاة المنظور الخارجي إلى خلق منظورات جديدة، منظورات لا تستمد قيمتها من دقة تشابهها مع غيرها، بل من ثورتها على هذا التشابه، ومن قدرتها على جذب العين إلى نفسها من حيث هي تكوين مستقل، يستحق الاهتمام لذاته والتأمل في ذاته، ولا يعطي دلالاته إلا لمن ينسى مشابهته لغيره، ومن يصل المتناثر من عناصره في علاقات تعطي معنى مغايرا مع كل إدراك. والأمر نفسه في الأدب الذي عانى طويلاً من مبدأ المحاكاة، وثار علىه لا ليقطع صلته نهائياً بالواقع الذي يسعى إلى موازاته رمزياً، وإنما ليؤسس هذه الصلة في عدد لا نهائي من التوازيات التي قد تعصف بوهم مشاكلة الواقع، أو تعصف بالأسوار العالية التي تحول دون الغوص في محرمات هذا الواقع، أو تنطق المسكوت عنه من الكلام المكبوت أو المشاعر المقموعة، وذلك كله لنقل الانتباه من الأصل الحرفي إلى الصورة الجمالية، وتثوير علاقات الصورة الجمالية الجديدة بما يرد المتأمل فيها إلى موضوعها، خصوصاً بعد أن أتاحت له أن يرى ما لم يكن يراه من قبل. وما أكثر العوائق الخارجية والداخلية التي تحول بين الكاتب وممارسة جسارته الإبداعية. عوائق الخارج تشمل السلطة السياسية ومجموعات الضغط الاجتماعي والعلاقات البطريركية والكهنوت الديني الذي يشيع التعصب ويقضي على التسامح، خصوصاً حين تتزايد ظواهر الأمية ومظاهرها، وتشيع ثقافة الاتّباع لا الابتداع، فيغلب التقليد على العقول، ويغدو التجريب نوعاً من بدعة الضلالة المفضية إلى النار. ولا تقل عن السلطات السابقة في سطوتها، أو خطرها، سلطة من يغدون سدنة للإبداع، ممن يدعون حمايته من جسارة التجريب بدعوى الحفاظ على التقاليد والأعراف، وردّ الضالين من المبدعين إلى حظيرة التراث الذي ما ترك فيه السابق للاحق شيئاً. وتتضافر مع هذه العوائق الخارجية عوائق داخلية تترسب شيئاً فشيئاً داخل أعماق المبدع، وتتكاثف يوماً بعد يوم، مع كل فعل من أفعال القمع الذي يقع على الإبداع، باسم الدولة مرة، والمجتمع ثانية، والدين ثالثة، والهوية الثقافية رابعة، والحفاظ على تقاليد الفن أخيراً، فتكون النتيجة تراكم النواهي داخل المبدع، وتصاعد درجات الخوف التي تؤكد أشكال التنكيل التي يراها المبدع، جنباً إلى جنب ممارسات العنف الدامي التي تهدف إلى الاستئصال المادي والمعنوي للمبدعين المغايرين المتميزين بدرجات جسارتهم الحدِّية. وقد شهدت الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة من قمع المبدعين والمفكرين ما اقترن بطرد بعضهم من وظائفهم، أو تكفير بعضهم بما يقيم علىه الحد، أو اغتيال بعضهم، جنباً إلى جنب العقاب بالسجن من جانب الدولة، أو أحكام الفصل بين المفكر وزوجه من جانب مجموعات التطرف الديني. وبقدر محاولات المبدعين والمفكرين في زماننا ممارسة الجسارة الإبداعية في عملهم، نقضاً للثابت وتأسيساً للمتغير، كانت درجات أشكال القمع الواقعة علىهم، والتي كانت تمثيلاً بإبداعهم وتحويلاً لهم إلى مُثلة لمن يفكرون في اقتران فعل الجسارة نفسه. ولذلك أعلن يوسف إدريس، فيما يشبه الصرخة، إن كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتباً واحداً لممارسة فعل كتابته بالجسارة التي يحلم بها. وكان يوسف إدريس واعياً بالأسباب السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية التي تحول بين المبدعين وممارسة جسارتهم الإبداعية إلى المدى الذي يعصف بالمحرمات التي كادت تشمل كل شيء، والممنوعات التي يتسع مداها بالقدر الذي يتسع به مدى الاستبداد والتسلط مقروناً بالتعصب والتطرف على كل مستوى من المستوىات. وأغلب الظن أن يوسف إدريس كان واعياً بمعنى من المعاني بالجذور القديمة والأصول الراسخة للقمع في تراثنا، تلك الجذور والأصول التي أودت بحياة الكثيرين من المبدعين على امتداد العصور. وقد سبق أن ذكرت الأمثلة الدالة على ذلك في ما كتبته عن "بلاغة المقموعين" في تراثنا، كاشفاً عن الآليات القمعية الكثيرة التي أدّت إلى نشأة بلاغة هامشية في موازاة البلاغة السائدة، وبعيداً من هيمنتها الباطنية. وكانت "بلاغة المقموعين" تعبيراً عن مجموعات الهامش الاجتماعي والسياسي والثقافي المقموعة والممنوعة من الوصول إلى مركز الكتابة، كما كانت هذه البلاغة محاولة لإنطاق المسكوت عنه من الرغبات المقموعة والمطامح المكبوتة والآماني المحبطة. ولم تجد هذه البلاغة ما يتيح لها ممارسة جسارتها الخاصة في التعبير إلا بالتباعد عن المركز، ومراوغة أجهزته الرقابية، وتضليل الحراس الذين وضعهم لحماية ثقافة التقليد والاتِّباع والإذعان السائدة. ولذلك اقترنت "بلاغة المقموعين" بحيل الرمز والتورية، وتقنيات التمثيل المراوغ واللحن الملتبس، فضلاً عن الاستعارة التي تخفي أكثر ما تبدي، مقترنة بازدواج الكلام الذي يومئ إلى المراد، والسخرية التي تنزع براثن القمع، خصوصاً في اقترانها بالنكتة التي تبعث عن الابتسام والتهكم الذي يغري بالمتابعة. ولم تنتهِ "بلاغة المقموعين" مع انتهاء أزمنة التراث، بل استمرت في أزمنتنا الحديثة والمعاصرة، تتصاعد كلما تصاعدت درجات الاستبداد السياسي والتعصب الديني والجمود الاجتماعي والتقليد الثقافي والوخم الفكري، فتتيح لجسارة الإبداع نوعاً من التحقق المراوغ الذي هو أفضل من الخنوع للموت الإبداعي، وأفقاً للتعبير الذي ينطق المسكوت عنه بحيل الرمز وتقنيات التورية وألاعيب التمثيل. وكانت الجسارة هي الدافع لاستمرار هذه البلاغة، وتتابع أعمالها التي جمعت محاولات يحيى حقي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس في "صح النوم" و"أولاد حارتنا" و"بنك القلق" و"العسكري الأسود"، كما جمعت ما كتبه أمثال جمال الغيطاني والطاهر وطار وسعد الله ونّوس في "الزيني بركات" و"عرس بغل" و"النيل يا ملك الزمان" وعشرات غيرها من الأعمال التي لا يزال يكتبها مبدعو الأدب، ممارسة لجسارة الكتابة التي تسعى إلى انطاق المسكوت عنه، وتعرية المنهي عن كشفه وتصويره، وتجديداً لتقنيات الكتابة التي لا بد من تغيير عدساتها مع تغير المشاهد وزاوية النظر. ولكن عواقب هذا النوع من البلاغة لا تتيح انتشاره، فيظل قرين الهامش الذي يبقى فيه ما ظل معادياً لكل ما يقترن بالمركز من جمود وثبات وتقليد واتِّباع، كما يبقى المركز معادياً له، حريصاً على نفيه أو استئصاله، إذا لزم الأمر، ما ظل مواصلاً ما ينبني به من لوازم التجريب والجسارة. ولذلك تبقى جسارة الكتابة قرينة التجريب في ندرة تحققها الأصيل الخلاّق على امتداد ثقافتنا السائدة، ويظل الممارسون لجسارة الكتابة والمواصلين لفعل الجسارة في غير تردد أو تحول أو نكوص أو انقلاب في المواقف أندر من الكبريت الأحمر في ما يقال، فجسارة الكتابة فعل لا يقل في خطره عن التجريب من حيث احتمالات التعرض لبراثن القمع بكل أشكالها، والعاقل من ألجم فاه بلجام، أو اختبأ وراء التباس المجاز ومراوغة الأقنعة، لئلا تفضي به جسارته إلى حتفه. لكن شعلة الجسارة الكامنة في المبدع الحقيقي لا بد من أن تضيئ بين الحين والحين فيما يشبه انفجار الضوء، فلا بد للمصدور من أن ينفث كما قال العرب قديماً.