لم يخل خطاب للرئيس الاميركي، على مدى أكثر من عام، من التشديد على أهمية نشر الحرية والديموقراطية في الشرق الاوسط. لكنه، الى جانب الشعارات التي رفعها، لم يفعل الكثير، أقله حتى الآن، لجهة مساعدة شعوب تلك المنطقة المنكوبة... بل يمكن القول، وبكل ثقة، ان اكثر ما فعله، خلال فترته الرئاسية الاولى، هو توفير ذخيرة للقوى التي تعمل في الاتجاه المعاكس، والتي يدعي انه يسعى لإضعافها في خدمة تيار الاصلاح والتحديث... الخ. إلا ان جورج بوش يبدو مقتنعا، لأسباب عدة ليست واضحة تماما، بأن الحل لمشكلة الإرهاب الدولي، وغالبيته صادر عن منطقة الشرق الاوسط، هو في نشر الحرية والديموقراطية. وقالها اكثر من مرة، وبأكثر من طريقة: الديموقراطية هي الطريق الى نبذ العنف وهي سبيل الخلاص من التطرف والارهاب، وهي الطريق الوحيدة لإعطاء الامل للشعوب بإمكان بناء مستقبل افضل. بل ذهب ابعد من ذلك عندما اعترف بأن سياسات اميركا والعالم الغربي في الشرق الاوسط، على مدى الاعوام الستين الماضية، والتي استسهلت التحالف مع أنظمة لتحقيق مصالح آنية، كانت سياسة خاطئة باتت اميركا والعالم يدفعان ثمنها. وتعهد بوش الانقلاب على تلك السياسة واصلاح اخطاء الماضي، لتحقيق مصلحة اميركا، في ظل الوعي الجديد لطبيعة هذه المصلحة، وهو ما يتوجب، ربما، ان يُشكر عليه المسؤولون عن اعتداءات 11 ايلول! على اية حال، القى بوش خطبه"التاريخية"عن الديموقراطية، ومورست ضغوط على الدول العربية المعنية للإسراع في عملية"الدمقرطة"، والبدء بتطبيق اصلاحات. وبالفعل، استجابت الدول العربية بتقديم"مبادرات"الى الجامعة العربية، وارسلت نصوصا حول تلك المبادرات الى واشنطن، وأعلنت تبنيها"خططا"للإصلاح في القمة العربية التي انعقدت في تونس على رغم ان الزعماء لم يوقعوا عليها، وتم البحث في الموضوع بتعمق مع المبعوثين الاميركيين، والمسؤولين الاوروبيين. و... انعقدت قمة الدول الصناعية الاكثر تقدما في صيف العام الماضي، وتبنت القمة مشروعا توفيقيا لنشر الديموقراطية في المنطقة، بالتنسيق مع الدول المعنية، تحت شعار الشراكة من أجل المستقبل في الشرق الاوسط وشمال افريقيا... ولكن ماذا حدث منذ انعقاد مؤتمر قمة الثماني الكبار حتى اليوم؟ تم انتخاب بوش لولاية رئاسية ثانية، وجرت انتخابات رئاسية فلسطينية تحت رعاية الاحتلال الاسرائيلي، ويجري التحضير لانتخابات عراقية تحت الرعاية الاميركية. هل من انتخابات اخرى في الشرق الاوسط وشمال افريقيا تجري هذا العام، او العام المقبل، او الاعوام المقبلة؟ صحيح ان خطة"دمقرطة"الشرق الاوسط وشمال افريقيا، التي نجح الاوروبيون في تمييعها الصيف الماضي، كما كانوا ميعوا الشراكة الاوروبية - المتوسطية 1995، لا تملك، حتى الآن، آليات للتطبيق. الا ان البيت الابيض"سرب"للإعلام أن الرئيس بوش يعكف حاليا على قراءة كتاب الوزير الاسرائيلي وداعية حقوق الانسان السابق، ناتان شارانسكي، والذي يحمل عنوان"حجة او مرافعة من اجل الديموقراطية". وكأن البيت الابيض لم يعثر، في تاريخ البشرية كلها، على داعية للحرية والديموقراطية، سوى شارانسكي الاسرائيلي، ليصبح كتابه"دليل"بوش للديموقراطية في العالم العربي. لماذا لم يخطر على بال بوش، مثلا، ان يقرأ"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"لعبدالرحمن الكواكبي؟ لعله لم يعثر على نسخة مترجمة الى الانكليزية، او ربما لأن زعيماً او وزيراً او سفيراً عربياً واحداً لم يقدم له نسخة مترجمة عنه. لن يقرأ بوش كتب الكواكبي، او خير الدين التونسي، او محمد عبده، او جمال الدين الافغاني... فالتاريخ يكتبه ويقرؤه المنتصرون. وما لم يقرأ العرب كتب مفكريهم العظام، اقله ليعرفوا اسباب هزيمتهم، فلن يقرأها الآخرون. ويبقى بوش امام خيارين: إما ان يقرأ ناتان شارانسكي، او اسامة بن لادن.