عندما بدأ ايهود باراك رحلته الى كامب ديفيد لم يكن في حاجة الى من يدله إلى طريق التشدد، فهو يعرفه حق المعرفة طالما انه، كما وصفه بعض المستشارين المقربين اليه، "صقر امني" وكما ظهر من خلال اللاءات الكثيرة التي تزايد عددها مع الاقتراب من القمة المرتقبة. الا ان باراك سار خطوات ابعد على طريق التشدد بعد الموقف الذي اتخذته الاحزاب الثلاثة: "الحزب القومي الديني"، حزب "شاس" وحزب "صعود اسرائيل" وذلك عندما اعلنت معارضتها لأي تنازل جدي يقدمه باراك للفلسطينيين. هذا الموقف اثر في الوفد الاسرائيلي المفاوض تأثيراً مزدوجاً. فهو، من جهة، حد من قدرة باراك على المناورة وعلى تقديم التنازلات حتى ولو كان المقصود منها الحصول على تنازلات اكبر بكثير من الفلسطينيين. من جهة اخرى، قدم موقف الاحزاب الثلاثة العذر الى باراك لكي يبدي المزيد من التصلب. ففي ظل الموقف الذي اعلنته الاحزاب الثلاثة بات من السهل على باراك ان يقول للفلسطينيين وللاميركيين: اذا قدمت تنازلات جدية فإن حكومتي ستتعرض للانهيار ومعها كامب ديفيد وعملية السلام. في الحالين، كانت نتيجة الموقف الذي اتخذته الاحزاب الثلاثة المزيد من التصلب الاسرائيلي والمزيد من الضغط على الفلسطينيين لكي يتنازلوا عن حقوقهم الوطنية المشروعة. اتخذت الاحزاب الثلاثة المشتركة في حكومة باراك ذلك الموقف المغالي في تشدده بتأثير ناتان شارانسكي زعيم حزب "صعود اسرائيل". فشيرانسكي كان اول الذين اعلنوا انهم سوف يستقيلون من الحكومة لان باراك سوف يحضر قمة كامب ديفيد. وشارانسكي هو الذي نقل معارضة كامب ديفيد الى الشارع الاسرائيلي عندما نظم مهرجاناً قال فيه ان باراك لا يملك الحديث باسم الاسرائيليين طالما انه ليس هناك بينهم اجماع حول القضايا التي سوف تتطرق اليها القمة. بعد المواقف التي اتخذها شارانسكي كرت السبحة فأعلن الحزب الديني القومي موقفاً مماثلاً تجاه القمة، وتبعه حزب شاس وصولاً الى ديفيد ليفي، وزير الخارجية الاسرائيلي الذي اعلن امتناعه عن مرافقة رئيس الحكومة الى القمة، وبقي في اسرائيل يدغدغ مشاعر التطرف والتعنت لدى المستوطنين الاسرائيليين. رأي ناتان شارانسكي في مفاوضات كامب ديفيد يستحق وقفة خاصة، ذلك ان شارانسكي بدأ حياته السياسية كشخصية عالمية قبل ان يتحول الى زعيم لحزب سياسي اسرائيلي. ولقد اكتسب شارانسكي تلك المكانة العالمية عندما كان مواطناً في الاتحاد السوفياتي السابق، وبسبب النشاط العملي الذي قام به في تلك المرحلة والمواقف التي اتخذها تجاه الدولة السوفياتية والتأييد الكبير الذي لقيه في دول الغرب من جراء ذلك النشاط. من هذه الزاوية فان موقف شارانسكي اليوم من "عملية السلام" الفلسطينية - الاسرائيلية لا يوضح موقفه كزعيم سياسي اسرائيلي من قضايا الصراع العربي - الاسرائيلي فحسب، بل يسلط بعض الضوء على مواقف الحركة الصهيونية وموقف بعض الاوساط الغربية المؤيدة لها تجاه عدد من القضايا التي تواجه المجتمع الدولي بصورة عامة. برز اسم ناتان اناتول شارانسكي عندما اعلن في موسكو خلال عام 1976 عن تشكيل هيئة مستقلة لمراقبة تنفيذ اعلان هلسنكي. وكان هذا الاعلان صدر باسم الدول الاوروبية بما فيها الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية خلال صيف عام 1975. وتضمن الاعلان تأكيد التزام دول اوروبا جملة مبادئ تعلقت بأمرين رئيسيين: تطوير العلاقات بين دول القارة واحترام حقوق الانسان. في هذا السياق اكد الاعلان "ان الدول الموقعة عليه سوف تحترم المساواة بين الشعوب وحقهم في تقرير مصيرهم وذلك وفقاً لما جاء في ميثاق الاممالمتحدة ومبادئ الشرعية الدولية". ولقد جاء الاعلان، من هذه الناحية، ومن نواح اخرى، متجاوباً مع تطلعات اوساط متعددة في اوروبا وفي الاتحاد السوفياتي، لذلك بادر عدد من المواطنين السوفيات المعنيين بقضايا حقوق الانسان الى تشكيل تلك الهيئة. وكان ناتان شارانسكي واحداً من هؤلاء، الا ان اسمه برز بسرعة عام 1978 عندما حكم عليه بالسجن لمدة 13 عاماً بتهمة التجسس لمصلحة الولاياتالمتحدة بعد ان ادلى بتصريحات الى صحف اميركية. احتل اسم شارانسكي اهمية كبرى في الاوساط الغربية حيث بات يتردد جنباً الى جنب مع شخصيات سوفياتية بارزة مثل العالم البارز زاخاروف، وسولجنتسين. شارانسكي المتخصص في الكومبيوتر، لم يكن يملك علم الاول ولا مكانة الثاني في الادب والفكر. كما انه لم يكن اكثر شجاعة واقداماً في الدفاع عن قضايا الحريات في الاتحاد السوفياتي من غيره من العاملين في هذا الحقل مثل د. اندري تفيردوخليبوف مسؤول لجنة العفو الدولية الذي حكم عليه بالسجن والنفي الى سيبيريا، او مصطفى عبدالجميل الاوزبكستاني الذي حكم عليه بالسجن بسبب نشاطه في الدفاع عن قضايا الاقليات القومية او موسى محمود الذي احرق نفسه في وطنه في القرم احتجاجاً على حرمانه حقوقه المدنية. الا ان شارانسكي تميز عن هؤلاء بصلته الحميمة بالمنظمات الصهيونية وبتركيزه على قضية هجرة اليهود السوفيات الى اسرائيل. العلاقة بين شارانسكي والمنظمات الصهيونية كان لها الدور الاهم في تبني اوساط غربية كثيرة لقضيته. فعقب الحكم عليه نددت وزارة الخارجية الاميركية بهذا القرار. كما اعلن الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر ان ما يصيب شارانسكي يعد بمثابة اعتداء على كل انسان يعتنق مبادئ الحرية. واعلن ديفيد اوين وزير الخارجية البريطاني بدوره ان بلاده لن تستقبل بعد الحكم على شارانسكي اي وزير سوفياتي. كذلك اعلن وزراء خارجية دول السوق الاوروبية ان على شارانسكي يخالف مبادئ اعلان هلسنكي. وبدت ردود الفعل الغربية على الحكم بالسجن على شارانسكي عنيفة الى درجة حملت صحيفتي اومانيتيه الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الفرنسي واونيتا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الايطالي على الانضمام الى منتقدي الاحكام القضائية السوفياتية. لبثت قضية شارانسكي موضع اهتمام بالغ في الغرب واستمر الضغط من اجل الافراج عنه حتى اثمر عام 1986 عندما عقد الزعيمان الاميركي جورج بوش والسوفياتي ميخائيل غورباتشوف قمتهما في جنيف فكان من نتائج تلك الاتفاق على الافراج عن ناتان شارانسكي. توجه شارانسكي بعد الافراج عنه الى اسرائيل، وهناك ظهر المنشق السوفياتي السابق بعيداً كل البعد عن "اعلان هلسنكي". فلقد اسس شارانسكي حزب "صعود اسرائيل" الذي اعترف للفلسطينيين بحقهم في الحكم الذاتي، ولكنه لم يعترف لهم بحق تقرير المصير، ولا بالحق في اقامة دولة مستقلة فلسطينية. كذلك اعتبر الحزب الجديد ان القدس هي عاصمة اسرائيل فحسب وانه لا يجوز اعتبارها قضية تفاوضية. وألقى شارانسكي المدافع السابق عن حقوق الانسان بثقله الى جانب غلاة المتطرفين الاسرائيليين. وبفضل هذا الموقف تمكن حزب ليكود من اجتذاب القسم الاكبر من اليهود المهاجرين من الاتحاد السوفياتي السابق بعيداً عن حزب العمل وميريتز. وعندما تشكلت حكومة بنيامين نتانياهو كان شارانسكي واحداً من نجومها. وعندما خرج منها الوزراء الاقل تطرفاً مثل دان ميريدور واسحق موردخاي وغيرهما لاسباب كان من بينها انهم لم يستطيعوا مجاراة رئيس الحكومة في موقفه السلبي والمراوغ تجاه "عملية السلام"، بقي شارانسكي في الحكم من دون ان يأبه لذلك النوع من الاعتراضات على سياسة الحكومة، بل انه اصبح، على العكس، جنباً الى جنب مع نتانياهو واحداً من الاربعة الرئىسيين في الحكومة، والاقرب الى عقل رئيسها وقلبه. بعد الانتخابات الاسرائيلية التي جاءت بحزب العمل مع حلفائه الى الحكم، دخل شارانسكي الحكومة ولكن لكي يستمر في العمل وفقاً للاجندة نفسها التي التزم بها منذ ان وطأ اسرائيل، اي تثبيت الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية وتوسيع دائرة الاستيطان الاسرائيلي في الضفة الغربية وتشجيع المهاجرين الروس على الانتقال الى المستوطنات الجديدة. وفي موقعه الجديد كوزير للداخلية توافرت لدى ناتان شارانسكي امكانات مهمة لم يتردد في استخدامها لتحقيق هذا الغرض. وفي هذا السياق وخوفاً من ان تحد اتفاقية شرم الشيخ التي عقدها ايهود باراك مع ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية، صوت شارانسكي ضد الاتفاقية عندما عرضت على مجلس الوزراء الاسرائيلي في ايلول سبتمبر من العام الفائت. سيرة ناتان شارانسكي تشبه في اكثر فصولها قصة الحركة الصهيونية. فهو يدافع عن حقوق الانسان في الاتحاد السوفياتي ويطالب بتطبيق الحق في تقرير المصير هناك. اما في فلسطين فانه يتنكر على خط مستقيم مع هذا الحق ويقف في الخطوط الامامية من حركة ناشطة لحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية والانسانية، اي تلك الحقوق التي اقرها من دون تردد اعلان هلسنكي وميثاق هيئة الاممالمتحدة التي استند اليه. وردة فعل بعض الاوساط الغربية على سلوك شارانسكي تشبه ردة فعلها على ما فعلته الحركة الصهيونية في فلسطين. فلقد امد شارانسكي بكل شكل من اشكال الدعم، وحوله من منشق سوفياتي عادي الى بطل عالمي واسطورة ورمز ولعب دوراً رئيسياً في اطلاقه وتمكينه من السفر الى اسرائيل واحتلال موقع رئيسي في حياتها السياسية. وهذه الاوساط التي هزها في السابق "الاضطهاد السوفياتي لمنشق يدافع عن اعلان هلسنكي" تسكت اليوم سكوتاً مطبقاً عن تحول شارانسكي الى بطل للاستيطان الاسرائيلي في الضفة الغربية والى رمز للعدوان المبرمج على حقوق الشعب الفلسطيني. فلا يخطر على بال جيمي كارتر او جورج بوش او ديفيد اوين او غيرهم من القادة الغربيين الذين خاضوا معركة الافراج عن ناتان شارانسكي تذكيره بمبادئ "اعلان هلسنكي"، ولا يخطر ببالهم حثه على مراعاة حقوق الانسان الفلسطيني. ولعله في حساب هؤلاء انه ليس من تناقض بين ان يعمل المرء من اجل نصرة الصهيونية في الاتحاد السوفياتي السابق او في فلسطين. ألم يقل لورد بلفور صاحب الوعد الشهير الذي اعطته بريطانيا الى الصهاينة "ان الصهيونية بتقاليدها الفكرية واهدافها النبيلة هي التي تستحق الدعم والتأييد وان هذا التأييد لن يتوقف مراعاة لمشاعر بعض الفلاحين الفلسطينيين البسطاء"؟! * كاتب وباحث لبناني