أربعون عاماً مرت على موت الشاعر والمريض والعراقي بدر شاكر السياب، والسجال حوله قائم. فُتِنّا باسمه وبشعره شباناً ولم نتخلَّ عن قراءته التي تزيدنا متعة كلما تقدم بنا العمر. وأحسب أن شعره سيظل يصاحبنا حياتنا كلها بعد أن خرج من حدود معاييرنا النقدية واكتسب نظرة إليه ترقى إلى تلك النظرة إلى الآداب الكبرى في حياة الشعوب. ما الذي فعله السياب في الشعر العربي؟ سؤال قد يكون جوابه الواضح عند رفاقه الأوائل الذين اتبّعوه كصاحب رسالة لم يعرف أن يكون أستاذ أحدٍ مّا قط في الحياة، على رغم أن بعضهم حاول في ما بعد سرقة الجهد الفني والتاريخي كله. لكن لنحاول الإجابة، إجابتنا، إجابةَ أجيال لاحقة تكوَّن لها منظور زمني كاف وحافل بالبحث وتتبعِ الامتداد الفني والتاريخي للإنجاز الشعري الذي جاءت به رسالة بدر.رسالة بدر كانت تغيير الشعر العربي الموروث من القدم وتكوين شعر جديد. وقد تحقق هذا حقاً وها إن العرب من المغرب إلى بغداد يكتبون شعراً جديداً موزوناً أو متخلياً عن الوزن. وفي هذا كُتِبت الكتب ونوقشت الأطاريح الجامعية. ولكن على أهمية ما تحقق، وهي أهمية بالغة في تاريخنا العربي، فإن بدراً جاء بأمر مهم آخر هو: الصوت الشعري الشخصي الذي بدأ يتكون معه بيتاً بيتاً، قصيدة قصيدة. وانتقل منه إلى رفاقه كلهم ممن رافقوه في البدء أو ممن لحقوا به متأخرين عدداً من السنوات. لم نملك صوتاً شعرياً واضحاً وكاسحاً قبل صوت بدر. لم نتعرف إلى الصوت الشخصي لجبران واضحاً في شعره العربي قدرَ تعرفِنا إلى صوتٍ مّا كونته لنا معانيه في مؤلفاته النثرية الموضوعة والمترجمة، كان الجواهري"فرخ المتنبي"كما يقول عن نفسه وفرخ آباء آخرين كما قلت عنه قبل أسابيع قد وجد في تقربه إلى الأصل الأول روحاً له، وكان لشوقي آباء لا يحصون فيضيع في هوية تقليدية عامة، وهذا ما نقوله عن شعراء كبار مثل الياس أبي شبكة والرصافي وعلي محمود طه... إلخ. فلم يمتلك أحد منهم الصوت الشخصي تماماً. كانوا شعراء مجيدين لكنهم كانوا أسرى شكل الشغل الشعري في قرونه كلها وأسرى معانيه في الحال الأعم. فكانت أصواتهم الشخصية تضيع بين أصوات الشعراء وأشباح الشعراء الذين أبرزهم التاريخ والذين يخفيهم التاريخ في مكان مّا منه أيضاً. وكان السياب ابنهم وابن آبائهم كلهم. لكنه كان يؤسس شعراً جديداً، فكان التأسيس نفسه يكوّن له صوتاً شخصياً جديداً تصاحبه فيه - إضافة إلى موهبة نادرة - المهارة الشخصية والتراجيديا الشخصية والظرف الموضوعي العام. صوت بدر هو صوت شعري أول في الشعر الحديث وصوتٌ أبٌ تشظى في الشعراء العرب كلهم. وقد لا يسع المجال لهذا الكلام أن يكون بحثاً مدرسياً عن هذا التشظي كله بمثال عربي عام فأكتفي بشيء من مثاله العراقي. لا نملك في الشعر العراقي الذي وُلِدَ بعد تجارب بدر أصواتاً كثيرة. نملك شعراء كثيرين، خرجوا من صدى صوت بدر. لم يستقلّ بصوته الشخصي، في ما بعد، إلاّ عدد قليل من الشعراء. في ذهني الآن ثلاثة، تداخلت أصواتهم الشعرية في ما بينها كثيراً، هم: عبدالوهاب البياتي 1926-2000 وسعدي يوسف 1934 وحسب الشيخ جعفر1942. كتب البياتي أول أربع قصائد له من الشعر الجديد تقلد السياب كلها في"أباريق مهشّمة"الصادر عام 1954، وكتب سعدي أول قصيدتين له من الشعر الجديد في ديوانه"أغنيات ليست للآخرين"الصادر عام 1955 مؤرختين بعام 1953، الأولى"غضب حزين"لا علاقة وطيدة لها بتجربة البياتي، والثانية"تخطيط أوّلي عن حصار غرناطة"وهي قريبة من شعر البياتي اللاحق، واذا ثبت تاريخياً أن سعدي كتبها قبل أن يكتب البياتي شعراً حديثاً نكون حقاً أمام نكتة نقدية ثبِّتتْ بحيل مرةً وبغباء مرةً أخرى في النقد العراقي. ممّا يستدعي معها ومع القصيدة الأولى وقفة لترتيب الرأي النقدي القائل بتبعية سعدي في البدء للبياتي. لقد اشتبكت تجربتا البياتي وسعدي في الدواوين الأولى كثيراً قبل أن تنفصلا عن بعضهما بعضاً. وتعلقت تجربة حسب الشيخ جعفر بتجربة البياتي حد التأثر الواضح، وبحدة أقل بتجربة سعدي، قبل أن تنفصل عنهما الإنفصال المعروف فنياً في الشعر العراقي، بل ان البياتي وسعدي، تأثرا بتجربة"حسب"في بعض قصائدهما لاحقاً. لا تُقرأ تجربة التجديد في الشعر العراقي في البدء من دون انتباه قوي إلى العروض، فقد كان الشغل الأول شغلاً عروضياً في الدرجة الأساس، وتأسيساً لعروض جديد للشعر العربي. كان السياب يجرب في العروض من بحر إلى آخر، ليخلق عروضاً للشعر الحديث، وكان الآخرون متأثرين لا محالة بما يفعل. قصائد البياتي الأربع - كلها من بحر الكامل - في ديوانه الصادر عام 1954 كانت تقليداً لقصيدة السياب"في السوق القديم"المكتوبة عام 1948 والتي كانت من بحر الكامل. يبدأ السياب قصيدته البداية الآتية: الليل، والسوقُ القديم / خفتتْ به الأصواتُ إلاّ غمغمات العابرين / وخطى الغريبِ وما تبث الريح من نغم حزين". ويبدأ البياتي قصيدته:"سوق القرية"- لاحظوا العنوان - البداية الأتية:"الشمسُ، والحمر الهزيلةُ، والذباب / وحذاء جنديّ قديم". ويبدأ البياتي قصيدته:"القرصان"- لسعدي قصيدة من الشعر العمودي، بالعنوان ذاته، وهي كتابه الشعري الأول، وقد صدر عام 1952 - البداية الآتية: "غليونه القذر المدمّى والضباب، / وكوة الحان الصغير". ويبدأ قصيدته"الأفّاق"البداية الآتية:"سكتت وأدركها الصباح، وعاد للمقهى الحزين". ونقرأ في القصيدة الرابعة"مسافر بلا حقائب"من بين شواهد عدة فيها:"مستنقع التاريخ والأرض الحزينة والرجال / عبر التلال". هذا يعني أن البياتي جاء إلى الشعر الحديث عندما كان السياب أنجز قسطاً وافراً من رسالته، ولنتذكّرْ هنا أمراً آخرَ، هو أن السياب كتبَ في العام 1954 قصيدته"أنشودة المطر"وهي من بحر الرجز، ليُدخِلَ هذا البحرَ في الخدمة فعلياً حاله حال البحور الأخرى كالرمل والكامل والمتقارب والمتدارك... إلخ. و"أنشودة المطر"تمثل مرحلة فنية متطورة في الشعر الحديث كما نعرف جميعاً. ويبدو سعدي في قصيدتيه اللتين أشرت إليهما سيابياً في الأولى وسيابياً وبياتياً في الثانية، وللتدليل على بياتيته، نقرأ من الثانية"تخطيط أولي عن حصار غرناطة"، وهي قصيدة من بحر الكامل، كتبت عام 1953 في بغداد كما يقول ديوان"أغنيات ليست للآخرين":"رمياً! وتنطلق السهام / رمياً! ويسقط قائد الأعداء تسحقه الخيول". ولكن ماذا لو أنّ سعدي كان كتب قصيدته هذه قبل أن يقرر البياتي دخول الشعر الحديث؟ سنؤخر الجواب قليلاً. أمّا قصيدة"غضب حزين"التي هي من بحر الرمل فهي تعلن انتماءً واضحاً الى بدر:"لا تعودي / غَضِبَ البحرُ وجرحي / والرياح". وفي هذه القصيدة يشذ سعدي في التقنية قليلاً عن غيره، لكن لا أحد على حد علمي قد انتبه إلى ما فعل. لننتبه كيف تنتهي القصيدة:"واحتواني المعبر المظلمُ، والنهر ُالبخيل / شاحب الأمواجِ..."، ألحانُ مضاء / ثمّ أغمضت عيوني / والرذاذ... فقد جاءت الرذاذ وحيدة من دون قافية شبيهة سابقة، وفي الأعراف الشعرية لعام 1953، كان هذا الأمر خروجاً ما. انك لا ترى البياتي في هذه القصيدة ، لكنك كنتَ رأيتَه في القصيدة الأخرى والتي قد تكون سابقة على البياتي...! سيكون لزاماً علينا هنا أن نتذكر على الدوام الصوت الأصل، صوت بدر شاكر السياب المتشظي في الشعراء. وأن البياتي الذي رأيناه في سعدي قبل أن يكتب البياتي شعراً حديثاً إنما كان صوتاً متفرعاً من الصوت الأول: صوت بدر. وينسحب الأمر ذاته إلى حسب الشيخ جعفر، الذي أخذ صوته الشعري من البياتي مباشرة. نقرأ له في قصيدة"الكهف القديم"من الرمل من ديوانه"نخلة الله":"أيها الكهفُ القديم / ها أنا أعوي على بابك كالذئبِ، طريداً أستجير / ها أنا في نزعِ الروح الأخير / في يدي النارُ التي تنفخُ روحاً في الهشيم". غير أن استقلاله سيتم لاحقاً عندما يبدأ الكتابة الشعرية المدوّرة، نقرأ له في الرباعية الأولى"وهي من الرجز"من ديوانه"الطائر الخشبيّ":"الزمنُ اليابسُ يا حبيبتي كالقشّ في أصابعي. أرتجفتُ مثلَ الوتر المشدودِ في انتظار لون الثوبِ. وامتلكتُ في وجهكِ خفق النورسِ الغريقِ. وارتحلتُ في انزلاقةِ اليدينِ حتى العروة الأخيرة. اتكأتُ في الظلّ على انحناءة الشفاهِ. هل أتركهُ ينصبّ كالجدول؟"فرَّ الشَّعرُ الثقيلُ كالنهر". لقد دوّر حسب الشيخ جعفر صوته المأخوذ مباشرة من البياتي، فامتلكه مستقلاً بموهبة ومهارة شعريتين، شخصيتين. اذاً نحن هنا أمام حركة تنقلية للصوت الشعري الأول من شاعر إلى آخر، لكنها حركة صعبة وقاسية. فبمقدار ما تقتل التفرد الشخصي للشعراء وتجعلهم أشبه ببغاوات تردد صوت شاعر واحد فذ، فإنها في الوقت نفسه قد تستقر في صوت شاعر بحُنوّ وتأخذ بيديه لامتلاك صوته الشخصي لاحقاً كما حدث مع البياتي وسعدي وحسب... عندما تتوافر الموهبة والمهارة الشعريتان، الشخصيتان. لقد أدركت الحداثة الشعرية العراقية كل هذا وهي تشق الطريق الجديد في الشعر العراقي. واحتفظت لهذه الأصوات بالتحية، والاستذكار بما يُشبه التكريم في كل خطوة خطتها وتخطوها في طريقها الطويل.