كان قدر الشاعر محمود البريكان أن يُقتل في بغداد غداة سقوط نظام البعث حتى يذيع اسمه ويخرج من عزلته الطويلة، ولكن الى عزلة أشد هولاً هي عزلة الموت. هذا الشاعر الذي مات طعناً بخنجر احد لصوص بغداد كان ينتمي الى جيل بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري مع انه يصغرهم نحو خمس سنوات ويكبر سعدي يوسف ويوسف الصائغ بضع سنوات. لكنّ انتماءه الى جيل الرواد زمنياً وشعرياً لم يعن يوماً - على الأقل عربياً - انه واحد من كبار هذا الجيل وربما أكبر من البياتي والحيدري ناهيك ببعض الرواد العرب الذين احتلوا مرتبة الصدارة. فمزاجه الشعري ومسلكه دفعاه الى الانسحاب من المعترك الحداثي المتجلي حينذاك في ثورة التفعيلة والشعر "الحر". علاوة على أنفته من الظهور و"نفوره من النشر" بحسب عبارة السيّاب الذي وصفه قبل عقود وتحديداً في العام 1957 ب"الشاعر العظيم" ولكن "المغمور". وأضاف قائلاً: "سأحاول بذل كل جهد لاخراجه من صمته ليتبوّأ المكانة اللائقة به". هكذا انسحب البريكان من السجال الحداثي أو "التفعيلي" بالأحرى وراح يصنع شعريته الحديثة شبه وحيد، بعيداً من أي همّ جماعي أو تيار حزبي أو هاجس "بطولي". رفض طيلة حياته أن ينشر دواوين وكتباً مكتفياً ببعض الاطلالات الصحافية ومعظمها داخل العراق ولا سيما في المراحل الأخيرة. وقيل ان ديوانه صدر في بغداد ولكن لم يشر اليه أحد من الذين جمعوا مختارات من شعره. وقد يتضح مثل هذا الأمر عندما يتصدى أحدهم الى كتابة سيرته، ان كان له من سيرة. فهذا الشاعر "الزاهد" والمنسحب تكاد قصائده تختصر سيرته الشبيهة بسيرة شاعر "غريب" كما يصف نفسه مراراً عبر من هنا من دون أن يترك إلا أثراً واحداً هو الأثر الشعري. عندما قتل محمود البريكان قبل سنة أو أقلّ مرّ خبر مقتله البشع من غير اهتمام لافت. فما كُتب عنه كان قليلاً جداً ومعظم الذين كتبوا هم من العراقيين الذين عرفوه وقرأوا له. كان اسمه شبه مجهول وخصوصاً في ذاكرة الجيل الجديد، وشعره شبه مفقود ومبعثر ووقفاً على "مختارات" يتيمة عربياً كان وضعها الشاعر العراقي عبدالرحمن طهمازي وصدرت لدى دار "الآداب" في بيروت عام 1989. وكان يجب فعلاً بُعيد وفاته تسليط الضوء عليه، هو الشاعر الذي يقال عنه كبيراً بلا تردد وبخاصة في جيل الرواد العراقيين الذي انتمى اليه ولم ينتم اليه في الحين عينه. ولعل هذا ما فعلته دار الجمل في إصدارها مختارات جديدة له في عنوان "متاهة الفراشة" أنجزها اختياراً وتقديماً الشاعر العراقي باسم المرعبي. الاحساس الأول الذي يخامر قارئ محمود البريكان للمرة الأولى هو فرادة هذا الشاعر في صوته الخفيض وجوّه السوداوي ونزعته الميتافيزيقية وطابعه "السكوني". ويلحظ القارئ ان الشعر الذي يقرأه بعيد كلّ البعد عن الهمّ السياسي والبعد الايديولوجي اللذين طالما شغلا الكثير من الشعر العربي الحديث ولا سيما في المراحل الحاسمة، ثوراتٍ وهزائم. كأن الشاعر عاش في عزلة عن الواقع السياسي وعن الحياة الحزبية التي جذبت معظم الشعراء العراقيين وكذلك عن الحركات الجماعية. وفي هذا المنحى يقول البريكان في أحد أحاديثه النادرة: "لم اتلاءم مع مطالب الوسط الأدبي لا سابقاً ولا لاحقاً...". وإن كان البريكان من الشعراء الذين لا يؤثرون "التنظير" ولا الكتابة عن الشعر فهو يختصر "شعريته" في حوار ربما يتيم أجراه معه الشاعر حسين عبداللطيف ونشر في مجلة "المثقف العربي" عام 1970 ويقول فيه: "يبدو لي الشعر فناً لا يقبل التسخير ولا يحيا مع الحذلقة. ليس الشعر وسيلة لتحقيق أي غرض مباشر، ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجّة، ومن ثمّ فهو لا يخضع للتنظيم الخارجي وقلّما يعكس رغبات الشاعر اليومية، لأن منطقته هي منطقة الذات العميقة". قد يمثل هذا المقطع الصغير ما يشبه "البيان" الشعري المقتضب الذي يختصر شعرية البريكان "نظرياً". وفي هذا البيان ما يذكّر ب"المجانية" التي تبناها شعراء قصيدة النثر في فرنسا وبعض السورياليين، وهي تعني ان لا غاية للشعر سوى نفسه. غير ان البريكان لن يقترب من الشعر السوريالي مقدار اقترابه من الشعر الوجودي والميتافيزيقي الذي يصعب أسره ضمن ثوابت أو معايير جاهزة، حداثية كانت أم قديمة. وقد لا يستغرب ذكر البريكان الشاعر الألماني ريلكه ضمن الشعراء الذين يقرأهم، فهو يشبه هذا الشاعر الكبير - الذي يصعب تصنيفه - بعض الشيء، في نزعته الميتافيزيقية ومعاناته الروحية ورمزيته "المطلقة" وهدوئه... وقد يذكر جمع البريكان في قصيدته "فقدان ذاكرة" بين الجمال والفزع بجمع ريلكه نفسه بين الجمال يرمز اليه الملاك والرهبة في مطلع "المراثي". وتذكّر قصيدة "حضور الأموات" بالكثير من القصائد التي يخاطب ريلكه فيها الأموات ويعدّ لهم "المائدة". الشاعر المتفرّد لم يقلد محمود البريكان أحداً حتى في بداياته الرومانطيقية التي بدا واضحاً فيها أثر الياس ابو شبكة النقمة على القدر ومحمود علي طه النغمة الآسية وسواهما. أما في مرحلته اللاحقة - الحداثية - فكان فعلاً "نسيج وحده"، صاحب صوت فريد ولغة تبدو بسيطة فيما هي على قدر من الصعوبة، وصاحب أسلوب يدرك القارئ للفور انه اسلوب محمود البريكان المتمرد على المفهوم الاسلوبي. وان كان البريكان سعى باكراً الى التجريب الموسيقي في الشعر العمودي مازجاً بين البحور في القصيدة الواحدة فهو سيتخفف لاحقاً، في شعره الحر والتفعيلي من سطوة الموسيقى ولكن مع الحفاظ دائماً على الايقاع. والايقاع لديه لا يقتصر على الوزن والقوافي، أي على الموسيقى الخارجية، بل يشمل أيضاً الموسيقى الداخلية القائمة على التثقفية الداخلية، والأمثلة في هذا الصدد كثيرة جداً الموت/ الصوت، الأشباح/ الرياح، الموعود/ الرعود...، عطفاً على تمرسه "التفعيلي" وعلى تحسسه ايقاع الحروف والمفردات. لكن المفاجئ في شعره الحر التفعيلي هو خفوت نبرته أولاً ثم سعيه الدائم الى التخفف من القوافي والتخلص منها في أحيان. وثمة قصائد كثيرة لديه تبدو ذات طموح نثري وقد يظنها القارئ أقرب الى قصيدة النثر أو شعر النثر منهاالى الشعر الحر أو التفعيلي: "نفسه، مرة بعد أخرى، يحوم على النافذة/ نفسه ذلك الوجه، مرتسماً من وراء الزجاج..."، أو:"لو كان لي أن أطلق استغاثة واحدة/ عبر سماء الجليد..."، أو: "الموسيقى تصدح/ الجمهور يصفّق لدخول ملوك السيرك...". وقد تكمن قدرة البريكان الايقاعية في ابتعاده عن الايقاعات الخارجية وجعله الموسيقى الشعرية موسيقى ايحائية، تماماً مثل الكثير من صوره الشعرية وتعابيره. قوة الايقاع هنا تكمن في خفوته لا في ارتفاعه، مثلما تكمن أيضاً قوة اللغة في كثافتها ونثريتها لا في فيضها الانشائي ونزوعها اللفظي. ويقول البريكان في هذا الصدد: "لا أحب اللغة الفضفاضة، المتميّعة العائمة... ولا أغتفر اللعب بالكلمات". ويتحدّث أيضاً عن "التركيز الذي ينصبّ على اللغة"، معرباً عن خوفه من "سيطرة اللغة على الشاعر". و"التركيز" الذي يقول به هو ما يمنح لغته قوتها و"موضوعيتها" وابتعادها عن ضروب الفصاحة والبلاغة وإغراقها في المحسوس والجليّ والبيّن. لعلّ الشاعر الذي ابتعد عن الموقف السياسي المباشر والنبرة الخطابية العالية استطاع أن "يجد" لغته الخاصة جداً، اللغة "الموضوعية" في المعنى الشعري، اللغة الملموسة والحسية ولكن المشرعة على الذات الانسانية وعلى الماوراء، تشهد وتصف وتروي وتشف وتتوتر ولا تقع في شرك الكلام المطلق والهذر اللغوي والاطناب والوهم... ومما يزيد من الواقعية الشعرية لهذه اللغة ابتعاد الشعر عن اغراء "الأنا" المتضخمة التي تمسي لدى بعض الشعراء محور الوجود والكون. "الأنا" لدى محمود البريكان هي "الأنا" المنفعلة لا الفاعلة، المسلوبة لا السالبة، إنها "أنا" الشاعر الواقعي والرائي، الرومانطيقي والرمزي، "الأنا" الناهضة في عالم على قيد الانتهاء والسقوط: "أنا في انتظار سفينة الأشباح..." يقول الشاعر، أو يقول: "أنا البدوي الغريب... أنا البدوي الذي لفظته الصحارى..."، أو: "لا أرى في المرايا سوى/ شبحي المتغيّر... أغادر هذا البصيص الذي هو روحي...". هامشي و"مخول" كان من الصعب على محمود البريكان ان يكتب قصيدة سياسية أو وطنية وأن يكون من شعراء "البعث". وساعدته عزلته وفرادته أيضاً على أن يكون شاعراً هامشياً في زمن الشعراء "الفحول". ولا غرابة أن يسلك هذا المسلك شاعر أعلن في مطلع حياته الشعرية: "أنا من سلالة الأرواح" أو شاعر يعتبر أن ولاءه هو "للأجمل والأبعد" وأن وطنه "عالم من ظلال/ يتفكّك في الريح/ ها هوذا/ وطني الأول/ وطني المنسي". غير أن الشاعر لن يغفل عن مآسي شعبه والمكابدات الطويلة التي عاناها، لكنه يستبطن هذه المآسي والمكابدات جاعلاً منها رؤيا مأسوية متحدثاً عن "الارث الأسود"، مثلما تحدث بدر شاكر السياب عن الجفاف والجوع اللذين كثيراً ما أنهكا العراق في معانيهما المختلفة. واللافت ان الشاعر الذي لم يدخل السجن مرة في حياته من جراء ابتعاده عن النضال الحزبي والسياسي وتخليه عن الفعل "البطولي" - هو الذي ينتمي الى صفوف الضحايا - لم يتوان عن كتابة قصائد عدة عن السجون متمثلاً شخصية السجين ومعبّراً عن تجربة السجن تعبيراً عميقاً، روحياً وجسدياً: "في أقبية المنسيين/ لا صوت هناك. وما في الليل سوى الحزن..." يقول في إحدى قصائده. وفي قصيدة عنوانها "رقم 96" يقول على لسان أحد السجناء: "الرجل السادس والتسعون/ لا اسم لي الآن: أنا السادس والتسعون". وكما كتب عن السجن السياسي طبعاً كتب أيضاً عن مشهد "سياسي" آخر طالما عرفته المدن التي يحكمها المتسلطون والقتلة: "كالكلب كانا لميت المجهول يُسحب باحتقار...". أما قصيدته التي تنتمي الى مثل هذا الجو المشهدي وعنوانها "حادثة في المرفأ" فهي تذكّر بجو يانيس ريتسوس الذي لم يقرأه البريكان حتماً في مطلع الخمسينات وفيها يصف عالم المرفأ المفعم سفناً و"صناديق ثقيلة" و"رافعات" ويروي حادثة مقتل أحد العمال: "مَن يعرف الآن القتيل؟/ لا يعرفون/ إلا اسمه. حتى اسمه بتمامه لا يعرفون". القصائد المشهدية ليست قليلة في نتاج البريكان وهي تدل على تداخل اللامرئي بالمرئي في شعره، وعلى امتزاج الواقعي بالداخلي ولن أقول باللاواقعي، والحقيقي بالحلمي. فالمشهدية التي تركز على تفاصيل واقعية لا تقع في أسر الواقع والوصف والتقرير بل هي تغدو مرآة للذات التي تتفاعل مع عناصر الخارج أو العالم. هكذا يوظف الشاعر البعد المشهدي لمصلحة القصيدة وما تخفي من عمق ورؤيا. وقد تكون قصيدة "إرتسام" خير معبر عن هذا البعد المشهدي وكذلك قصيدة "نوافذ" التي يقسّمها الى ثماني "نوافذ": نافذة فتاة، نافذة عجوز، نافذة كسيح... أما في قصيدة "ارتسام" فيتحدث عن وجه ظلَّ مرتسماً على زجاج المقهى بعدما غادر صاحبه وهو كما توحي به القصيدة مجرد متسول عابر. تستدعي القصائد المشهدية لدى البريكان الخارج أو العالم بالأحرى، جاعلة منه قماشة شفيفة ترتسم عليها المآسي الشخصية، الصغيرة والكبيرة. يصبح العالم في أشيائه وتفاصيله مادة تتشكل منها القصيدة وتتشكل فيها. ولا شك في أن توالي المفردات اليومية أو المعجم اليومي في هذه القصائد دليل على ارتباطها بالحياة والعالم وابتعادها عن "المطلقيات" اللغوية والشعرية. ها هو البريكان يكتب عن "عقارب الساعة" التي "توقفت" مزاوجاً بين توقفها وتحول "العالم السيّال" الى "جسم من حجر". وها هو في قصيدة "أسد في السيرك" يرسم مشهداً واقعياً يخفي وراءه معنى حزيناً. وفي قصيدة "الغرفة خلف المسرح" يلقي ضوءاً على الوجه الآخر للمسرحية، الوجه الخفي الكامن في ما يسمى "الكواليس". وفي قصيدة "غياب الشاشة" تحضر اجواء السينما في بعض تفاصيلها. وفي قصيدة أخرى يعبّر عن مفهوم المشهدية خير تعبير قائلاً: "أجمل ما في العالم/ مشهده العابر/ ومباهجه الصغرى..." ثم يتحدث فيها عن "ايقاع الدأب اليومي" و"سعادة ما هو زائل". حتى الأيدي يكتب عنها قصيدة تحمل عنوان "الأيدي" وفيها يصف الفضاء الذي تشكّله هذه الأيدي في حركاتها وتعابيرها. ولو أن البريكان كتب هذه القصائد المشهدية نثراً لكان حتماً واحداً من شعراء "قصيدة النثر" الحقيقيين، علماً أن قصائد كثيرة له تقترب جداً من شعر النثر ليس عبر تخففها من التقفية فقط بل في اعتمادها فعل التداعي والجمل الاسمية التي تتبدى بوضوح، مؤكدة الحال "السكونية" التي تصبو اليها شعرية البريكان. وتتخلل هذه الحال "السكونية" مقامات من الرثاء والوداع وكأن العالم هنا هو على حافة النهاية. انها "النهاية" التي تؤول اليها الحياة كي تكتمل، "النهاية" التي تحل قبل الأوان، "النهاية" المنبثقة من العدم الذي تصطخب به روح الشاعر: "جميع الأغاني ستنسى/ وكل المسرّات تثوي محنطة في الظلام". وتتجلى هذه الحال في قصائد عدة مثل "مدينة خالية" وفيها ترتسم صورة مدينة "خالية من أثر الأحياء" وتطلّ منها "حواء" غريبة لا تفهم أي لغة. وكذلك في قصيدة "التصحّر" و"مصائر" و"الغرفة خلف المسرح" وسواها. عالم رحب تستحيل الاحاطة بعالم محمود البريكان منذ القراءة الأولى. هذا شاعر كبير حقاً ويفترض شعره قراءة تلو أخرى، نظراً الى ما يضمّ من قصائد جميلة وعميقة و"حديثة" تجمع بين الاختلاج الميتافيزيقي والنزعة العدمية والهمّ اليومي و"الموضوعية" الشعرية والنفس الغنائي. لكن غنائية البريكان هي غنائية داخلية، خافتة وخفيضة الصوت ونابعة من الجرح الأزلي الذي يعانيه الشاعر، كائناً وجودياً وإنساناً غريباً في العالم وعنه: "صوت لا يشبهه صوت/ يأتي من أقصى البرية/ كتناوح ريح / ليست من هذا العالم..." يقول البريكان. أو يقول: "وحيداً أنتمي... الى البرق الذي يكشف وجه الدهر في لحظة.../ الى جزء من الانسان في الظلمة مفقود.../ الى ما يسقط الضوء على منطقة المعنى...". قد يبدو البريكان في أحيان ذا نزعة صوفية وفلسفية مثالية أو أفلاطونية لكنه لا يقع في التجريد اللفظي والمعنوي ولا في جفاف السؤال الفلسفي: "أنا في انتظار الغامض الموعود..." أو: "لأن للنار وراء رقصها العنيف/ جسماً من الرماد، أو روحاً من الدخان"، "أدخل لحظة/ في مجرى الأبدية". كم يحتاج محمود البريكان الى قراءة حقيقية، تعيد اليه حقه المفقود وتصحح الخطأ التاريخي الذي اقترفه النقاد العرب في حق شعره وتجربته الكبيرة. فهذا الشاعر المجدد والمحدث ظل شعره وقفاً على الساحة العراقية ونادراً ما كسر حال الحصار الذي وقع فيه على خلاف الكثيرين من الشعراء العراقيين. وقد ساهمت عزلته و"اغترابه" الداخلي وبعده عن الأضواء في إبعاده أكثر فأكثر عن معترك الحداثة الشعرية، هو الشاعر الحديث بامتياز والطليعي بامتياز والرائد بامتياز. وقد كان فعلاً سبّاقاً في حداثته هو الذي جايل السيّاب والبياتي والحيدري مثلما جايل سعدي يوسف ويوسف الصائغ وسواهما. شاعر رائد لا أحد يدري كيف سقط اسمه عن "قائمة" الرواد هو الذي ينتمي الى المستقبل أكثر من الكثيرين من الشعراء الذين جايلوه أو جاؤوا من بعده. ولكن لا يهم ان يظل البريكان "معزولاً" عربياً ومهضوم الحق، فهو يكفيه أن يكتب ما كتب من قصائد كي يدخل ملكوت الشعر. بل يكفيه ان الشعر كان عزاءه الوحيد في عالم ملؤه الأسى والألم واليأس: "أحاول أن أقهر الموت عبر القصائد؟ أدحر بالشعر هذا الظلام.../ أحاول أن أجعل الفقد أجمل حين أصوغ المراثي" يقول الشاعر. وفي قصيدة أخرى يقول: "أكتب حتى تجفّ العروق وأبصر هاوية/ الصفحات الأخيرة فاغرة، وأمامي/ يمتد فيه البياض السحيق". ترى هل كتب محمود البريكان ما كتب كي يكون شاهداً على صمته وعزلته ووحشته بعيداً من أي مجدٍ أو سؤدد باطل؟ هل كتب ليبلور "قلب الصمت" الذي "يدق كساعة خفية" وليرى الأرض "بحراً من الزرقة الساطعة"؟ ما أكبر هذا الشاعر حقاً!