تعلمت إدارة جورج بوش الكثير من الاسرائيليين القدوة والنموذج في كيفية التعامل مع المعتقلين والمساجين المتهمين بمقاومة الاحتلال. كما راحت تتلقى الدروس في اجتياح احياء المدن وقصفها عشوائياً حتى بدت دروس بيت حانون ورفح مكررة في النجف ومدينة الصدر ومن قبل في الفلوجة. وكانت نتيجة الدروس المتعلقة بالمساجين والمعتقلين ما طبق في غوانتانامو وسجن أبو غريب وعدد من مراكز الاعتقال الاخرى. وقد صعّد وزير الدفاع الاميركي تلك الدروس الى مستوى التنظير بتجريد المقاومين من حقوق السجناء العاديين أو من تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة. فما كان يمارس بالسر، وتُنكر فضيحته إن خرج الى العلن، أصبح في عهد ادارة بوش سياسة رسمية معلنة. وبهذا عاد الجميل الى الدولة العبرية لتصعّد، بدورها، في الاتجاه نفسه حتى جعلت حياة المساجين، بعد غوانتانامو، جحيماً لا يحتمل. وهذا يفسر لماذا اضطر آلاف المساجين والمعتقلين الفلسطينيين الى اعلان الاضراب المفتوح عن الطعام. ومطلبهم ليس اطلاقهم، وانما رفع المعاملة المهينة غير القانونية عنهم، من خلال تطبيق القوانين النافذة على المساجين العاديين من قتلة ولصوص ومحتالين ومغتصبي الأطفال والنساء في اسرائيل، ناهيك عن تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة وبروتوكولاتها الخاصة بأسرى الحرب ومقاومي الاحتلال، ومعاملة السكان تحت الاحتلال، أو تغيير الوضع القائم قبله. هذا الاضراب يشكل امتحاناً للذين يطالبون بتبني استراتيجية اللاعنف في الساحة الفلسطينية. فهو نموذج للكفاح اللاعنفي المدعوم بإجماع وطني فلسطيني قل مثيله. ولا يمكن ان يجادل أحد بعدالة تلك المطالب التي تلتقي عندها أبسط حقوق الانسان والقوانين الدولية وحتى القوانين الداخلية الخاصة بمعاملة المساجين. وليس بمقدور منظمة حقوق انسان أو جمعية قانونية في العالم ان تنكر أحقية تلك المطالب أو تمتنع عن استنكار الاجراءات الاسرائيلية التعسفية بحق السجناء الفلسطينيين، علماً ان قرار محكمة العدل الدولية الذي قضى بعدم شرعية الجدار، وأوصى بإزالته، يعزز انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على السجناء والمعتقلين الفلسطينيين. وبكلمة، مطالب الاضراب متواضعة جداً، ويفترض دعمها فلسطينياً وعربياً ودولياً، أن تصيب نجاحاً. ولهذا اذا فشل الاضراب فسيشكل امتحاناً عسيراً لدعاة استراتيجية اللاعنف في فلسطين، وان كان النجاح لا يعزز منطق تلك الاستراتيجية بسبب الفارق الهائل بين تلك المطالب البسيطة جداً، والسهلة المنال، كما حدث اكثر من مرة في السبعينات والثمانينات، واستهداف انقاذ القدس وتفكيك المستوطنات وإنهاء الاحتلال وصولاً الى خطوط الهدنة 1949-50. ثمة ملحوظتان، يجب ان تلفتا نظر دعاة استراتيجية اللاعنف، على ضوء تجربة الاضراب الحالي: الأولى، الكيفية التي واجهت بها حكومة شارون مطالب المضربين، وكيف تعاطت مع بعضهم بالضرب والتهديد والوعيد بجعل حياتهم اسوأ جحيماً، مع إظهار عدم المبالاة بما قد يترتب على صحتهم وحياتهم، اي التعمق أكثر في طبيعة الكيان الصهيوني العنصري، لأن سمات الطرف الذي توجه ضده استراتيجية اللاعنف مهم جداً في تقدير مدى جدواها. والثانية الكيفية التي تعامل بها الاعلام الغربي مع الاضراب. ومن ثم كيف تم تجاهله حتى لم يذكره إلا عندما قررت مصلحة السجون الاسرائيلية شيّ اللحوم والشحوم في الساحات لإسالة لعاب المضربين ودفعهم الى فك الاضراب. فنُقل الخبر لطرافته، وللتغطية عن الضرب والعقوبات الأخرى. وفي التعمق اكثر في مدى تجاوب الاعلام الغربي، ناهيك عن السياسات الغربية الرسمية، مع نمط من الكفاح المحق للاعنفي، والواسع التأييد الشعبي، يتبدى تجاهله وقتل أي أثر له في الرأي العام عبر ذلك التجاهل. وبديهي ان دعاة استراتيجية اللاعنف يراهنون على الضغوط الدولية والاعلامية الغربية على الدولة العبرية من أجل تحقيق اهداف تلك الاستراتيجية. وهذا ما حدث ايضاً بتجربة عشرات النضالات اللاعنفية التي مورست في فلسطين، لا سيما في السنوات الأربع الماضية حيث قوبلت بتجاهل اعلامي ورسمي غربيين، فقُتلت من خلال ذلك التجاهل. ولا تسل عن ردود فعل الرأي العام الاسرائيلي. أغلب الذين يطالبون الشعب الفلسطيني بالتخلي عن الانتفاضة والمقاومة والصمود الشعبي في وجه الاجتياحات لحساب استراتيجية اللاعنف الغاندية، أو التي تبناها مارتن لوثر كينغ، يتعاملون مع هذا الاسلوب من أساليب الكفاح كما لو كان مبدأً أو عقيدة وليس باعتباره اسلوباً يؤخذ به أو يترك، كلياً أو جزئياً، بناء على إثبات جدواه، أو عدم جدواه. وذلك من خلال دراسة وقائع الصراع وسماته على جانبيه المتقابلين، كما على المستويين الاقليمي والدولي. فغاندي أو لوثر كينغ عندما تبنيا أسلوب اللاعنف انطلقا من دراسة وقائع الصراع وسماته على جانبيه المتقابلين. والدليل نجاحهما في التطبيق العملي. ولا حاجة الى تعداد الفوارق بين الحالة الفلسطينية وحالتي تحرير الهند من الاستعمار البريطاني أو انتزاع الحقوق المدنية للسود في الولاياتالمتحدة. هذه الإشكالية لم يلحظها أرون غاندي، حفيد المهاتما غاندي الذي جاء الى فلسطين ليتعاطف مع أهلها، وهي خطوة مقدرة له. لكن كان عليه ان يفهم الاستراتيجية اللاعنفية لجده ولا يتعامل معها كبضاعة تصلح في كل زمان ومكان، علماً ان هذه الاستراتيجية فشلت حتى في الهند نفسها حين حاولت ان تمنع التقسيم بعد الاستقلال. ثم أين سياسة اللاعنف مع كشمير، أو مع بناء جيش هندي جرار وصولاً الى امتلاك القنبلة النووية. فالجيس رمز العنف والقنبلة النووية رمز العنف الأقصى. ثم كيف يُسمى ما يمارسه وما مارسه شعب فلسطين من مقاومة وانتفاضة وصمود ضد احتلال وعقوبات جماعية وتهجير واغتصاب وطن عنفاً، قياساً بأعلى درجات العنف الذي يمارسه الجيش الاسرائيلي، وما يمتلك من قنابل نووية تهدد المنطقة كلها بالعنف الأقصى.