مرّ أكثر من ساعتين منذ وطأت قدماي "المول" الضخم، وعبرت أمام موظفي الأمن وخضعت للتفتيش، ثم تلفت ورائي لأرى ما اذا كان هناك أحد يتابعني. خُيّل لي أنني نجحت في الهروب منهم في نهاية الأمر، لكنني لست واثقاً من ذلك. وبقدر ما كان دخولي المول حيلة ذكية من جانبي، إلا أنه بدا لي أنه يمكنهم مع هذا من حصاري والتضييق علي حتى يظفروا بي، وهو ما لن أسمح به مطلقاً. واصلت سيري أبحث عن سجائر وصحيفة، حتى لو كانت صحيفة مسائية، فأغلب الظن أنني لن أجد صباحية، ولفت الى أول ممر صادفني، حاولت في البداية أن أواصل السير، وأرمي بنظري يميناً ويساراً من دون أن أتوقف مكتفياً بالفرجة والتطلع من بعيد الى المعروضات التي ترامت خلف الحواجز الزجاجية. لمحت أشكالاً وألواناً من الاحذية والصنادل والشباشب، أما الأحذية الرياضية فكانت صفوفها تمثل قسماً آخر بدا كأنه بلا نهاية. رجال ونساء عجائز وأطفال يرتدون ملابس الخروج والنوم وأزياء العمل، يجلس البعض على مكاتب او يتوجه البعض الى أعمالهم متوقفين على محطة الباص. عدت اتذكر كارثتي التي تورطت فيها، وأنا اتلفت هنا وهناك باحثاً عن مكان لبيع الصحف. ما جعلني أقترب من هذا الحاجز الزجاجي هو الهدير الذي تبينته يتضح كلما اقتربت، أصوات ناس يهتفون ويزأرون بل ويجأرون بالصراخ، كان ثمة ملعب وعلى أرضه اثنان وعشرون لاعباً تسليت وقتاً بلعبهم، فقد كانوا بالحجم الطبيعي تقريباً، وعندما تومض الأضواء وتنطفئ، يخيل لك انهم يركضون هنا وهناك وسط هدير الجماهير. انخرطت تماماً، فقد كانت الاضواء تومض وتنطفئ على نحو محكم ومضبوط. فهم يتوقفون بالفعل ما إن يسمعوا صوت صفارة الحكم، رحت أتابع ضربات الجزاء والضربات الحرة المباشرة وغير المباشرة ورميات التماس وضربات الجزاء واللحظات الحاسمة أمام المرمى، وأتابع في الوقت نفسه الزي الرياضي المميز لكل لاعب بقوامه الممشوق وعضلاته الصناعية. امتدت قاعات العرض، تتلقفني قاعة تلو قاعة، خلف هذا اللوح الزجاجي العريض، كان هناك رجلان تتركز المصابيح الملونة على ما يرتديانه: الشورت والحذاء الرياضي والقفاز والقناع الذي يحمي الرأس وجانبي الوجه، وما لبثت أن بدأت المباراة بينهما، واندلعت الاضواء الملونة ليبدوا أنهما يتلاكمان وسط هتاف الجماهير، لكن حركة الاضواء عجزت عن منحهما الضربات الطبيعية المتسقة مع حركة جسميهما وساعديهما العضليين ولم أتمالك نفسي من الضحك، فقد كان المشهد يتوقف بين الحين والآخر لتتركز الاضواء على الأوراق المعلقة على ما يرتدونه مبينة أسعاره. أما الحاجز الزجاجي التالي، فكان يعرض صيادين يصوّبون بنادقهم داخل غابة، لكنهم كانوا في المواجهة، يتناثرون ويختفي نصفهم السفلي بين الحشائش والاشجار القصيرة. كان البعض يرتكز على ركبته، والبعض الآخر أخذ لنفسه ساتراً من الاشجار. ما أخافني أنهم كانوا يصوبون بنادقهم نحونا نحن الجمهور، بنادقهم التي تحمل بطاقة عليها السعر بالانكليزية، وعندما تنطلق الرصاصة، كنت أسمع صوتها وأشعر برد فعل الصياد يطلق النار فترتطم البندقية بكتفه، وتعلو أصوات حيوانات الغابة: اسود ونمور ودببة وقرود وطيور ووعول وغزلان وبنات آوى، والحقيقة ان الأصوات كانت تجعلك تشعر وكأنها تتلقى رصاصات بالفعل فتزأر وتصرخ وتصيح. ما إن استرددت أنفاسي، حتى وجدت آخرين على شاطئ النهر من كل الاعمار يلقون بصنانيرهم على حافة الماء وعلى كل صنارة سعرها، غير أنها صنانير لم أكن رأيت مثلها من قبل. انها أجهزة كاملة لها أسلاك وأزرار وخطاطيف. اجزاؤها ملونة وبارزة لها عدادات ولمبات صغيرة تومض وتنطفئ مع حركة الصياد، لم يكونوا صيادين حقيقيين، بل هم هواة من الرجال والنساء والاطفال بملابس الصيف الخفيفة، يترقبون مستغرقين تماماً، وفجأة تجد أحدهم وقد رفع صنارته فجأة، تحمل سمكة ضخمة، فتعلو أصواتهم الفرحة بالنصر، تبدو السمكة كأنها لا تزال تتمسك بالحياة وينتفض جسمها وهي معلقة بالشص قبل أن تنطفئ المصابيح الملونة، ثم بقية المصابيح، لبرهة تتيح لي أن التقط أنفاسي. عندما أضاء النور مرة أخرى، لم استطع أن أحدد بالضبط: هل غادرت موقعي، أم أنني ما زلت أمام الحاجز الزجاجي نفسه، وكل ما في الأمر أنهم غيروا المسرح اثناء اطفاء الانوار، لم تكن هناك فرصة لأفكر لحظة واحدة، فقد انكشف ما وراء الحاجز عن جمع كبير من الرجال والنساء والاطفال المرتدين مايوات يجلسون امامي مباشرة تحت الشماسي الملونة. يبدو الرجال والنساء في أوضاع عشق ضاعف من سخونتها عريهم، وأمامهم كان الاطفال يطرطشون الماء بالقرب من الشاطئ. ما أذهلني أنه كان ثمة باعة وغرسونات يتناثرون، وكان صوت وشيش الموج واضحاً، كما سمعت الأغاني والصيحات والضحكات، وشاهدت الأطفال يتراشقون بمياه البحر ويلعبون الكرة، وعلى امتداد الشاطئ كان البعض يلعب كرة بالمضارب، بدوا جميعاً تحت شمس ساخنة لا ترحم، حتى أن الواحد كان يشعر أنهم لا بد غارقون في عرقهم، على رغم أن المستلقين على الشاطئ لم يكن يثنيهم شيء عن المهارشة، أما بطاقات الاسعار باللغة الانكليزية فكانت معلقة على كل شيء بلا استثناء، المايوات وأغطية الرأس والشمسيات والمضارب والكرات بل وأطواق البحر الخاصة بالاطفال. لم أكن أعرف السباحة، ومع ذلك وجدتني أخطو الى الداخل، غير أنني تأكدت من أنني ما زلت أمام الحواجز الزجاجية لما مددت يدي ولامستها بالفعل، انفتحت أمامي ممرات أخرى تضم معارض اصغر ممتدة على الجانبين، عندئذ أحسست بعيون حقيقية تتلصص، فتلفت وأمكنني التعرف إليهم على رغم التماثيل المتعددة لرجال آخرين. لم يكن ممكناً التعرف إلى الرجال الحقيقيين الذين يشغلون وظيفة المراقبين الأمنيين، فهم يقفون بجانب التماثيل التي كان دورها لا يتجاوز دور عارضي الملابس أو حاملي الآلات والأجهزة المختلفة. رحت أشغل نفسي بالتحديق في نظارة بحر صغيرة معروضة وحدها. كان حجمها صغيراً كأنها نظارة طفل بشرائط حمر وعدسات زرق مصنوعة بإتقان شديد. انشقت الأرض عن رجل يرتدي قميصاً أزرق بكم طويل وسروالاً من اللون نفسه. هز لي رأسه، فحاولت ان اتذكر اذا كنت أعرفه من قبل، ثم تمتم بكلمات لم أتبينها، لكنني فهمت اشارته وتبعته، انتهينا الى مدخل آخر واسع ومقسم الى عدد كبير من الممرات، وعلى رأس كل ممر، امرأة ترتدي تنورة زرقاء وقميصاً بكم من اللون نفسه، جالسات جميعهن على مقاعد عالية أمام آلاتهن الحاسبة، كنت لا أزال مدفوعاً بالسير خلف الرجل الذي كان يتقدمني ويلاحظني بطرف عينيه بين الحين والآخر، لم أكن أفكر بالهرب، وكنت مستسلماً تماماً، خصوصاً أنني أدركت أنه ليس وحده، وكان في وسعي أن ألمح كثيراً منهم بزيهم الموحد، بل ان بعضهم كان يتدلى من خصره حزام عريض ينتهي بعصا سوداء لامعة، ووجدتني أمام المرأة الجالسة أمام الآلة الحاسبة التي رفعت وجهها قائلة من دون أن تبتسم: "اثنان وستون جنيهاً". مددت يدي الى جيبي وأخرجت الورقات الست من فئة العشرين جنيهاً والتي لم أمتلك سواها، تناولتها مني، وأعادت لي بقية النقود، ثم دقّت على آلتها، وقدمت مبتسمة حقيبة صغيرة أنيقة، فأخذتها صامتاً وتابعت سيري. كانت نظارة البحر الصغيرة ملفوفة داخل كيس، والكيس داخل الحقيبة، لحظتها فقط أدركت ما جرى. كيف تورطت الى هذا الحد؟ ولماذا لم أقاومهم؟ كان يمكنني أن أتحجج بأن النظارة أصغر من مقاسي، أو أنني لا أعرف السباحة، أو كنت على الأقل أرفض السير خلف رجل الأمن الذي اصطحبني منذ البداية. أملك الآن ورقتين من فئة العشرين جنيهاً، وبضعة جنيهات، علي أن أعاود البحث عن الصحيفة والسجائر والانتباه والحذر، فربما لحقني أولئك الأشرار الذين لن يتورعوا عن تصفيتي ونجحت في تضليلهم بدخولي المول. لكنني توقفت متسائلاً: لماذا استسلمت أمام مَنْ أجبروني على شراء نظارة بحر لا أحتاج اليها بكل هذه السهولة؟ لقد توقفت عن التفكير تماماً وكان كل تركيزي ألا أعطيهم فرصة التحرش بي وأنفذ ما يطلبونه فوراً، كانوا مسيطرين تماماً على المكان ولا يمكن الفكاك من أي مخرج. هل أنجح في التزام الحذر أو اتجنب هذه الفخاخ المنصوبة في كل مكان؟ ها أنا أحمل الحقيبة الورقية البالغة الأناقة، وعليها اسم المحل بالانكليزية: F.U.S. أتحسس بين الحين والآخر نظارة البحر بأصابعي، وأتلفت حذراً بعد أن جردتني المرأة الصغيرة الجالسة على آلتها الحاسبة من أغلب نقودي. ورحت أتلصص بعيني باحثاً عن كشك لأشتري الصحيفة وعلبة السجائر. دلفت الى ممر أقل ضوءاً، وعلى جانبيه كانت ثمة أبواب يخرج منها أولاد وبنات انداحت رائحتهم تملأ الممر. توقفت في ركن خلت أنه أكثر عتمة، كان العطر الذكوري للأولاد يختلط بعطر البنات الأنثوي الذي كان مرحاً على نحو ما، ويتدفق مقتحماً يملأ الفضاء. كانوا يتهامسون وهم يلتفتون حولهم. بدت هيئتهم مجنونة قليلاً، فالأولاد كانوا يعدون نقودهم التي يخرجونها من جيوبهم، ويبدون لا مبالاتهم بكل ما حولهم، ويعلنون عن رزم الأوراق النقدية بين أيديهم، أما ملابسهم فكانت متشابهة، فالبدلة الكحلية الداكنة مفتوحة الازرار، وتحتها قمصان مفتوحة الأزرار أيضاً بلون سماوي فاتح. البنات ايضاً كن يرتدين فساتين كحلية بلا أكمام ويعلقن على أكتافهن حقائب فضية لامعة. كانوا يتمهلون وهم يعدون نقودهم، والبنات يهمهمن، وبعضهن يتأوهن تقريباً، وبين الحين والآخر كانت إحداهن تقرقع ضاحكة وهي تصيح: "يا لهوي...". فكرت في أن أعود أدراجي، الحقيقة أنني شعرت بنوع من الخوف، وأحجمت عن المرور بينهم، فلا بد من أن آخذ حذري بعد ما جرى لي، ووجدت نفسي مُجبراً على شراء نظارة بحر لطفل، انا الذي لا أعرف السباحة، لكنني عندما نظرت حولي مرة أخرى وجدت ممراً آخر إلى جواري، فانحرفت تجاهه.