من زمن بعيد وأنا أبحث في نفسي عن سر تلك الغبطة العارمة التي تحتلني كلما أفكر في السفر إلى «الإسكندرية» تلك المدينة الباهرة.. مشاهد متفرقة تنتابني، وصور قديمة تتناثر ألوانها حولي، كأن كلا منها يشبه لوحة معلقة ضمن إطار.. صور لأمكنة محدودة ولقطات تدثرت بالزمان ولم يفسدها تعاقب الأيام.. كأن الذاكرة تعي جمال الأمكنة قبل الأوقات فتبقى ساكنة حتى تستفز.. ما إن وصلت الإسكندرية حتى اختصرت ذاكرتي كل تلك الأعوام التي ضاعت.. هوت علي فجأة مشاهد الصيادين ومراكبهم الشراعية البيضاء حيث تمتلئ أشرعتها بالرياح وتحلق فوقها الطيور الرخامية اللون، وبيوت الإسكندرية الملونة المقشرة الواجهات التي ترتدي واقفة قناع الزمان القاسي، يسيل من نوافذها المعلقة كأوراق الخريف ريح البحر الذي يفعل في الدهان ما يفعله.. كان يوما جميلا رائعا اختفت فيه الشمس كأنها كانت تدس أحلام الليلة المقبلة تاركة للنسمة الرقيقة حيزا بديلا وكان فحيح عجلات السيارات التي تمضي مسرعة وتغيب وتتعاقب في تردد تختلط بوشوشة البحر حيث الحاجز الجرانيتي للشاطئ يستحم بخجل بمياه الأزرق الممتد إلى الأفق.. وعلى الرغم من لهفتي الشديدة للاستمتاع بكل ذلك.. والاسترخاء على أقرب مقعد بمقهى الشاطئ، وارتشاف كوب كبتشينو مخلوط بالقرفة وتدخين الغليون إلا أن الشوق إلى بعض الأماكن المحددة كان يعوي في داخلي.. تعمدت هذه المرة أن أشتري شيئا يذكرني بالإسكندرية.. كنت أقاتل الوقت لأصل قبل أن يهبط الظلام ويقفل إلى مكان صغير عزيز علي يبيع التبغ الطازج.. تعودت كلما أتيت إلى الإسكندرية أن أعوده.. محل في حجم حبة قمح له رائحة أليفة مضمخة بالتبغ والموج والسيجار الكوبي يملكه عجوز إسكندراني ممن يبيعون الوقت بالضحك. وصلت المكان ليقابلني البائع بابتسامته الفطرية العطرة كأنها إعلان أخضر يرفض أن يموت.. وجه لي دعوة مجانية أن أجرب خلطة سحرية جديدة من التبغ اخترعها هو.. قبلت الدعوة وبخرت له المكان ببعض أنفاسي.. ورسمت له المدى بزفرتين.. لقد توقف هذا الرجل عن التدخين منذ فترة طويلة لأسباب صحية وبقي له من الزمان أن يشعل زبون أمامه من الزمن الضائع والزمن الميت غليونا أو غليونين.. تحول العادي عنده إلى مقدس حميم.. أمضيت بعض الوقت معه وعدت من حيث أتيت صوب وسط المدينة.. للمدينة هذا المساء مذاق السكر.. كان البحر سجادة كبيرة زرقاء، أشرعة الصيادين تجري خلف العصافير الهائمة كأنهم يذهبون إلى اللامنتهى الحالك الزرقة، يصيدون الأفق عبر أنفاس البيوت القديمة التي تختلط برائحة المعسل وطرقعة الجمر في المقاهي الساحلية وطعم السحلب المغلي حيث لا يمل الناس هناك من التحديق في البحر.. تساءلت وأنا أتأمل الأفق أين ذهب الساحل في مدينتي؟؟ يقولون إن جسد المدن الساحلية واحد.. جسد مباح.. هل ذلك ما حصل للساحل عندنا!! سكنت هذه المرة في قصر تحول إلى فندق تدور حوله حديقة.. أقصى مدى عينيك لا ينتهي إلا إلى خضرة ومياه زرقاء ونخيل نيئ.. يستقبلك باب القصر، باب قديم من الخشب والنحاس يتعانقان في انسجام بديع وكأن النحاس انشق عن الخشب كما ينشق الياسمين من الحطب.. مصابيح قديمة تتدلى في المدخل ذات أغطية زجاجية تنتشر في زوايا المدخل متألقة كالجواهر.. تشكل حديقة القصر الذي كان يملكه الملك فاروق وتحول إلى فندق مقصدا مميزا للعشاق والرومانسيين ممن يبحثون عن نبضات قديمة ويستمعون لأغان طربية عتيقة.. يتناثرون في الأماكن متدثرين بالحب كأنهم يقولون للمارة.. إنه ما زالت هناك أحلام لم يدنسها الإنسان بعد.. لقد شاخ القصر بفعل السنين كراحة مسن إلا أن العز ظل صديقا للزمان.. حول المصريون القصر إلى مخطوط قديم أنيق مفتوح لعين كل نزيل.. ليتمكن من قراءته عن عصر قديم مات ولكنه كان لصاحبه أجمل العصور.. لقد تحررت الروح في الإسكندرية من ثقلها واستمعت لأيام بالزهرة المائية التي ما زالت تتغذى بالليل والسهر وضوء القمر والبحر وأمضيت هناك لحظات كانت أكثر وداعة من حمامة تقف على كتف تمثال.