1- الحرب الأخيرة انتبه فجأة، وجد في يده سلاحاً، وعلى رأسه خوذة كتلك التي يرتديها الجنود. طنين الطلقات يتطاير حوله وفوق رأسه كسرب خفافيش مذعورة. حاول أن يتذكر اسمه، وطنه، تاريخه، أي شيء، ولكن من دون جدوى. ذاهلون عنه في اشتباكاتهم. يفشل في أن يتبين إلى أي جانب ينتمي. ينظر إلى ملابسه وملابسهم، كل الملابس واحدة. يحاول أن يضم نفسه إلى أي جانب من طريق الملامح، يتذكر أنه لا يعرف شكله، كما أن كل الوجوه واحدة. كأنهم شخص واحد موزع في آلاف، كل شيء مشترك حتى الرمال، الشمس، النيران، الجوع، الظمأ، الألم. يفتش في جيوبه عن هوية. عن مرآة، ليس سوى هذا الشيء المفزع في يده، هل يجيد استعماله؟ تلقائياً وجد نفسه يضرب. فجأة هاجمه السكون، تلفت حوله. لم يبق سواه. سعى مهرولاً يجمع الجثث والأشلاء المتناثرة هنا وهناك، حتى صنع جبلاً عظيماً، احتضنه، وظل ينتحب. 2- أسماك صغيرة ملونة - أ - لم يكن أبي صياداً، لكنه كلما ذهب ليصطاد يأخذني معه، يترك الصنارة في الماء، ويستدير بجسمه حتى ينظر في عيني، ويتكلم قليلاً. أفرح عندما تغمز الصنارة، فيدير أبي البكرة، لترفرف السمكة في الهواء. يناولها لي أضعها في الحقيبة، وأضع له الطعم الجديد في الصنارة. في العودة أحمل أنا حقيبة السمك، ويحمل هو الصنارة، يخلع قبعته ويضعها على رأسي حتى لا تضايقني الشمس الحامية. - ب - لم يكن النادل العجوز الذي يمد يده بالخمر في طيبة، وبلا أي ابتسامة على الإطلاق هو الرجل نفسه الذي لمَّع لي حذائي في المرة الأخيرة، فبَقَّع بورنيشه البني جوربي وطرف بنطالي. والاثنان لم يشبها في شيء الرجل الذي سبني سباباً قبيحاً، وهو يسير متأبطاً ذراع ابنته الجميلة؛ لأنني من دون أن أقصد ألقيت عقب سيجارتي أمام طرف حذائه. لكنني أنا، منذ ذهب الرجل الذي كانت هوايته صيد الأسماك (الصغيرة دائماً)، كلما رأيت رجلاً بشعر أبيض، أتذكر قبعة قديمة، وشاطئ نهر، وأباً يستدير بجسمه، فلا تستطيع العين أن تمسك به.