أفلح الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، كما يقول الكاتب التونسي حسونة المصباحي، في إلغاء ولي نعمته بورقيبة حياً بعد تنحيته عن السلطة، وبعد أن مات بمحاولة قلب محاسنه إلى مساوئ. لكن «المجاهد الأكبر» الذي هزم بكياسته سياسيين أعتى وأشرس من ابن علي، وجد أخيراً من يعيد اعتباره بعد «ثورة الياسمين» في تونس. فقد كان «الازدحام شديداً (في مشهد إحياء ذكراه أخيراً) واحتشد الزوار لمشاهدة المعرض الوثائقي الذي أقيم في المناسبة واحتوى على صور للزعيم في مراحل مسيرته النضالية المديدة قبل الاستقلال وبعده». وافترض المصباحي أن البعض يتساءل عن أسباب «هذا الوفاء المؤثر الذي أظهره التونسيون لبورقيبة خلال الاحتفال المذكور». ليضيف أن الجواب هو أن «التونسيين يعيشون راهناً مرحلة تتسم بالتذبذب والخوف من الحاضر ومن المستقبل بسبب تداعيات وإفرازات الزلزال الذي هز بلدهم مطلع 2011. وبالتالي هم بحاجة الى من يساعدهم على استعادة توازنهم وثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على مواجهة المصاعب التي قد تغرق بلادهم في الفوضى والاضطرابات الخطيرة. ولعلهم وجدوا في بورقيبة جل خصال الشخصية التي يرغبون في اللجوء إليها في هذه الفترة». في ما يلي حلقة ثانية أخيرة من مقتطفات اخترناها من كتاب المصباحي «رحلة في زمن بورقيبة» الذي يصدر قريباً عن «دار جداول للنشر». قبل عودة بورقيبة إلى تونس، أوائل العام 1952، وعندما أصبح على يقين تام بأن فرنسا لن تستجيب المطالب التي رفعها، صرح قائلاً: «إن الشعب التونسي الذي خاب ظنه في الوعود التي قطعتها السلطات الفرنسية، هو الآن في أوج الغضب والسخط. وسوف يعرف كيف يقدم للعالم الدليل على أنه أصبح ناضجاً للحرية والاستقلال». ثم مخاطباً الولاياتالمتحدة، القوة العالمية الجديدة، قائلاً: «إن حرية تونس هي الضمان الضروري الوحيد للدفاع عن العالم الحر في البحر الأبيض المتوسط، وعن السلام في جميع أنحاء العالم». بهذه الجملة رسم بورقيبة بخطوط عريضة السياسة الخارجية التي سوف ينتهجها عندما سيصبح رئيساً لأول جمهورية تونسية. في ذلك الوقت كان بورقيبة في حوالى الخمسين من عمره. وكان فرض وجوده كزعيم سياسي كبير لا على المستوى التونسي والمغاربي فحسب، وإنما على المستوى العالمي أيضاً. وكانت المعارك الكبيرة والصغيرة التي خاضها منذ مطلع الثلاثينات وحتى ذلك الحين أثبتت ذكاءه ومهارته وبعد نظره وقدرته على المناورة وكسب الانتصارات حتى في أحلك الظروف. كما أثبتت تلك المعارك صلابته ورفضه أشكال التخاذل والخوف والتعلق بالمصالح الشخصية. وبفضل قيادته الرشيدة والحكيمة، أصبح الحزب الحر الدستوري الذي أنشأه في ربيع عام 1934، يتمتع بنفوذ كبير في البلاد، وبات يحظى بأنصار لا من الطبقات الفقيرة والمتوسطة فحسب، بل أيضاً من الارستقراطية الحاكمة، ومن البورجوازية الوطنية، ومن رجال الدين، ومن أعيان القبائل، ومن النخبة المثقفة الجديدة. وأمام تصاعد النضال الوطني في أنحاء البلاد، وانطلاق الكفاح المسلح في 18 كانون الثاني (يناير) 1952، اختارت السلطات الاستعمارية الفرنسية الرد بعنف. ففي مطلع 1952، عينت الحكومة الفرنسية جان دي هوتكلوك المعروف بتشدده مقيماً عاماً في تونس. وحال وصوله إلى ميناء بنزرت حيث استقبلته كتيبة عسكرية، أعلن أن «سياسة القوة هي الطريقة الوحيدة للحفاظ على مصالح فرنسا». وتحدياً لتصريحاته تلك، هبت التظاهرات في أنحاء البلاد، وسقط العديد من القتلى والجرحى. وفي 18 كانون الثاني من العام المذكور، داهمت الشرطة الفرنسية بيت الزعيم الحبيب بورقيبة وبيوت العديد من قادة الحزب الآخرين. وفي اليوم ذاته، اقتيد بورقيبة إلى طبرقة في حين أرسل مئات المناضلين الوطنيين إلى سجون ومحتشدات في شمال البلاد وجنوبها. في طبرقة، عومل بورقيبة في البداية بكثير من الاحترام والتقدير. فقد أقام في فندق بأربع نجوم، وكان يستقبل الزوار ومعهم يتحدث ساعات طويلة في الشؤون الوطنية. وهذا ما حصل مع الهادي نويرة، رفيقه في الكفاح، ومع فرحات حشاد، الزعيم النقابي الكبير. وكان بورقيبة يحب أن يشرب الشاي في فندق «الميموزا» فوق هضبة خضراء تطل على البحر. كما كان يرسل بنصائحه وأوامره إلى محمد المصمودي في باريس. وفي رسالة بعث بها لهذا الأخير بتاريخ 23 كانون الاول (ديسمبر) 1952 كتب يقول: «إننا اليوم على قاب قوسين من الخاتمة والمستقبل للحرية لا لاسترقاق البشر، وانتصار العقل السليم والعدالة قد يكون لأجل بعيد، لكنه سوف يأتي لا محالة، وسنأخذ نصيبنا منه عن جدارة». وبين وقت وآخر، كان يهاتف وسيلة بن عمار، حبيبة قلبه، التي أصبحت تحظى بمكانة خاصة في حياته العاطفية منذ أن تعرف عليها في شهر نيسان (ابريل) 1943 عندما جاءت لتهنئته في مناسبة عودته إلى الوطن بعد خمس سنوات في المنافي. المنفى الأخير وفي مطلع شباط (فبراير)، تمكنت الحركة الوطنية من وضع ملف القضية التونسية أمام الأممالمتحدة عبر كل من صالح بن يوسف ومحمد بدره. وكان رد المقيم العام الفرنسي دي هو تكلوك، إقالة حكومة محمد شنيق بتهمة التواطؤ مع الحركة الوطنية، ومع الحزب الحر الدستوري، وإرسال كل وزرائها إلى رمادة وتطاوين. أما بورقيبة فقد تم حرمانه من إقامته المريحة في طبرقة، ونقل إلى رمادة ليلتقي هناك رفاقه في النضال من أمثال الهادي نويرة والهادي شاكر والمنجي سليم وجلولي فارس. كما التقى هناك مناضلين شيوعيين يهوداً متعاطفين مع الحركة الوطنية. ومرتدياً بنطلوناً عسكرياً بلون رمال الصحراء، وواضعاً على عينيه نظارات كبيرة كتلك التي يستعملها سائقو الدراجات النارية، كان بورقيبة يمضي ساعات طويلة متنقلاً في المحتشد الصحراوي، سعياً للحفاظ على لياقته البدنية. ولما عاين دي هو تكلوك أن إجراءاته التعسفية تلك لم تنل من معنويات من أصبح الشعب التونسي يسمّيه ب «المجاهد الأكبر»، بل زادتها قوة وارتفاعاً، قرر عزله عن رفاقه، ونقله إلى «لافاليت» بجزيرة جالطة، شمال بنزرت وذلك في أيار (مايو) 1952. وكما ذكرنا فان بورقيبة آنذاك كان تخطى الخمسين من عمره. وكانت الشيخوخة ومتاعبها بدأت تلقي بظلالها القاتمة على ملامحه. وهذا ما تثبته الصور القليلة التي التقطت له هناك. ففي واحدة من هذه الصور، نراه واضعاً يديه على العكاز الذي كان يستعمله في جولاته اليومية في الجزيرة، وقد استغرق في تفكير عميق ووجهه مجلل بسحابة حزن سوداء. ولا شيء يدل على أنه كان شاعراً بوجود حسن الطبرقي المسلم الوحيد في الجزيرة، الذي كان جالساً بالقرب منه، ينظر إليه بفضول كبير محاولاً استكشاف ما كان يدور في خاطره. وفي أخرى، نراه جالساً على صخرة كان يحب التردد عليها، وقد أمسك بعكازه، وعند قدميه كلبه المحبوب «زورو» الذي لازمه طوال إقامته في الجزيرة. وتكشف بعض الرسائل عن إحساس مر بالشيخوخة ومتاعبها وآلامها. ففي رسالة بعث بها إلى ابنه الذي كان يدرس الحقوق في باريس، كتب يقول بمرارة: «مرت علينا تسعة أشهر لم نلتق فيها، وهذه المدة تساوي تسع سنوات على الأقل في حياتي. أجل هذه الأشهر القليلة التسعة، إضافة إلى السنوات التي قضيتها في الكفاح والشواغل والإجهاد، قد أنهكتني كثيراً، ولعل السبب أنني بحكم السن الذي بلغته بدأت أسير نحو الشيخوخة والضعف. ومما لا جدال فيه أن السير نحو الضعف أسرع بكثير من السير نحو الفتوة والقوة». السياسة والحب والمعتقل وفي الجزيرة المعزولة، كان بورقيبة يواظب على مطالعة ما كان يصله من كتب مثل «حذار تونس» للصحافي الفرنسي جان روس، ومختارات للشاعر الفرنسي فيكتور هوغو في مجلدين، و«تأثير للسفر إلى موسكو» لميشال غرادي، و«الانشقاق الكبير» لروبيرهارون، و«إفريقيا الشمالية تسير» للمؤرخ الفرنسي شارل اندريه جوليان. وفي رسالة بعث بها إلى الدكتور الصادق المقدم في تاريخ 16 آذار (مارس) 1953، ينصح رفاقه في الحزب والنضال بقراءة الكتاب المذكور واصفاً إياه ب»الجامع المانع». ويطلب منهم نقله إلى اللغة العربية لتعميم فوائده. ويكتب بورقيبة قائلاً: «هذا الكتاب صادر عن فرنساوي له قيمته في فرنسا وفي العالم ويحتوي على حقائق ووثائق رسمية لا يعلمها إلا القليل تضفي ضوءاً ساطعاً على نوايا فرنسا الاستعمارية في الشمال الإفريقي، وتكشف عن جوهر الخلاف القائم بيننا وبينها. وهو سيبقى قائماً ما دامت فرنسا متمسكة بإدماج تونس ومراكش في الكيان الفرنسي، أي مَحقهما من الوجود...». وعند وصوله إلى الجزيرة، أصيب بورقيبة بنزلة صدرية حادة إثر صعوده هضبة صخرية عالية، فتعكرت صحته، وبات يسعل طوال الوقت. مع ذلك ظل محافظاً على رباطة جأشه، رافضاً شفقة العدو الذي أبعده إلى تلك الجزيرة التي لم يكن سمع بوجودها من قبل. وفي رسالة بعث بها إلى المناضلين في محتشد رمادة في آب (اغسطس) 1952، كتب بورقيبة: «حقاً إنها أيام شديدة قضيتها في غرفتي صابراً صامداً، لم يسمع مني العدو كلمة تحسُّر أو استعطاف، حتى أني حجّرت على زوجتي الذهاب إلى السفارة لطلب رخصة لزيارتي تاركًا أمر نقلي أو الإفراج عني لمجهود الشعب التونسي النبيل، واثقاً أن سياسة القمع والإرهاب سوف تفشل قبل أن ينهار جهازي الرئوي الذي أضنته رطوبة الجو وتقلبات الطقس، مؤمناً أن هناك من بين قومي من هم أتعس حالاً، سواء الذين زج بهم في غياهب السجون المظلمة يتحملون الضرب والتعذيب والأشغال الشاقة أو من لا يزالون في حالة سراح يتحملون مسؤولية العمل ومسؤولية الكفاح المرير الذي يتوقّف على نجاحه نجاح الأمة بأسرها في معركة الحياة أو الموت. أخذ الله بيدهم وأعانهم على أمرهم وجعل التوفيق حليفهم». ونحن نلمس صلابة موقف بورقيبة، وعدم استسلامه لليأس في كل رسائل جالطة. وحتى عندما يشتد به المرض، ويشرع شبح الموت في الطواف حوله، يظل متمسكاً بصموده وصبره أمام المحن والتقلبات. وفي رسالة في أيار (مايو) 1953، كتب واصفاً صموده رغم المرض: «بعدما حدث لي، وهو على كل حال حادث خفيف (التواء فقرة في الظهر) اضطرني إلى ملازمة الفراش ملازمة أكيدة من جراء خناق كنت أظن أنني في مأمن منه منذ أجريت علي عملية اللوزتين في «بوبيني» سنة 1950. فما هي إلا بضعة أيام أقضيها في الحمى ليزول الالتهاب تدريجاً. وقد يصحب ذلك شيء من انحطاط الضغط الدموي والدوار والفتور. إن أيام المرض هذه، وعلى الأخص العزلة التي أنا فيها أبلت بدني إبلاء ظاهراً محسوساً... ولكن هذه المرة أيضاً سوف لن تكون النهاية. نعم هي آتية يوماً لا أظنه بعيداً، ويا للأسف، لذلك استقبل شبح الموت الرهيب بقدم ثابتة وتحد صريح على عادتي، وكما يليق ب «مجاهد أكبر»، لا يشق له غبار». وكان بورقيبة يرفض رفضاً قاطعاً كل تدخل لدى الحكومة الفرنسية لإطلاق سراحه وللتخفيف من معاناته. ولما علم أن وسيلة بن عمار، حبيبة قلبه وقعّت على لائحة موجهة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية تطالب بمنحه العفو، وتلتمس له الرحمة، استولى عليه الغضب وكتب لها معاتباً قائلاً (رسالة بتاريخ 5 أيار 1954: «إن هذا الصنيع (أي التوقيع على اللائحة المذكورة) من جانبك قد صدمني. فأنت لست امرأة عادية «هكة وبرة»، بل أنت وطنية ودستورية ومثلت الحزب في باريس وفي الأممالمتحدة وفي فرنسا. كما أنك عرفت الاضطهاد وعرفت السجون في باجةوبنزرت. ويجب أن تعرفي أني لم أقم إلا بواجبي كوطني، ولا يجوز أن أتساوى في الاعتبار مع مجرم يطلب له العفو والرحمة من أي كان». وفي الرسائل التي وجهها إليها، حرص بورقيبة على تأكيد حبه لوسيلة بن عمار واجداً فيه «خير سلوان»، بل وسيلة ناجعة للصمود والصبر. ففي رسالة بتاريخ 22 كانون الثاني 1952، كتب يقول: «أبدأ هذه الرسالة - وفؤادي يخفق وحنجرتي جافة من جراء شعور لذيذ. وهي الأولى بعد صمت طويل وفراق طويل ذقت من أجله الأمرين مما يعجز القلم عن التعبير عنه. إذ كيف استطعت أن أعيش 6 أشهر دون أن أتصل بكلمة منك؟ تلك هي المعجزة. إن إيماني اليقيني بحبك وبأني أتبوأ مكانة مفضلة في سويداء فؤادك، هو وحده الذي منحني هذه القوة على الصمود أمام الكوارث». وفي الرسالة نفسها، يواصل بورقيبة كلامه عن حبه لوسيلة: «رباه! لم هذا الحب العارم؟ لماذا هذه الحواجز المتراكمة بيننا؟ هذه الطريق المسدودة؟ وهذا الحب الذي لن يفل فيه شيء. فلكأن الأقدار أرادت أن تتلاعب بقلبينا الضعيفين وتبين لنا أن لا حول لنا ولا قوة لمواجهة القضاء المبرم». ويصف بورقيبة حبه لوسيلة بأنه «الحب الذي يضيء رحاب الحياة». وعندما تطلب منه وسيلة تمزيق الرسائل التي وجهتها اليه لئلا تنفضح قصة حبهما، يرد عليها بورقيبة في رسالة بتاريخ 5 كانون الثاني 1953، قائلاً: «ترجوني في رسالتك بتاريخ 12، أن أمزق رسائل. وكان جوابي أن لا حول لي ولا قوة على ذلك «لأن مسوداتك» اللطيفة تدخل علي من الحبور ولها من المكانة في نفسي ما يجعلني غير قادر أبداً على مفارقتها، ولئن كتب لها أن تنشر يوماً- عندما نغادر هذه الدنيا- فلن يجد فيها الناس إلا تعبيراً عن حب نزيه، نظيف، وصادق، ولن يضرنا ذلك لا في ذاكرة البشر ولا في أعين مواطنينا. ذلك أن هذا الحب العارم لم يحل بيننا وبين أداء واجبنا إزاء أسرتنا وإزاء وطننا. وهو أهم ما في الأمر». ويشعر بورقيبة بالفخر عندما تعلمه وسيلة بأنها لن تمزق رسائله لأنها درر، ويكتب لها في الرسالة نفسها: «لكن، في خصوص رسائلي فأنت تزعمين أنه لا يمكنك تمزيقها لأنها درر رائعة! هذا يدعوني إلى الاعتزاز. لا أعلم هل أن الأجيال القادمة ستزكي رأيك فيها، إذ لم أفكر في صوغ درر رائعة عندما حاولت التعبير في صفحات سودت على عجل عن الحب العميق الذي أكنه لك. ومهما يكن من أمر فرسائلك أيضاً هي بالنسبة إلي دريرات رائعة. فرغم تواضع زادك في المعرفة (على حد زعمك أنت)، فإنك تهتدين أحياناً إلى الكلمة الصائبة والمؤثرة أيما تأثير، للتعبير عن لطيف المشاعر التي أحس بصدقها». وعادة ما يختلط الحب بالسياسة في الرسائل التي كان بورقيبة يوجهها إلى وسيلة بورقيبة. ففي رسالة بتاريخ 23 كانون الثاني 1954، يروي «المجاهد الأكبر» لحبيبة قلبه، القصة التالية: في تشرين الاول (اكتوبر) 1952، قدم الطبيب العام للبحريّة (برتبة أميرال) لمقابلته عارضاً عليه نقله إلى فرنسا (قبل فصل الشتاء) مشترطاً في آخر المحادثة أن يراسل السيد دي هوتكلوك في هذا الأمر، وعلى الخصوص أن يلازم الهدوء. غير أن بورقيبة رفض هذين الشرطين. ولم يسافر في الباخرة التي أقلت ماتيلد زوجة بورقيبة وأخاه وأخته. وفي إحدى الرسائل الموجهة إلى وسيلة بن عمار، يذكر بورقيبة بالأحابيل والفخاخ التي نصبتها له السلطات الاستعمارية بهدف الإيقاع به، وتشويه سمعته، غير أنّه عرف كيف يتخلص وينجو منها ضامناً بذلك النجاح للحزب وللحركة الوطنية برمتها. ولأن سياسة القوة والعنف التي انتهجها دي هوتكلوك زادت الأوضاع تعفناً وأغرقت البلاد في الاغتيالات السياسية، فإن السلطات الفرنسية عينت مكانه مقيماً عاماً آخر يدعى بيار فوازار في 23 أيلول (سبتمبر) 1953. ومنذ البداية، اختار المقيم العام الجديد سياسة اعتدال في ظاهرها. فقد ألغى القرارات الجائرة التي اتخذها سلفه مثل منع التجول والرقابة على الصحافة. في الآن نفسه أبدى استعداده للتعامل مع «المعتدلين» في الحزب الدستوري معلناً عن استعداد السلطات الفرنسية للقيام بإصلاحات، وتقديم الكثير من التنازلات لمصلحة الحركة الوطنية. بالإضافة إلى ذلك، تمت الإطاحة بحكومة صلاح الدين البكوش، وتبديلها بحكومة يرأسها السيد محمد صالح مزالي. غير أن بورقيبة لم يكن راضياً عن كل هذا، بل اعتبر أن السياسة الجديدة التي انتهجها بيار فوازار، «مناورة» فرنسية أخرى لضرب الحركة الوطنية، وتذويب الهوية التونسية، وتشريع المشروع الاستعماري. وبعد أن استقبل رشيد مزالي، نجل رئيس الحكومة الجديدة، الذي جاءه طالباً مساندته، كتب بورقيبة رسالة إلى وسيلة بتاريخ 5 أيار 1954، يسخر فيها من «إصلاحات» فوازار، ومن الحكومة الجديدة. وقد كتب يقول: «وقد تسألينني بخصوص مقابلتي الشاب رشيد مزالي: «لماذا لا تتظاهر بالتنازل عن موقفك، وذلك على الأقل لاسترجاع حريتك أو الحصول على نقلتك إلى باريس حيث يمكنك أن تقاوم كل تجربة فوازار بأكثر فاعلية، ويمكنك ربما تغيير الموقف لمصلحة القضية التونسية؟». وللإجابة على هذا السؤال، يختار بورقيبة أن يعطي درساً في الفكر السياسي لحبيبة القلب، ويكتب اليها قائلاً: «هذه الفكرة لم تجل بخاطري لأني أكره الكذب وأكثر منه النفاق. مع أني أعرف أن ذلك يعتبر عيباً ونقطة ضعف عند الرجل الديبلوماسي، حيث إن كل الديبلوماسية المعاصرة تكونت في مدرسة منافق عبقري خان كل الأنظمة حتى ربه». يلجأون اليه بعد الثورة! لا يوحّد بين التونسيين اليوم غير الوفاء لبورقيبة والاعتزاز به زعيماً وإنساناً تميز بخصال نادرة لم يتميز بها رجالات عصره. ومن الصباح حتى المساء ظل الاحتفال بالذكرى الحادية عشرة لوفاته متواصلاً حتى هبوط الليل على أنغام الأناشيد الوطنية القديمة والتراتيل القرآنية. وكان من الصعب على الزوار الوصول إلى الضريح لقراءة الفاتحة على روح «باني تونس الحديثة». وفي البيت العائلي بحي «الطرابلسية» كان الازدحام شديداً، إذ إن جل الزوار كانوا يرغبون في مشاهدة المعرض الوثائقي الذي أقيم في المناسبة والذي احتوى على صور للزعيم في مسيرته النضالية المديدة قبل الاستقلال أو بعده. وقد يتساءل البعض عن أسباب هذا الوفاء المؤثر الذي أظهره التونسيون لبورقيبة خلال الاحتفال. وأظن أن الجواب سهل، فهم يعيشون راهناً مرحلة تتسم بالتذبذب والترجرج والخوف من الحاضر ومن المستقبل بسبب تداعيات وإفرازات الزلزال الذي هز بلدهم مطلع عام 2011. وبالتالي هم بحاجة إلى من يساعدهم على استعادة توازنهم وثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على مواجهة المصاعب التي قد تغرق بلادهم في الفوضى والاضطرابات. ولعلهم وجدوا في بورقيبة جل خصال الشخصية التي يرغبون في اللجوء إليها في هذه الفترة من تاريخهم. وليس هذا بالأمر الغريب، فبورقيبة قاد النضال الوطني من أجل الاستقلال، متحملاً في سبيل ذلك المنافي والعذاب بذكاء وفطنة وصلابة من دون أن يضعف أو يتخاذل. وعندما تسلم السلطة حرص على مقاومة مظاهر التخلف والانحلال والتزمت محارباً الأمراض الاجتماعية. كما حرص على نشر التعليم. وعندما كان الحكام العرب يصرفون مبالغ طائلة لشراء الأسلحة وتكديسها في المخابئ بهدف خوض حروب أدت في ما بعد إلى هزائم منكرة، كان هو يبني المدارس في كل مكان مردداً في خطبه الكثيرة بأنه لا يستطيع أن يبني دولة حديثة، وأن يوفر النجاح لبرنامجه الإصلاحي معتمداً على «شعب أمي». معركة الشيخوخة في صبيحة السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1987 فاجأ الأطباء بورقيبة وقد استيقظ للتو من النوم، ليوقع أمامهم وهو مذهول وثيقة تثبت عجزه عن مواصلة أداء مهامه. وهو الذي أوصى بأن يحمل نعشه يوم وفاته على الأكتاف من تونس العاصمة إلى المنستير، مسقط رأسه. لا بد أنه فكر وهو يغادر قصر قرطاج للمرة الأخيرة أن الإنسان يمكن أن ينتصر في معارك كثيرة، غير أن معركته مع الزمن خاسرة دائماً وأبداً. وهكذا لم يحسن بورقيبة التحرر من فتنة السلطة وإغراءاتها وسحرها تماماً مثل كل الحكام الشرقيين المستبدين. ومنذ أن تولى زين العابدين بن علي الحكم وحتى هروبه في 14 كانون الثاني (يناير) 2011، سعى إلى إخراج بورقيبة من التاريخ التونسي، مستعملاً في ذلك جميع الطرق والوسائل. فأثناء العزلة الطويلة التي عاشها في مسقط رأسه المنستير وكأنه «الذئب الجريح» في قصيدة ألفريد دوفينيي التي كان يعشقها، أخضع بورقيبة لرقابة مشددة. ولم يكن يسمح له باستقبال زواره إلا بإذن من بن علي نفسه. لكن، رغم الشيخوخة والمرض، ظل بورقيبة محافظاً على شيء من صفائه الذهني وعلى قدرته على قراءة الأحداث قراءة صحيحة وموضوعية، وعندما غزا العراق الكويت في صيف 1990 صرح لجريدة «لوموند» الفرنسية أن صدام حسين أوقع نفسه في فخ يصعب عليه الخلاص منه. وقد أثبتت الأحداث صحة رؤيته. كما ظل بورقيبة محافظاً على رباطة جأشه فلم يبدِ ضعفاً ولا تخاذلاً أمام نظام بن علي، وحتى وفاته في 6 نيسان (ابريل) 2000، بقي وفياً لنفسه وأفكاره كما كان دائماً وأبداً. رفض بن علي نقل موكب تشييع الجثمان إلى مقبرة آل بورقيبة على شاشات التلفزيون، وقد حضرت الموكب شخصيات عالمية مثل الرئيس الفرنسي جاك شيراك والرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة. كما حضرته جماهير غفيرة من أنحاء البلاد. وبكاه الكثير من التونسيين بمن في ذلك أولئك الذين كانوا معارضين له بالأمس. حتى أبناء الأجيال الجديدة الذين لم يعيشوا زمنه هبوا إلى المنستير لتوديعه الوداع الأخير. وبعد سقوط نظام بن علي استعاد بورقيبة شعبيته. وعاد التونسيون إلى مسيرته النضالية وإلى أفكاره الإصلاحية والتحديثية، باحثين فيها عما يمكن أن يساعدهم في مواجهة مصاعب المستقبل ومخاطره، وفي الذكرى الحادية عشرة لوفاته، انتظمت احتفالات ضخمة في المنستير. وقد حضرت شخصياً الاحتفالات التي توافد عليها آلاف الزوار من مناطق الجمهورية، فبالإضافة إلى الشخصيات المرموقة التي حضرت الاحتفال وجلها من الزمن البورقيبي ومن المسؤولين الكبار الذين عملوا إلى جانب المجاهد الأكبر ومعه ساهموا في إرساء دعائم نظامه، كانت هناك أجيال مختلفة، شيوخ وعجائز، كهول، نساء في منتصف العمر، شبان وشابات في ربيع الحياة. وكانت هناك أيضاً أعداد وفيرة من الأطفال، كما كانت هناك طبقات وفئات متنوعة، أغنياء وفقراء، رجال أعمال وعمال بسطاء، فلاحون وموظفون، مثقفون وأميون.