يلقى المهاجرون المسلمون في عدد من الدول الغربية كثيراً من العنت وسوء المعاملة لارتباطهم في أذهان الناس بشعوب وثقافة وعقيدة تشجع على العنف والإرهاب وترفض الثقافات والعقائد الأخرى، ولذا فقد يكون من الخير للغرب وحضارته التخلص منهم بالنبذ والإبعاد إن أمكن مع إخضاعهم في كل الأحوال للرقابة الشديدة. وساعد على تعميق هذه المشاعر والنظرة الضيقة لدى الغربيين حرص الجاليات الإسلامية هناك على التمسك بكثير من مظاهر الهوية الإسلامية سواء من طريق الاحتفاظ بالعادات والتقاليد بما في ذلك ارتداء النساء للحجاب وما أصبح يعرف باسم الزي الإسلامي أو الميل إلى الإقامة في مناطق سكنية تكاد تكون مغلقة عليهم مع عدم الميل إلى الاندماج مع المواطنين الأصليين أو التعامل معهم إلا في أضيق الحدود مما يؤخذ على أنه مؤشر على عدم الانتماء إلى الدولة التي يقيمون فيها ويدفع الكثيرين من الأهالي بالتالي إلى الشك والريبة فيهم والرغبة في التخلص منهم باعتبارهم دخلاء يهددون بثقافتهم وسلوكهم التماسك الاجتماعي كما يثير التساؤل العام والخطير عما إذا كان يحق لهم التمتع بحقوق المواطنة السياسية على رغم رفضهم الصريح لثقافة الدولة المضيفة. وهذا التساؤل قد يجد له الإجابة الشافية في ما يذهب إليه بعض الكتاب المعاصرين من ضرورة التفرقة داخل المجتمع الواحد بين المواطنة السياسية التي يخضع لها جميع أفراد المجتمع والمواطنة الثقافية التي تميز الجماعات الفرعية الموجودة داخل ذلك المجتمع عن الثقافة العامة التي يشار إليها أحياناً باسم الثقافة الرسمية المميزة لمجتمع الدولة ككل. فالمواطنة الثقافية تعني حق الجماعات الفرعية والأقليات في الاحتفاظ بهويتها الثقافية الخاصة حتى لا يتم احتواؤها ودمجها تماماً في الثقافة العامة الرسمية السائدة في المجتمع بشرط ألا يترتب على ذلك عدم المشاركة في شكل إيجابي وفعال في مختلف أنشطة الحياة والالتزام التام بالقوانين والقواعد الأساسية المنظمة للحياة العامة في الدولة، وهذا يعني ضمناً تقبل مجتمع الدولة لوجود هذه الجماعات المتمايزة ثقافياً والاعتراف بحقها في الاحتفاظ بمقومات ثقافتها الخاصة وتفهمه للمبادئ التي تقوم عليها تلك الثقافة والقيم التي تكمن وراء مظاهرها الخارجية من سلوكيات وعلاقات قد تختلف اختلافاً جوهرياً عما درج عليه الأهالي الأصليون الذين يؤلفون غالبية السكان. فالمواطنة الثقافية تقتضي إذاً قبول الآخر كعضو في المجتمع مع احترام ثقافته وهو الأمر الذي لا يكاد يتحقق الآن في مجتمعات الغرب بالنسبة للمواطنين المسلمين وبخاصة الذين ينحدرون من أصول عربية وتنكر عليهم الاعتزاز بالأمور المميزة لهم اجتماعياً ودينياً وترى في ذلك دليلاً على التعصب الديني والعداء للآخرين وعلامة على عدم الانتماء السياسي والولاء للدولة التي يعيشون فيها. والشيء الذي يغفله الغربيون، حين يتهمون المواطنين المسلمين بالتعصب للهوية الإسلامية ولأصولهم العربية، أن التمسك بمظاهر تلك الهوية هو نوع من الدفاع عن الكيان ومحاولة لإثبات الوجود الذاتي ضد هيمنة الثقافة الغربية التي تحاول، بما تملك من عوامل قوة التأثير، إزالة ومحو كل الثقافات المغايرة. فالاعتزاز بمظاهر الهوية الإسلامية هو نوع من التحدي للمواقف العدائية أو حتى العدوانية التي تقفها الثقافة الغربية من ثقافات من تعتبرهم أغراباً ودخلاء عليها وأنهم يهددون أصحاب تلك الثقافة الأصلية في رزقهم ومعاشهم وتنسى ما يقدمه هؤلاء الأغراب الدخلاء المهاجرون من خدمات للمجتمع الذي أصبحوا ينتسبون إليه وذلك من طريق القيام بأعمال أساسية وحيوية لا تجد من بين السكان الأصليين من يقوم بها أي أنهم يسهمون في تنمية وارتقاء ورخاء تلك المجتمعات. ويذهب الأستاذ ريناتو روزالدو أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة ستانفورد الأميركية - وهو الذي صاغ في الأصل تعبير المواطنة الثقافية - إلى أن جماعات الأقليات التي تعيش في أي مجتمع وتعتبر أعضاءها مواطنين في ذلك المجتمع يمكنها الحصول لأعضائها على حقوقهم العامة كمواطنين كاملي المواطنة وعلى اعتراف الدولة والشعب بوجودهم ككيان متمايز داخل الدولة وذلك من طريق العمل الجاد من أفراد هذه الأقليات على نشر ملامح وخصائص ومقومات ثقافاتهم الخاصة والحرص على التعبير عنها بقوة ومثابرة وبكل الطرق والوسائل إلى أن يتم حفرها وتثبيتها في ذاكرة المجتمع وبذلك يفرضون ذاتيتهم وهويتهم الخاصة على المجتمع، الكبير بحيث يضطر في آخر الأمر إلى تعديل مواقفه المعارضة ونظرته الرافضة. والواقع أن هذا بالضبط هو ما تفعله الجاليات الإسلامية التي تعيش - كمواطنين شرعيين - في الدول الغربية، وهو حق مشروع لها ما دامت لا تعتدي على حقوق الآخرين في مجتمعات تؤمن بالحرية والديموقراطية، ولكن حين يصل الأمر إلى الثقافة الخاصة بالمواطنين المسلمين فإنها ترى في تلك الثقافة نوعاً من العدوان السلبي - إن صح التعبير - على ثقافتها الوطنية التي يفترض - من وجهة النظر الغربية - أن يتقبلها بحذافيرها هؤلاء المهاجرون ولو كان ذلك على حساب ثقافتهم الأصلية بكل ما تشتمل عليه من قيم وسلوكيات وأخلاقيات و ثوابت عقائدية. وعن هذا الموضوع كتبت جين رولاند مارتن مقالاً طريفاً عن المواطنة الثقافية نشر في مجلة بوسطن ريفيو تقول فيه إنه في دولة مثل الولاياتالمتحدة الأميركية التي قامت منذ البداية على أساس الاختلاف والتنوع والتعدد النوعي والعرقي والديني فإنه يكون من التعسف أن يخضع كل هذا الخليط المتنافر من الثقافات لهيمنة ثقافة واحدة هي ثقافة فئة معينة من المهاجرين البيض الوافدين من أوروبا، وأن يطلب من كل الآخرين تقبل هذه الثقافة بحذافيرها وإغفال ثقافاتهم الخاصة التي قد تكون أقدم وأعمق وأكثر عراقة من ثقافة هؤلاء الأوروبيين البيض، وأن مثل هذا المطلب يعتبر سياسة خاطئة وخطيرة، وبخاصة إذا تم فرضها بقوة القانون لأن عملية الدمج في هذه الحالة ستأتي من طرف واحد وتتعارض مع حقوق الإنسان ومبادئ الديموقراطية الصحيحة. وهذا القول - أو الحكم - ينطبق بغير شك على موقف فرنسا وألمانيا من مسألة الحجاب بالنسبة للمواطنات المسلمات اللاتي يحملن الجنسية الفرنسية أو الألمانية، بينما تقضي السياسة الحكيمة بترك الأوضاع تسير في مجراها العادي تطبيقاً لمبدأ التنوع الثقافي، ويتم التغيير تدريجاً وبطريقة تلقائية نتيجة لتأثر الأقلية المسلمة بمرور الوقت بالثقافة السائدة في المجتمع وإن كان هناك مع ذلك احتمال أن يحدث العكس بمعنى أن تؤدي قوة تمسك النساء المسلمات بالحجاب إلى انتشاره تدريجاً بين صفوف الفرنسيات أو الألمانيات بحيث يصبح موضة جديدة وبذلك يتحقق ما يذهب إليه الأستاذ روزالدو من أن قوة تمسك الأقليات بقيمها وعاداتها وتقاليدها قد يؤدي إلى حفر حقوقها وتثبيتها في ذاكرة المجتمع وبالتالي توكيد وترسيخ مبدأ المواطنة الثقافية. وساعدت التغيرات الجذرية التي تحدث في عالم اليوم نتيجة للاستسلام لدعاوى العولمة وازدياد التحركات السكانية وبخاصة الهجرة للعمل في الدول الأجنبية على ظهور أنماط جديدة وطريفة من المواطنة غير المواطنة السياسية التقليدية المعروفة. وليست المواطنة الثقافية سوى مثال واحد من تلك الأنماط الجديدة التي يدور الحديث عنها في هذه الأيام. فهناك مثلاً المواطنة الإيكولوجية التي تشير إلى الارتباط القوي بين البشر والبيئات الفيزيقية التي يعيشون فيها وما يفرضه عليهم هذا الارتباط من حقوق والتزامات تتعلق بأسلوب التعامل مع البيئة من حيث الاستغلال من ناحية والمحافظة عليها من الناحية الأخرى، بل وأيضاً حقوق الدفاع عن تلك العلاقة ضد أي تدخل خارجي لتعديلها أو تغييرها. وقد تقف حقوق المواطنة الإيكولوجية عقبة أمام تنفيذ مشروعات التنمية التي قد تحرم فئة من السكان من الانتفاع بالأرض أو الموارد الطبيعية في المنطقة التي ارتبطوا بها تقليدياً ومنذ زمن بعيد وفي هذه الحالة قد يكون من حق هؤلاء السكان رفض التدخل بل والاحتكام في ذلك إلى القانون للدفاع عن حقوقهم من ناحية وللمحافظة على الأوضاع البيئية التقليدية من الناحية الأخرى. وهناك ما يسمى بمواطنة الحراك Mobility Citizenship التي تضمن للجماعات أو حتى الأفراد كثيري الانتقال من دولة إلى أخرى والاتصال بالتالي بثقافات ومجتمعات مختلفة أن يطالبوا أثناء إقامتهم في أي مجتمع غريب بالحقوق كافة التي يتمتع بها المواطنون الأصليون. فجماعات الغجر مثلاً من حقهم أن يعاملوا المعاملة نفسها التي يلقاها مواطن الدولة التي تحل بها تلك الجماعات وهكذا. ومن شأن هذه الأنماط الجديدة من المواطنة أن تسبب كثيراً من القلق والانزعاج للمسؤولين السياسيين في المجتمعات التي تثور فيها المشكلات المتعلقة بهذه الأنماط والتي قد تتطلب إعادة النظر في نظمها وقوانينها وأعرافها التقليدية الراسخة. فمفهوم المواطنة أصبح يمثل الآن إشكالية معقدة تحتاج إلى دراسة لإيجاد حلول للإعتبارات الجديدة والمعقدة حتى يمكن تحقيق المواءمة والسلام من طريق مراعاة واحترام أساليب الحياة وطرق التفكير وأنواع المتطلبات المختلفة التي تعتبر عناصر أساسية في ثقافات جماعات معينة لها كيانها الخاص المستقل والمتمايز داخل المجتمع ولكنها تعتبر في الوقت ذاته جزءاً من بناء ذلك المجتمع. والمهم هنا في ما يتعلق بالمواطنة الثقافية هو أن الاعتراف بهذا التميز الثقافي وقبوله واحترامه قد يكون عاملاً مؤثراً في إثراء الثقافة الوطنية كما قد يحل كثيراً من المشكلات الاجتماعية التي تعانيها مجتمعات الغرب في الوقت الحالي من الأعداد المتزايدة التي تفد إليها من الخارج والتي تنتمي إلى ثقافات مختلفة تريد الاحتفاظ بها إلى جانب تمتعها بحقوق والتزامات المواطنة السياسية. ودرج علماء الأنثروبولوجيا في حديثهم عن التقاء وصراع الثقافات والاستعارة الثقافية من مجتمعات أخرى أن يميزوا بين ما يسمونه بالتغيير الثقافي الودي Friendly والتغيير الثقافي العدواني Hostile الذي يتم من طريق القهر والقسر من خلال فرض القوانين وهو ما كانت تلجأ إليه الحكومات الاستعمارية لتغيير أساليب الحياة وطريقة التفكير في المستعمرات. وزال الاستعمار واختفى واختفت معه كل التغييرات والتعديلات التي فرضها على تلك الشعوب بالقوة، ولكن بقيت التغيرات التي تقبلتها تلك الشعوب عن اقتناع. فهل يكون في هذا درس وموعظة لدول الغرب في موقفها من الأقليات السكانية وبخاصة المسلمين الذين يريدون أن يكونوا مواطنين صالحين يسهمون من طريق العمل في المحافظة على سير الحياة الطبيعية في المجتمعات التي يحملون جنسيتها وأن يحافظوا أثناء ذلك على مبادئ وسلوكيات وأخلاقيات ثقافتهم الأصلية التي لا تسبب ضرراً حقيقياً للنظام السياسي والبناء الاجتماعي والعلاقات الإنسانية في تلك المجتمعات؟ * أنثروبولوجي مصري.