تثير مواقف الرفض والعداء التي تتخذها شعوب بعض الدول الغربية من الأقليات العِرقية والدينية التي تتألف من المهاجرين الوافدين من الخارج للإقامة والعمل، وكذلك القيود الشديدة التي تفرضها حكومات تلك الدول على تحركات هؤلاء الوافدين والاعتراض على كثير من مفردات أساليب الحياة التي يتبعونها ومقاومة القيم الخاصة بهم والتي تحدد لهم سلوكياتهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم الداخلية، كثيراً من الشكوك والتساؤلات حول صدقية النظم الديموقراطية الليبرالية في ما تزعمه عن الاعتراف بمبدأ التعددية الثقافية والتسامح مع الآخر وإمكان تعايش الثقافات المختلفة المتباينة في المجتمع الديموقراطي الذي يحترم خصوصية الأفراد والجماعات داخل نطاق النظام العام الذي يسود المجتمع. فالواضح من الأحداث والوقائع والقرارات الرسمية التي تصدر عن هذه الحكومات وبخاصة في الآونة الأخيرة أن ثمة كثيراً من المحاذير والتحفظات تتمسك بها هذه الدول ضد الثقافات الأجنبية الوافدة مع هؤلاء المهاجرين الذين يحملون على أية حال جنسيات الدول التي يعيشون ويعملون فيها كمواطنين على رغم أن تلك الثقافات الوافدة ثقافات محافظة وغير ليبرالية ولا تتفق مبادئها وقيمها مع المعايير الغربية الليبرالية التي تتيح للفرد قدراً كبيراً جداً من الحرية في التفكير والسلوك تختلف كل الاختلاف عن مظاهر الكبت والقهر التي تميز الثقافات المحافظة والتي يخضع لها أعضاء تلك الأقليات، ولذا ترى هذه الحكومات أن من حقها التدخل في شؤون هذه الجماعات لتعديل وتغيير أو حتى تحريم ومنع بعض السلوكيات الخاصة المميزة ضماناً للمحافظة على التوافق الاجتماعي والتناغم الثقافي داخل المجتمع. وتنسى هذه الحكومات أن هذا التدخل يمثل في حد ذاته خروجاً على مبادئ الليبرالية وإهداراً لمفهوم التعددية الثقافية ويكشف عن التناقض بين الشعارات النظرية التي تتغنى بها تلك الدول وبين الواقع المشاهد المحسوس الملموس الذي تفرضه على تلك الفئات والجماعات بقوة القانون كي تتخلى عن نظمها وقيمها ومفهومها للحياة وتراثها الثقافي التقليدي وتذوب بالتالي كليةً في المجتمع الكبير. فالديموقراطيات الليبرالية في الغرب لا تتورع في محاولاتها تغيير القيم التي يؤمن بها مواطنوها من الأقليات الوافدة عن الالتجاء إلى أساليب القهر والقسر نفسها التي تُصف بها الثقافات الليبرالية التي جاء منها أفراد تلك الأقليات. وعلى أية حال فإن الوضع في المجتمعات الغربية في ما يتعلق بالنظرة إلى تلك الأقليات صعب وشائك ويحتاج إلى كثير من التروّي والمرونة والحكمة حتى يمكن تجنب الصراع السافر الذي قد يتخذ شكل العنف المتبادل للدفاع عن الكيان الاجتماعي والمقومات الثقافية المتعددة ذات التوجهات المتعارضة. ولقد أفلحت الثقافات الليبرالية في الغرب في تحرير الفرد من كثير من القيم التقليدية المتوارثة والأحكام التي تفرضها تلك القيم بخاصة الأحكام المتعلقة بمفهومي الصواب والخطأ. فلم يعد الفرد - على سبيل المثال - يعطي أهمية كبرى لمبدأ المسؤولية الشخصية المستمد من القيم الأخلاقية والتعاليم الدينية ويرفض أن تكون تصرفاته وحياته الخاصة وتعامله مع الآخرين محلاً للتقويم والحكم عليه اجتماعياً وأخلاقياً كما يحدث في المجتمعات والثقافات المحافظة أو غير الليبرالية. فالصواب والخطأ مفهومان تعسفيان صاغهما أشخاص سوداويون متسلطون لإخضاع الآخرين لإرادتهم ووجهة نظرهم المتعسفة الضيقة ولذا يجب رفضهما حتى يحيا الفرد حياته بالطريقة التي تروق له. وقد تكون هذه نظرة متطرفة لفهم مبدأ الليبرالية وما تكفله للفرد من حرية شخصية. وعلى ما تقول غرترود هيلمفارب في مجلة Academic Question 2000 التي تصدرها رابطة الأساتذة الأكاديميين في أميركا، إن هذه النظرة المتطرفة قد تؤدي في آخر الأمر إلى إهدار هيبة ورهبة الأخلاق المجتمعية. وتستشهد على ذلك بآراء وأقوال عدد من أساتذة الجامعات حول مواقف طلابهم السلبية من بعض المشاكل الشائكة التي يرفضها الرأي العام العالمي مثل مشكلة التطهير العرقي والتمييز العنصري وتجارة الرقيق والشذوذ الجنسي والإدمان ودعارة الأطفال وما إليها، وتقبلهم لهذه الأوضاع الشاذة على أنها أمر واقع لا ينبغي الحكم عليه بالصواب أو الخطأ لأن كل شيء نسبي في هذه الحياة، وأن إطلاق الأحكام التقويمية هو نوع من الاستبداد في الرأي وعدم التسامح والرغبة في التحكم في الآخرين وهو عكس ما تقضي به معايير الليبرالية السليمة من اتساع الأفق وتقبل آراء وسلوكيات الآخرين. والمفارقة هنا هي أنه في الوقت الذي يتيح فيه المجتمع الديموقراطي الليبرالي كل هذه الحرية بل والتحرر للفرد في ما يتعلق بآرائه وأفكاره وتصرفاته التي قد تخرج على النمط العام السائد في المجتمع فإن هذا المجتمع نفسه يرفض منح مثل هذا الحق للجماعات العرقية والأقليات الوافدة المقيمة فيه ويمنعها من ممارسة حياتها بطريقتها وأسلوبها الخاصين تبعاً لمنظومة القيم الدينية والأخلاقية التي تعتنقها، بل إنه قد يعمل على نبذ وطرد هذه الجماعات إن أخفق في احتوائها ودمجها تماماً في الثقافة القومية التي تعترف بها الدولة. ويزداد الموقف تعقيداً في الحالات التي تتمركز فيها تلك الجماعات بأعداد كبيرة في مناطق محددة وفي شكل يلفت الأنظار إليها بحيث يمثل وجودها وسلوكها نوعاً من الاستفزاز لمشاعر بقية السكان كما هو شأن العرب في فرنسا والأفارقة في بريطانيا والأتراك في ألمانيا وهكذا. وكثيراً ما تثير هذه الأوضاع مشكلات ذات أبعاد سياسية وأخلاقية وفلسفية حول إمكان التوفيق بين الاعتراف بمبدأ التعددية الثقافية وفقاً للفكر الليبرالي وبين المحافظة على وحدة المجتمع وتماسكه وهويته الثقافية المتميزة على رغم عدم التجانس ورفض الأقليات التنازل عن هويتها كخطوة للاندماج في الكل الاجتماعي. فالمأزق الذي تواجهه هذه الدول الديموقراطية إذاً هو صعوبة الجمع بين مبدأ احترام الآخر بخاصة إذا كان هذا الآخر ينتمي في الأصل إلى ثقافة غير ليبرالية وغير ديموقراطية ومتطلبات المحافظة على الوحدة وعلى الكيان الاجتماعي والثقافي مع الالتزام في الوقت ذاته بمبدأ العمل على تحرير الأفراد من القهر الاجتماعي الذي قد يتعرضون له من جراء انتمائهم إلى ثقافاتهم الأصلية المحافظة. وقد تمثل هذا المأزق في الآونة الأخيرة في موقف فرنسا من غطاء الرأس أو الحجاب الذي تتمسك به المواطنات المسلمات. وأخذت المسألة أبعاداً قد تكون أكبر من حجمها الحقيقي ونشأت عنها أزمة اجتماعية انقسم الرأي العام حيالها وكان من الممكن أن تتحول إلى أزمة سياسية تتجاوز حدود الدولة الفرنسية. والواقع أن مسألة الحجاب كانت أثيرت في فرنسا نفسها في الثمانينات من بعض الكُتّاب بحجة الدفاع عن علمانية التعليم في دولة علمانية ليبرالية، وشاركتهم في ذلك بعض الحركات النسائية التي ترى في الحجاب رمزاً على قهر المرأة المسلمة واستعبادها، ولم يعط الرأي العام الفرنسي لهذه الدعاوى كثيراً من الاهتمام في ذلك الحين بعكس ما حدث أخيراً مما قد يوحي بوجود عوامل أخرى جديدة ساعدت على اشتعال الموقف مثل تزايد الشعور بخطورة اتجاهات بعض الجماعات الإسلامية الرافضة لثقافة الغرب. والغريب في الأمر هنا هو أن بعض الأوضاع المناقضة للقيم الغربية ولحركات التحرر النسائي لم تثر في فرنسا مثل الأزمة التي أثارها تمسك المسلمات الفرنسيات بالحجاب. والمثال الذي يحضرني هنا هو ظاهرة تعدد الزوجات في العائلات الأفريقية المقيمة في فرنسا. ففي الثمانينات أيضاً من القرن الماضي سمحت الحكومة الفرنسية للمواطنين من أصول أفريقية باستدعاء زوجاتهم العديدات للإقامة معهم. ويقدر البعض عدد هذه العائلات البوليجامية بحوالى مئتي ألف عائلة في باريس وضواحيها، ويبلغ حجم بعضها عشرين شخصاً يقيمون في مسكن واحد تحت ظروف غير آدمية حيث تزدحم المساكن بالزوجات وأطفالهن مما لا يحقق للمرأة خصوصياتها حتى في معاشرة الزوج. وحاولت الحكومة الفرنسية أخيراً معالجة هذا الوضع الذي يتعارض مع الأعراف والقيم والقوانين الغربية فاعترفت بزوجة رسمية واحدة فقط واعتبرت الزيجات الأخريات باطلة. وبطبيعة الحال لم يغير هذا الإجراء من الواقع شيئاً بالنسبة لتعدد الزوجات وإن نجمت عنه مشكلات جديدة تتعلق بالوضع الاجتماعي والقانوني لهؤلاء الزوجات الأخريات وأطفالهن ومصيرهم جميعاً. وفي مقال طريف في عنوان هل التعددية الثقافية ضارة بالنسبة للمرأة؟ ظهر في "بوسطون ريفيو" تقول الكاتبة سوزان موللر أوكين: إن ادعاء الحركات الليبرالية والنسائية الرغبة في تحقيق المساواة بين الجنسين وتحرير المرأة من الاضطهاد والقهر الاجتماعي لا يمكن اعتباره مبرراً كافياً لثورة الرأي العام الفرنسي ضد حرص النساء المسلمات على التمسك بالحجاب كرمز للهوية الثقافية الخاصة بينما لا يعترض هذا الرأي العام الفرنسي ذاته على تعدد الزوجات الأفريقيات على رغم أن المرأة الأفريقية نفسها ترفض هذا النظام وتطالب بإلغائه. فهناك تناقض بين الموقفين يكشف عن نوع من النفاق الاجتماعي في مجتمع ليبرالي ديموقراطي المفروض أنه يحترم الخصوصيات الثقافية للمواطنين مما قد يشير إلى وجود أبعاد وعوامل أخرى خفية تفرض على دول الغرب الديموقراطي اتخاذ مواقف متعارضة ومتناقضة إزاء مشاكل من النوع نفسه. وهذا يتطلب من هذه الدول مراجعة سياساتها حتى لا تفقد صدقيتها أمام الشعوب. * إنثروبولوجي مصري.