تكاد المهرجانات الفنية والثقافية ان تصبح العلامة البارزة للكثير من الاقطار العربية في السنوات الاخيرة. فهذه الظاهرة التي بدأت مع مهرجانات بعلبك اللبنانية في آخر الخمسينات من القرن الفائت ما لبثت ان اتسعت سنة بعد سنة لتنتقل الى عشرات المدن والحواضر العربية الاخرى. فمن مهرجان المربد في العراق الى جرش في الاردن ومن مهرجان قرطاج في تونس الى الرباط في المغرب ومن الجنادرية في الرياض الى المحبة في اللاذقية. لكن بعض البلدان العربية لم تقتصر نشاطاتها الصيفية والشتوية على مهرجان واحد بل بات لكل مدينة او بلدة مهرجانها المستقل كما هي الحال في لبنان حيث اتسعت دائرة المهرجانات لتشمل كلاً من جبيل وعنجر وزحلة وبيت الدين وصور وكذلك الامر في سورية والاردنوتونس والمغرب ومصر وغيرها من البلدان. هذه الظاهرة هي من حيث المبدأ صحية وايجابية ومؤشر حيوية وعافية أكيدتين. فهي على الاقل تتيح للجمهور العربي المغلوب على امره والذي طحنه القهر وأثقلته الهزائم السياسية والعسكرية ان يتنفس الصعداء ويستعيد بعضاً من لحظات السعادة النادرة ولو مرة كل عام. ذلك ان الاحساس بالقنوط والفراغ واللاجدوى قد حول بعض المهرجانات، على هشاشتها، الى محطة سنوية يتيمة يتم انتظارها بفارغ الصبر من جانب الكثيرين الذين يدخرون من اجلها ما تسمح به ضائقة العيش ووطأة العوز المتفاقم. كل ذلك بالطبع مفهوم ومبرر في جوانبه الفنية المتعلقة بالغناء والموسيقى والمسرح والرقص على انواعه. لكن ما لا يمكن تسويغه وتبريره هو حشر الشعر بالذات وسط هذه المعمعة من الضجيج والفوضى والصخب اليومي. صحيح ان الفنون بجميع تفرعاتها تحتاج الى قدر كبير من التأمل والاصغاء والصمت، بما فيها الغناء والموسيقى والرقص، ولكن الشعر على وجه الخصوص لا يحتمل التشويش والصخب وتشتيت الانتباه. وهو يبدو وسط العروض الاخرى الفن الاكثر عرضة للافتئات والاهمال والتهميش. ان المشكلة في اساسها ناجمة عن التحولات الهائلة التي حكمت النظرة الى الفن في العقود الاخيرة، وهي نظرة تقوم على مبدأ الترفيه والمتعة السمعية والبصرية من جهة وعلى مبدأ الربح والمنفعة والاستثمار المالي او السياسي من جهة اخرى. فالجمهور الذي كان يصغي لأم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ بكل جوارحه ويستنفر عبر الاصغاء كل ما لديه من ثقافة فنية ورهافة في الاصغاء والتمييز هو غير الجمهور الذي يتهافت اليوم على أغنيات عمرو دياب وهيفا وهبي ونانسي عجرم وعاصي الحلاني وغيرهم. انه الجمهور الوافد من الفراغ والخيبة وانسداد الآفاق والذي لا يمتلك القدرة على الاصغاء والاستجابة لنداء الاعماق، بل ان هدفه الاساس هو نسيان الواقع المر والتماهي مع الاجساد الطافحة بالغرائز والصراع الشهواني الذي يعلن سيادته على المرحلة. كيف يمكن للشعر اذاً ان يجد مكاناً له وسط فضاء هائج لا يعمل الا على طمسه وتغريبه! ان اصرار منظمي المهرجانات على استدعاء الشعراء في الفانات والباصات الكبيرة ونقلهم الى اماكن الالقاء يجعل هؤلاء اشبه بالفرق الكشفية والرياضية او ببعض فرق الرقص والاستعراض حيث يؤدي كل واحد منهم "وصلته" وعرضه المنوط به ثم يخلي الساحة لسواه. وحين تصبح الخطابة والتهريج ورفع الصوت وإثارة الحماسة العاطفية هي المقياس الموضوع للنجاح لا يملك الشاعر في حال كهذه سوى السقوط في الفخ واختيار القصائد الأبعد عن الهمس والكثافة والعمق والأقرب الى دغدغة العواطف واستدرار التصفيق. فالمناخ العام للمهرجانات ليس محكوماً بشروط القراءة الشعرية الهادئة، بل بالشروط التي يفرضها الحشد المفلت من عقاله والمندفع خارج نفسه بحثاً عن افراغ طاقته في الرقص والتمايل والهتاف. ان حال الشعر في المهرجانات الفنية السنوية هي الحال نفسها في برامج الترفيه والتسلية التي تقدمها الفضائيات في برامجها الصباحية الطويلة، حيث لا تختلف فقرة الشعر كثيراً عن الفقرة المخصصة للطبخ او التنجيم او عروض الازياء. فالشعراء هنا وهناك يبدون طارئين وأيتاماً ومغردين خارج السرب. ليس غريباً في وضع كهذا ان لا تضيف المهرجانات اي جديد يذكر الى الشعر او الى الجمهور او الى الشاعر نفسه، خلافاً لما كانت عليه الحال في مطالع السبعينات حيث كانت ملتقيات الشعر العربي الاولى في بيروت وبغداد ودمشق، وبغداد حافلة بالأسماء المفاجئة والمواهب الجديدة واللافتة للأنظار. لقد آن الأوان اذاً لأن يعود الشعر الى ينبوعه وكهفه ومكانه الاصلي والى العتمة الخالصة التي تشع في الاعماق بعيداً من الرطانة والتهريج وجوقات الحماسة والتطريب. ولا يعني ذلك بالقطع دعوة الى ترك المنبر ونبذ الالقاء والعودة الى بطون الكتب والغاء متعة السماع، بل يعني اعتماد الأمسيات الشعرية المنفردة كوسيلة انجح للقاء بين الكاتب والمتلقي. فالحشود المتزاحمة والمنبر المكتظ بأرتال الشعراء لا يتركان للشعر سوى فرصة الانتشار الافقي والانتشاء الموقت والعابر في حين ان الامسيات الحميمة والضيقة وحدها هي التي تتيح للطرفين فرصة البحث عن الذهب وارتياد الاعماق.