يتجنب كثير من المتحدثين والكاتبين العرب تحديد ما يقصدونه بالتراث عندما يتناقشون فيه وحوله. والملاحظ ان كثرة من هؤلاء المتجنبين للحديث المحدد هم من غير المتدينين، او من غير ذوي الاختصاص بالتاريخ الإسلامي او الفكر الإسلامي. ولذا فقد يرجعُ ترددهم الى ان التراث يتضمن ايضاً او بالدرجة الأولى النص القرآني، ومدوّنات السنّة النبوية، والحقبة الذهبية في التاريخ الإسلامي، في نظر الكثرة الكاثرة من المسلمين. وهذه القضايا او الأمور الثلاثة ليس من المقبول التعرض لها بالقراءة النقدية او الجدالات التفكيكية. بيد ان هؤلاء العلمانيين او اليساريين او الليبراليين... الخ مهجوسون هم ايضاً بالموروث الحضاري المقدّس منه وغير المقدّس. ولذلك فهم يعمدون الى النظر إليه بعيون الحاضر، فيصنّفونه الى تقدمي ورجعي ووسط بين الأمرين. والواضح من وراء ذلك او تأسيساً عليه ان الإسلاميين الجدد يقرأون "التراث" قراءة ايديولوجية، وغير المتدينين يفعلون الشيء نفسه وإن بطرائق اخرى. لكن لماذا هذا الهُجاس بالتراث او بالموروث سواء على سبيل الإنكار او الانتقاء او التقدس الشامل؟ وهل يدخُل ذلك في باب الخصوصية العربية او الإسلامية، ام ان سائر الأمم التي تعتبر نفسها "تاريخية" تخضعُ لقواعد الخلاف نفسها او الاتفاق في القضية التراثية؟ يختلف مفكّرو الأمم والأديان الأخرى حول موروثهم الحضاري مثل اختلاف العرب والمسلمين او اكثر. لكن لدى الأمم الآسيوية بالذات، كان الأمر اهون وإن لم يكن الصراع على التراث أقل شدة وعنفاً. فالموروث الحضاري يدخل لدى الهنود والصينيين واليابانيين ضمن "التقاليد" في الأكثر. ولذلك فالخلاف ينصبّ على امكان إعاقة "التراث" للحداثة او انه لا يؤثّر في ذلك. وهكذا فإننا عندما نتحدث عن التقاليد الصينية او اليابانية او الهندية، إنما نتحدث في شكل مباشر عن الطابع الوطني او القومي، ونتحدث عن نوع من العقلية mentality والأعراف التي توحّد او تحدد او تطبع الجماعات اكثر من الأفراد. وفي عمليات التغريب الكاسحة ذهب اليابانيون الى عدم التعارض، وانقسم الهنود بسبب النظام الطبقي الموروث المصطبغ بصبغة دينية، وحاول الشيوعيون الصينيون والروس احداث قطيعة قاطعة مع التقاليد حتى ذات الأصول الدينية. واتخذت المسألة التراثية منحى آخر لدى الأوروبيين والأميركيين، بسبب وجود النص المقدس المشبه في انضوائه ضمن التراث، بما لدى المسلمين واليهود. الأوروبيون قطعوا في عمليات تاريخية عسيرة مع المؤسسة الدينية في المجال العام، وليس مع الدين او التاريخ. والأميركيون اسسوا حداثتهم على تأويلات راديكالية للنصوص والتجربة الأولى في الموطن الجديد طوال القرون الثلاثة بين السادس عشر والتاسع عشر. فميراث الآباء المؤسسين لديهم ذو قيمة رمزية كبيرة، لكن تأويلات ذلك الميراث تكاد تشبه القطيعة لولا التبني المعلن بالمعاني الجديدة لذلك. وخلاصة الأمر ان مسألة الماضي الديني والثقافي، شغلت وتشغل سائر الأمم، وإنما تختلف طرائق الإدراك والمعالجة. وهناك امثلة كثيرة اليوم، ومن سائر انحاء العالم، على ثوران تراثي او حركات وتيارات "أصالة" نسمّيها إحيائيات او أصوليات قومية او دينية او ثقافية. وهي على رغم جدتها تتخذ سمات المحافظة على التقاليد او الأعراف او الهوية الوطنية او القومية او الدينية. وهناك بالقوة نفسها، وإن ليس بالكثافة ذاتها، تيارات وحركات تقاتل ذاك الماضي وتعتبره عائقاً امام التوحد والتقدم والحداثة. ولهذا لا اختلاف من هذه الجهة بين العرب والمسلمين من ناحية، والأمم الأخرى في ما يخص مواجهة تحدي إحيائية الموروث او العودة الرمزية إليه. ومع ذلك، فهناك اختلاف كبير، في وظائف ذلك الاهتمام ونتائجه بيننا وبين عوالم الأمم والديانات الأخرى. فالتوازن الآسيوي في الهندوسية والبوذية والشنتو والكونفوشيوسية يشدد على الرموز والانضباط الأخلاقي والسلوكي. ويهدف الى تجديد آليات التضامن الاجتماعي وسط عواصف الحداثة التغييرية. والثوران المسيحي الغربي والبروتستانت اكثر من الكاثوليكيين حتى الآن يهدف لاستحداث تواصل اوشك ان ينقطع مع الماضي، ويهتم لدى الجماعات الإنجيلية الجديدة بمصائر العالم، والرؤى المسيانية الخاصة بالمستقبل. وهو في كل الأحوال، وحتى عندما يتسيّس، لا يرمي لتغيير النظام العام، بل يريد الحفاظ على صورة مثالية له يتصورها على نحو من الأنحاء. اما الثوران الإحيائي لدينا وربما لدى الجماعات اليهودية فهو تغييري مباشر، وفي المجال الخاص، كما في المجال العام. إنه يريد بناء الفرد المسلم الكامل، وإقامة الدولة الإسلامية الكاملة، وليس بالمعنى العام او الطابع العام، بل بالمعنى النصي والمحدد والدقيق. ولأن الموروث التاريخي متعدد الى ما لا نهاية ويناقض مراد الإحيائيين في التوظيف، يتم القفز فوق التاريخ، وفوق التأويلات المختلفة للنصوص، وينكمش كل شيء ويتقلص تبعاً للوعي المستجد، فلا يبقى للنصر غير معنى واحد، او وظيفة واحدة، تحدث انقساماً وصداماً مع الآخر في مجتمعاتنا، ومع الآخر في الخارج، فضلاً عن تجاهل التمازج القائم والمتنامي بين الأمرين. هذا وجه من وجوه الاختلاف بين التعامل المعاصر مع الموروث، بيننا وبين الأمم والثقافات الأخرى. اما الوجه الآخر المهم فهو تلك المساحات الشاسعة من الموروث والتي يجرى رفضها او تجاهلها، حيث تبدو حضارتنا بمظهر الحضارة الدينية البحتة بعد اجتراح مفهوم جديد للدين والثقافة والتراث والهوية والانتماء. وهذا الأمر حاولته شخصيات تراثية كبرى في تاريخنا، كما تحاوله شخصيات اخرى اليوم. فالإمام الغزالي اراد ان يُعرض المسلمون عن تعلّم الرياضيات والطبيعيات، لأنها مأخوذة من وجهة نظره عن اليونان والشعوب الأخرى غير المسلمة، وجاءت تلك العلوم من ضمن منظومات فيها الميتافيزيقا الإلهيات وهو يخشى ان يظنّ المسلمون ان لاهوت اولئك هو في مثل يقينية رياضياتهم وفيزيائهم وطبيعياتهم. وهكذا فقد كانت مشكلته لا ان رياضيات اليونان والهند غير صحيحة او طبّهم غير صحيح، بل في انتماء تلك العلوم او انضوائها ضمن انظمة ميتافيزيقية باطلة. وما اخذ المسلمون برأي الغزالي في ذلك، كما انهم ما استطاعوا الأخذ بجاهلية المودودي وسيد قطب ومحمد قطب وآخرين، والتي وسموا بها العصر وسائر منجزاته. وهكذا فقد كان هناك اتجاه وسيط يقول بالتفرد والحضارة المتفردة التي تأبى التناقض حتى في مجال الأوليات والبديهيات الإنسانية، لكنه كان اتجاهاً هامشياً في تلك الثقافة المزدهرة والتعددية. فالغزالي نفسه الذي كتب "المنقذ من الضلال" كتب ايضاً مقاصد الفلاسفة، وكتب المستصفى في اصول الفقه، الذي يقول في مقدمته إن من لم يعرف المنطق اليوناني لا يوثق بعلمه! وكانت لنا تجربة اخرى مع الموروث النصي والثقافي في الأزمنة الحديثة في ما بين العشرينات والسبعينات من القرن الماضي، حيث ظهر اعلام محقِّقون ودارسون للنصوص والتاريخ القديم والوسيط، بطرائق شمولية منفتحة، ترمي لكتابة تاريخنا الثقافي باعتباره ناتج تثاقف في المراحل التكوينية والحاضرة، والعملية كلها من اجل الاستيعاب والتجاوز، وما حال تقدير المقدَّس والاعتراف به، من دون القراءة النقدية الكاشفة. تشكّل مسألة الموروث الثقافي امراً مشتركاً لدى سائر الأمم، وفي سائر الديانات، وتلك التي تملك نصوصاً مقدّسة او مؤسسات وأعرافاً وترتيبات راسخة. بيد ان الأمم الأخرى، وعلى مشارف الأزمنة الحديثة، وفي خضمّها، واجهت تحديات الموروث بطرائق مختلفة، يمكن القول انها اكثر نجاحاً - لحد الآن على الأقل - من تجربة العرب والمسلمين في ذلك. ولا يرجع ذلك الى اختلاف طبيعة الموروث في مجالنا الحضاري، عن المواريث في الحضارات الأخرى، كما زعم برنارد لويس، وهنتنغتون وأحزابهما. برنارد لويس قدّر ان ذلك سببه امجاد ذاك الموروث، وفشلنا في مواجهة تحديات الحداثة، حيث ارتددنا على أعقابنا، وتمسّك اصوليونا بدوغمائية ظالمة للإسلام وللعالم من حولنا. وهنتنغتون يرى ان الإسلام اصولي بالطبيعة، ويبدو ذلك بأجلى وضوح في اوقات الأزمات، حيث تبرز الحدود الدموية لذاك الإسلام. والذي أراه ان مكمن الخلل في تجربتنا مع الدولة والنظام السياسي. فبسبب فشل تجربة الدولة في المجال العربي، وأكثر المجال الإسلامي، نشب تناحر بين الدين والدولة على المشروعية، كان من نتائجه تفاقُمُ الأصولية التي اصطنعت مقدّساً ارادت استخدامه للاستيلاء على الدولة، مستنصرة بالموروث، مصدر تلك المشروعية. وحاولت الأصوليات في الديانات والثقافات الأخرى القيام بالشيء نفسه، فلم تنجح، لأن التجربة السياسية الحديثة والناجحة لديها، اوجدت مرجعيات اخرى، يصعب إلغاؤها او القفز فوقها، لالتفاف فئات كبرى في الجمهور من حولها.