انشغل نصر حامد أبو زيد بهاجس رئيس هو الخلط الواضح بين الدين كما يطرح ويمارس في شكل إيديولوجي يجعل منه موضوعاً للاستغلال بالتأويلات النفعية، وبين الدين بعد تحليله وفهمه وتأويله تأويلاً علمياً يستبقي ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية. ولديه، فإن التوحيد بين فهم الدين أي الفكر الديني، وبين الدين نفسه يؤدي مباشرة إلى التوحيد بين البشر أصحاب الفهم الديني وبين الله الموحي بالدين، ومن ثم اعتماد نصوصهم بوصفها نصوصاً أولية تتمتع بذات قداسة النصوص الأولية تقريباً، على نحو يجعل المعاصرين يترددون في تخطئة كثير من آراء علماء الدين، بل والتستر أحياناً على هذه الآراء وتبريرها على رغم أنها نتاج عقل بشري مثلنا، الأمر الذي يضفي قداسة على الإنسان والزمان ويعطل دور العقل في التاريخ، إذ يحيله عقلاً تبريرياً لفهم الأولين الديني، يسهم في بناء سلطة التراث ومد سيطرتها على الواقع، بل وعلى العقل نفسه. وهكذا يتم إهدار البعد التاريخي بتوهم التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه وبين مشكلات الماضي وهمومه، وافتراض إمكان صلاحية حلول الماضي للتطبيق على الحاضر الأمر الذي يساهم في تعميق اغتراب الإنسان والتستر على مشكلات الواقع الفعلية في الخطاب الديني. في هذا السياق يتوقف أبو زيد كثيراً عند أئمة ثلاثة لعبوا دوراً كبيراً في التحول الذي أصاب مفهوم النص سواء في اتجاه توسيع حدوده أو إحكام سيطرته على العقل العربي. أولهم هو الشافعي كرائد لعلم أصول الفقه. (ت. 204)، حاول أن يلعب دور الوسط بين فقه الحجاز الأكثر محافظة (الإمام مالك) وفقه العراق الأكثر تحرراً (الإمام أبي حنيفة). ولأهميته أفرد له أبو زيد كتاباً خاصاً بعنوان «الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجيا الوسطية» أكد فيه أنه لم يأخذ فعلياً موقفاً وسطياً توفيقياً في المعركة الفكرية التي دارت آنذاك بين أهل الأثر (مالك) وأهل الرأي (أبي حنيفة)، بل انحاز إلى أهل الحديث ضد أهل الرأي مكرساً سلطة التراث أو النص بالمعنى الواسع، خصوصاً أنه قال بمرجعية السنّة النبوية، ومنحها مشروعية القرآن الكريم كاملة محولاً إياها إلى (نص). وثانيهم أبو الحسن الأشعري (ت. 324) كرائد للوسطية في علم الكلام بين أهل السنّة والجماعة من جانب، والتيار المعتزلي من جانب آخر، أى بين التشبيه والتنزيه بلا كيف في قضية الذات والصفات، وبين نظرية الجبر (الجهمية) ونظرية الاختيار (القدرية) في قضية الحرية الإنسانية في مواجهة الله جل شأنه والتي ضمنها الأشعري في نظريته عن الكسب، والتي نراها من جانبنا أقرب كثيراً إلى نظرية الجبر من الاختيار وذلك على رغم كون الأشعري نشأ على الاعتزال في سني شبابه واجتهاده المبكر قبل أن يتحول إلى موقفه الجديد. وأما ثالثهم فهو الإمام الغزالي (ت. 505) كمتفلسف ثم كصوفي نحا بالثقافة العربية في اتجاه المحافظة، اذ طالب بأن تكون الأشعرية عقيدة رسمية للدولة، وأن تكون الشافعية مذهبها الفقهي، أي أنه حاول التكريس لسلطة سلفية في أصول التوحيد والفقه اللذين رآهما وسطيين، رافضاً المعتزلة من المتكلمين ناهيك بالفلاسفة الذين انتهى إلى تهافتهم وزندقتهم في كتابه الشهير، وخصوصاً بعد أن كان وجد ملاذه في التصوف لكنه لم يرد أن ينادى به كنظرية في الحكم يفرضها على الدولة، بل فقط أراده ثقافة واختياراً لعموم الناس تبعاً لأذواقهم. وهنا يرى أبو زيد أن الإمام الغزالي، لشيوع أفكاره وتجاوب العامة معها، لعب دوراً حاسماً في الميل بالثقافة العربية نحو التقليد وابتعاداً عن التجديد أو العقل، ملاحظاً نوعاً من الارتباط بين أطروحاته، وهي الأطروحات التي صارت مهيمنة في مجال الفكر الديني، وبين البنى الاجتماعية والسياسية السائدة، وهي ملاحظة يراها لا تزال قائمة، ونوافقه على ذلك، في الواقع الراهن إذ يتحالف الفكر الديني المحافظ مع السلطة السياسية المستبدة لحجب الحقيقة في الوعي، وتأميم السلطة والثروة في الواقع. وبعد أن ينتهى أبو زيد من تفكيك (النص التراثي) الذي لم يعد قابلاً لحمل هذا الاسم (النص) يقوم بتجاوزه إلى (النص القرآني) نفسه مخضعاً إياه لمفهوم (التاريخية)، ومؤكداً الطبيعة المزدوجة للنص التي تجمع بين الإلهي والبشري، وأن التحليل التاريخي الاجتماعي لظاهرة الوحي لا يتعارض مع المصدر القدسي للوحي، وأن فهم القرآن بوصفه بناء لغوياً ومنهجاً ثقافياً لا يعني إنكار جانبه الإلهي. ولا يعني الإلحاح على تاريخية النص لدى أبو زيد أدنى إشارة إلى عجزه عن مخاطبة عصور تالية أو مجتمعات أخرى، فالقراءة التي تتم في زمن تال أو في مجتمع آخر تقوم على آليتين متكاملتين: الإخفاء والكشف، تخفي ما ليس جوهرياً بالنسبة اليها وهو ما يشير عادة إلى الزمان والمكان إشارة لا تقبل التأويل، وتكشف عما هو جوهري بالتأويل. فالنصوص دينية كانت أو بشرية محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين، لأنها «تأنسنت منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد. إنها محكومة بجدلية الثبات والتغير، فالنصوص ثابتة في «المنطوق» متحركة متغيرة في «المفهوم»، وما يخرج على سياق هذه التاريخية هو فقط النص القرآني في معناه الضيق، لا الواسع أي الآيات المحكمات التي تفصح عن نفسها مباشرة، ويتفق ظاهرها مع باطنها حتى أنها لا تقبل التأويل أو لا تحتاج إليه فيما تخرج الآيات غير المحكمات، فضلاً عن السنّة النبوية عن سياق النص بهذا المعنى. وعلى رغم ما مثّله ذلك الفهم من صدمة لقناعات الخطاب الديني المعاصر على النحو الذي تبدّى في المعركة الشهيرة ضد الرجل، فإنه لم يكن جديداً تماماً، إذ يمكننا تلمس أصداء فكرته عن تاريخية النص لدى مفكر عربي مارس جلّ اجتهاده من داخل الثقافة السائدة هو مالك بن نبي في كتابه «الظاهرة القرآنية»، وبالذات في سياق فهمه لظاهرة التنجيم، أي نزول القرآن منجماً (مجزءاً) على فترات متباعدة، وفي مناسبات مختلفة، ولأسباب متباينة يبرزها القرآن الكريم نفسه وهو يخاطب النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بقوله: «وقال الذين كفروا لولا نُزّلَ عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا « (الفرقان: 32). فلم يكن أحد يستطيع أن يتصور.. كما لمّح مالك بن نبي.. كيف كان القرآن يؤدي دوره في إحاطة المسلمين بالعناية الإلهية المناسبة، وتعزيز جهودهم، ودفع أرواحهم وإرادتهم لو أنه سبق بنزوله أحداث موقعتي «حنين» و «أُحد» فلم يكرم بآياته الصريحة قضاء هذا الشهيد أو استشهاد ذلك البطل؟ .. وماذا يكون الأمر لو أنه لم يأت لكل ألم بعزائه العاجل، ولم ينزل لكل تضحية جزاءها، ولكل هزيمة أملها، ولكل نصر درسه في الاحتشام؟ ويجيب بن نبي: «لو نزل القرآن جملة واحدة لتحول سريعاً إلى كلمة مقدسة خامدة وإلى فكرة ميتة، وإلى مجرد وثيقة دينية، لا مصدر يبعث الحياة في حضارة وليدة» (الظاهرة القرآنية ص180 181). وأما تحديده الضيق لمفهوم النص فهو الآخر قديم نجده لدى السيوطي في الجزء الثاني من كتابه (الإتقان في علوم القرآن، ص4، طبعة القاهرة) والذي يستشهد أبو زيد بتقسيمه للقرآن طبقاً لدرجات الوضوح الدلالي إلى أربع درجات بالترتيب التالي: أولاً : الواضح الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، وهو النص. ثانياً : الذي يحتمل معنيين لكن أحدهما هو المعنى الراجح (الأقوى) والآخر معنى مرجوح (محتمل)، وهذا هو الظاهر. ثالثاً : الذي يحتمل معنيين كلاهما يساوي الآخر في درجة الاحتمال، وهو المجمل. رابعاً : الذي يحتمل معنيين غير متساويين في درجة الاحتمال، ولكن المعنى الراجح (الأقوى) ليس هو بالمعنى القريب (الظاهر) كما في الثاني، بل الراجح هو المعنى البعيد، وهذا النوع هو المؤول. في هذا السياق نتفق مع أبي زيد حول مبدأ إعادة تعريف وتحديد مفهوم «النص» كوسيلة لإعادة فرز التراث وفهمه، غير أننا نخالفه في أمرين مهمين ربما نجما عن رغبته الجامحة في التجديد، ونزعته الجذرية في الاجتهاد: الأمر الأول قوله أن النص منذ لحظة نزوله الأولى، أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي، تحول من كونه (نصاً إلهياً) وصار فهماً (نصاً إنسانياً)، لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل. ولعل هذا الإدراك صحيح مبدئياً لولا أنه يرتب عليه دعوته إلى (عدم الالتفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتية للنص، على فرض وجود مثل هذه الدلالة الذاتية. فمثل هذا الزعم يؤدي إلى نوع من الشرك من حيث أنه يطابق بين المطلق والنسبي، وبين الثابت والمتغير، حين يطابق بين القصد الإلهي والفهم الإنساني لهذا القصد ولو كان فهم الرسول. إنه زعم يؤدي إلى تأليه النبي، أو إلى تقديسه بإخفاء حقيقة كونه بشراً، والتركيز على حقيقة كونه نبياً. (نقد الخطاب الديني، 126). فإذا كان ما ذهب إليه أبو زيد بقوله إن فهم النبي للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري صحيحاً، فإن اختلافنا معه يبقى حول تصوره عن قصور قدرة النبي على فهم الدلالة الذاتية للنص القرآني، فمن يفهم تلك الدلالة إن لم يفهمها النبي (صلى الله عليه وسلم). أما تدليله على هذا القصور بحقيقة كون النبي بشراً لا إلهاً فتدليل نظنه تجاوز الصواب لأن النبي وإن كان خاضعاً في الرؤية الإسلامية للوجود لتلك الفجوة الواضحة بين الله والإنسان ضماناً لعدم التشبيه والتجسيد، ومحكوماً، من ثم، في حياته على الأرض وسلوكه العملي ورؤاه الذاتية بشروط الوجود الإنساني، إلا أن ثمة معطيات تجعله متجاوزاً (أخلاقياً) ، إنه بالقطع ليس مقدساً ولكنه يبقى معصوماً من الله على هذا الصعيد. وأما على الصعيد النظري فتبقى له بالضرورة قدرة موازية على فهم الدلالة الذاتية للنص الذي يقوم بتبليغه، والتي لا ترجع فقط إلى كونه المتلقي الأول له، بل لكونه أيضاً المتلقي المباشر للوحي الذي قد يلقي في نفسه مع الكلام (الوحي المحسوس) إيحاءات أو إشارات قد تكون بمثابة (وحي معقول) ، تعطي قراءة النبي للنص خصوصيتها وقدرتها الفائقة على فهم دلالته الذاتية. هذا الاختلاف مع أبي زيد ينبع من خطر العدمية الذي ربما واجه النص مع الإفراط في النزعة التاريخية بحيث لا يكون للنص مركز قط ومنذ اللحظة الأولى ما يهدد بطغيان مكوّن التغير على مكوّن الثبات. يضاف إلى ذلك ما يحفزه هذا الفهم في الوجدان العام من إيحاء بقصور في معنى النبوة أو في عمق حضورها ربما يدفعه إلى رفض كلي للنزعة التاريخية، على رغم قيمتها المحورية في فهم التراث بركامه الواسع وطبقاته الممتدة وخصوصاً في التيارات الجبرية التي أهدرت الحرية الإنسانية، وقريب منها نظرية «الكسب» الأشعرية المحافظة أو في نزعات القياس الفقهي الشافعي التى كرست لسلطة التقليد إذ انتصرت لأهل الأثر على أهل الرأي، وصولاً إلى نفي مفهوم «السببية الطبيعية» لدى الغزالي لحساب عادة «الاقتران» وهو التصور الذي عطّل كثيراً قدرة العقل العربي المسلم على قراءة الكون وفهم العالم الطبيعي ومن ثم تحقيق التقدم العلمي والتاريخي. والأمر الثاني هو التعسف في التعامل مع النص القرآني، ونزوعه إلى تأويل ما نظنه محكماً من آيات سورة النساء حول أحكام الميراث ... فكون الإسلام أعطى المرأة نصف نصيب الذكر بعد أن كانت مستبعدة استبعاداً تاماً، وفي واقع اجتماعي/ اقتصادي تكاد تكون المرأة فيه كائناً لا أهلية له وراء التبعية الكاملة للرجل أباً ثم زوجاً لا يمثل لديه مجرد حقيقة تاريخية ثابتة، بل «اتجاه تقدمي للوحي واضح تماماً وليس من المقبول أن يتوقف عند حدود المدى الذي وقف عنده في السابق، وإلا انهارت دعوى الصلاحية لكل زمان ومكان من أساسها، واتسعت الفجوة بين الواقع المتحرك المتطور وبين النصوص التى يتمسك الخطاب الديني المعاصر بحرفيتها» (نقد الخطاب الديني، 135) . ويترتب على ذلك مطلبه بأن تكون المرأة (الابنة مثلاً) قادرة على حجز ميراث الأب وحدها مثل الابن تماماً فلا يمتد إلى الأقارب. ولعل مناط اختلافنا مع هذا الفهم ليس فقط كونه يتصادم مع نص صريح في القرآن نراه محكماً، بل كونه مثيراً لنوع من النسبية بل العدمية، فإذا أخذنا الآية في سياقها التاريخي دليلاً على اتجاه مستمر لا حقيقة ثابتة، ها هو أبو زيد يدفع به اليوم إلى حد مساواة المرأة بالرجل في حجب الميراث، فهل من حق مجتهدين لهم مثل كفاءته المعرفية أن يمنحوا لها غداً أولوية على الرجل في حجب الميراث أو نسبة أكبر من نسبته فيه بحجة أن العقل قد صار أكثر ارتقاء وقدرة على تبين مقاصد الوحي وتوجهاته التقدمية (المستمرة) في التاريخ؟ إن ارتقاء العقل في التاريخ، وهو حقيقة أساسية نؤكد عليها، ربما أضاف فعلاً قدرة هائلة على تبين غايات الوحي في تكريس إنسانية المرأة، ولكن من الذي قال أن إنسانية المرأة مقرونة فقط بنصيب في الميراث، ففي مجتمعنا المتمدين نلمس كيف تنامى حس إنساني رفيع تجاه المرأة الزوجة والابنة على نحو يجعلها الآن موضع تدليل مفرط ورعاية فائقة تفوق الولد في البيئات الأكثر رقياً من دون حاجة إلى إعادة اجتهاد حول نص قرآني محكم ربما أثارت الفوضى في معاملات الناس، ودفعت الوعي العام الى النظر بريبة إلى الفكر التجديدي حتى في القضايا المحورية على صعيدي العقل والحرية ونظن أن ذلك ما حدث مع أبي زيد حيث سعى الفكر الديني الرجعي، بخبث شديد، إلى وضعه في الزاوية الضيقة للحلبة الفكرية تسهيلاً للانقضاض عليه بدلاً من الحوار معه، ومن ثم حجبت راديكاليته الطفيفة مشروعه العميق عن الانسياب الهادئ في مجرى الثقافة العربية.