نائب أمير الشرقية يستقبل مدير جوازات المنطقة بمناسبة تعيينه    اعتقالات وحواجز أمنية وتفجيرات.. جرائم إسرائيل تتصاعد في «جنين»    الجبير يلتقي عددا من الشخصيات على هامش منتدى دافوس الاقتصادي    الأمير محمد بن ناصر يدشن المجمع الأكاديمي الشرقي بجامعة جازان    إحباط تهريب 352275 قرصاً من مادة الإمفيتامين المخدر في تبوك    «روشن» شريك استراتيجي للنسخة الرابعة لمنتدى مستقبل العقار 2025    محافظ الخرج يستقبل مدير مكافحة المخدرات    أنغولا تعلن 32 حالة وفاة بسبب الكوليرا    تكريم 850 طالبًا وطالبة بتعليم الطائف    أمير الشرقية يكرم الداعمين لسباق الشرقية الدولي السادس والعشرين للجري    توقيع شراكة بين جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل وجمعية هجر الفلكية    جامعة حائل تستضيف بطولة ألعاب القوى للجامعات    الشيباني: الأكراد تعرضوا للظلم وحان بناء دولة المساواة بين السوريين    500 مليار دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي بالولايات المتحدة    إلى رقم 47 استمتع بها.. ترامب يكشف عن رسالة بايدن «الملهمة    صندوق الاستثمارات العامة وشركة "علم" يوقّعان اتفاقية لاستحواذ "علم" على شركة "ثقة"    فرصة هطول أمطار رعدية على عدة مناطق    ارتفاع أسعار الذهب إلى 2748.58 دولارًا للأوقية    كعب «العميد» عالٍ على «الليث»    الاتحاد والشباب.. «كلاسيكو نار»    وفاة مريضة.. نسي الأطباء ضمادة في بطنها    انخفاض في وفيات الإنفلونزا الموسمية.. والمنومون ب«العناية» 84 حالة    وزير الخارجية من دافوس: علينا تجنّب أي حرب جديدة في المنطقة    محافظ الخرج يزور مهرجان المحافظة الأول للتمور والقهوة السعودية    سكان جنوب المدينة ل «عكاظ»: «المطبّات» تقلقنا    10 % من قيمة عين الوقف للمبلّغين عن «المجهولة والمعطلة»    سيماكان: طرد لاعب الخليج «صعّب المباراة»    تأسيس مجلس أعمال سعودي فلسطيني    أبواب السلام    إنستغرام ترفع الحد الأقصى لمقاطع الفيديو    قطة تتقدم باستقالة صاحبتها" أون لاين"    «موسم العرمة» .. طبيعة ساحرة وتجربة استثنائية    تعديل قراري متطلبات المسافات الآمنة حول محطات الغاز.. مجلس الوزراء: الموافقة على السياسة الوطنية للقضاء على العمل الجبري بالمملكة    ولي العهد يرأس جلسة مجلس الوزراء    المكاتب الفنية في محاكم الاستئناف.. ركيزة أساسية لتفعيل القضاء المؤسسي    وفد "الشورى" يستعرض دور المجلس في التنمية الوطنية    علي خضران القرني سيرة حياة حافلة بالعطاء    إيجابية الإلكتروني    شيطان الشعر    وفاة الأمير عبدالعزيز بن مشعل بن عبدالعزيز آل سعود    خادم الحرمين وولي العهد يُعزيان الرئيس التركي في ضحايا حريق «منتجع بولو»    حماية البيئة مسؤولية مشتركة    كيف تتخلص من التفكير الزائد    عقار يحقق نتائج واعدة بعلاج الإنفلونزا    حفل Joy Awards لا يقدمه إلا الكبار    بيع المواشي الحية بالأوزان    خطة أمن الحج والعمرة.. رسالة عالمية مفادها السعودية العظمى    "رسمياً" .. البرازيلي "كايو" هلالي    الدبلوماسي الهولندي مارسيل يتحدث مع العريفي عن دور المستشرقين    بيتٍ قديمٍ وباب مبلي وذايب    تأملات عن بابل الجديدة    متلازمة بهجت.. اضطراب المناعة الذاتية    في جولة "أسبوع الأساطير".. الرياض يكرّم لاعبه السابق "الطائفي"    مفوض الإفتاء في جازان: المخدرات هي السرطان الذي يهدد صلابة نسيجنا الاجتماعي    سعود بن نايف يكرم سفراء التفوق    سمو محافظ الخرج يرأس اجتماع المجلس المحلي    برئاسة نائب أمير مكة.. لجنة الحج تستعرض مشاريع المشاعر المقدسة    محافظ جدة يطلع على برامج إدارة المساجد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن السجالات العقائدية في المجتمع الإسلامي المتعدد . صورة "الآخر" غير المسلم وردوده في المناظرات الكلامية
نشر في الحياة يوم 28 - 02 - 1999

للعامل الديني دور محدد في العصر الوسيط. ذلك ما يجمع عليه كل الباحثين بمختلف تخصصاتهم لهذه المرحلة من التاريخ. وسواء طبقنا التقسيم الغربي، أو أدخلنا بعض التعديل عليه، بالتأكيد على خصوصية إسلامية ما، في النظر الى هذه المرحلة، على اعتبار ان ما هو وسيط عند المؤرخ الغربي يمثل لحظة تأسيسية في الزمنية الإسلامية، ديناً وحضارة وثقافة، فإن المتخيل الجمعي الإسلامي يستمد من المرجعية الدينية أساس النظر الى العالم والمجتمع والإنسان. صحيح أن المجتمع الإسلامي الجديد انطلق من التعدد واحتك بكل أصناف الاختلاف، وحاول دمجها في نسيج الجماعة الإسلامية. فضمه لسورية والعراق وفارس وآسيا الوسطى وأفريقيا الشمالية وأطراف واسعة من الضفة الشمالية للمتوسط، جعل منه مجتمعاً متعدداً رغم التوحيد المرجعي الديني، وصيغ ترتيب شؤون الاختلاف المتنوعة.
التأكيد على غلبة العامل الديني في هذه المرحلة لا يعني اختزاله في المستوى الطقسي التعبدي، أو ارجاعه الى ما هو اعتقادي وقدسي فقط، لأن الشغف النبوي التأسيسي مس كل مستويات "الواقعة الإسلامية"، لدرجة أصبح الأمر فيها يتعلق بنوع من "الفينومينولوجيا الدينية" تهم السياسة والاجتماع والانتاج الرمزي والمادي، أفرزت عناصر "هوية إسلامية" تبلورت داخل علاقات متوترة - ان لم نقل ضدية - مع الآخر.
وإذا كان للمتخيل الديني دور حاسم في تحديد مكونات الرؤية الى الذات والى الآخر، فإن المتن القرآني وبعض اتجاهات الفكر الإسلامي التي تمخضت عنه فيما بعد، أنتجا "لغة من النوع العقلاني" تحاور وتجادل وتبرهن، ولا تقتصر على مجرد توجيه الأوامر والنواهي، أو استثمار رأسمال رمزي تعبدي وأخروي. فاستراتيجية الفتح والانتشار سمحت للوعي الإسلامي، بمختلف أبعاده ومستوياته، بالاحتكاك بأنماط جديدة للنظر، وبأساليب غير دينية للتفكير. ذلك أن شعوب "الدولة الإسلامية" أصبحت من العرب والفرس والهنود والأرمن والسريان والأقباط والبربر وغيرهم. شعوب متعددة الثقافات والديانات إسلامية ونصرانية ويهودية ومجوسية وديانات شرقية أخرى، والأثنيات والحضارات حضارات سامية وآسيوية وأفريقية والعلاقات الاقتصادية رعوية وزراعية وتجارية وحرفية والعلاقات الاجتماعية موروثات شرقية وأفريقية... وبعد أن كان النظام السياسي يعتمد في التشريع على القرآن الكريم والسنّة زمن الرسول، لجأ الخلفاء الراشدون الى القياس والتأويل والاجتهاد. ثم أصبح النظام امبراطورياً ملكياً أيام الأمويين والعباسيين، مواطنوه متنوعو المذاهب والمشارب، واضطر لصياغة حقوق وواجبات لمواطنيه، وإيجاد علاقات تعاقدية معهم، ومحتاجاً لمزيد من الاجتهاد ليجد حلولاً لكل المستجدات، وما كان أكثرها الجابري، 1984. وهكذا فعلى الرغم من أهمية العنصر الديني في تنشيط الشغف الإسلامي، وتحريك ايقاع العلاقات مع الآخرين، فإن دينامية التثاقف أفرزت معطيات جديدة، تميزت بعض تجلياتها بالتوتر والمواجهة، وتقدمت مظاهر أخرى لتعمق التداخل والتمازج والتبادل بين الجماعات والثقافات واللغات. لم تكن تجليات الصراع ذات طابع سياسي، اجتماعي أو عسكري فقط، بل انتقلت الى ساحة الفكر والجدل الكلامي. ويهمنا أن نتساءل في هذا السياق، هل الاختلاف الديني، كما صاغه الخطاب القرآني، وأعيد بناؤه أبان الفترة الراشدية، وما تلاها من تحولات ومتطلبات اجرائية، احتفظ بزخمه الديني في النظر الى الآخر، أم خضع للمؤثرات المتنوعة التي تعرضت لها الواقعة الإسلامية؟ أليس بالوسع المجازفة على اعتبار ان ضرورات التفسير والتأويل وإعمال العقل والاحتجاج جعلت من الرؤية للآخر تتخذ أبعاداً أخرى الى جانب "البراديغم" الديني التأسيسي؟
تكرست الصورة السلبية عن اليهود من خلال النظرة التي كوّنها القرآن عنهم، في حين أن الحكم "الإيجابي النسبي" الذي أصدره في حق النصارى، شجع على التفاعل معهم، سواء كانوا من النصارى العرب والمستعربة أو الذين ألحقوا بجسم الدولة الإسلامية فيما بعد. وإذا كان الموقف من النصارى واضحاً في العهد النبوي وفي الفترة الراشدية، فإن سياسة الدولة الإسلامية تجاه الاختلاف الديني، أو كل مظاهر الاختلاف، تأثرت، بشكل كبير، بطبيعة الحكم الذي يوجه هذه السياسة. فالسلطة كانت في حاجة الى معرفة لضبط التوازن وخلق النظام، والحكم على الآخر كثيراً ما خضع لملابسات هذه العلاقة المتشابكة بين السياسة والمعرفة. بل ان الموقف من الاختلاف الديني، حتى وان ترجم، مؤسسياً، من خلال تعاقد محدد، أصبح يتأثر بملابسات السياسة الداخلية وبحسابات التوازن مع الخارج، لذلك كانت "مواقف الدول من النصارى في أحيان عديدة رد فعل على فعل خارجي" العودات، 1992 كيف تم التعبير عن هذا التوتر فكرياً؟ وما هي آليات النظر التي صيغت من طرف المسلمين لإدراك الاخر والحكم عليه؟
هناك أنواعاً من الاختلاف: الاختلاف الحاصل داخل العقيدة الواحدة، بسبب تباين المنطلقات في التأويل، والاختلاف مع غير المسلمين، سواء من أهل الكتاب أو غيرهم. فالديانات التوحيدية والصابئة ذكرت في القرآن، وللمسلمين نظرة محددة لها، في حين أن الدولة الإسلامية، بفعل الفتح والانتشار، اصطدمت بديانات وعقائد أخرى لا تملك عنها ما يفيد الكيفية التي بواسطتها يمكن الحكم عليها أو ترتيب العلاقات معها: "بمعنى أن الجماعة الإسلامية تتعرف ببعض الأديان، فتقر لها ولأصحابها بشرعية الوجود، وتنفي هذه الشرعية عن سائرها" علي أومليل، 1991.
كيف "فكر" المسلمون في الاختلاف الديني؟ وما هي الصور التي أنتجوها عن الآخر؟
يصعب الوقوف عند التراث الكلامي الضخم الذي تركه المفكرون المسلمون، كما لا تحركنا، هنا، الرغبة في استعراض كل ما أبرزوه من فوارق بين مقومات "الهوية الإسلامية" وبين ما يغايرها. فالموضوع يشترط أو يتطلب بحثاً بأكمله، وتركيزاً استثنائياً على خلفيات "علم" الكلام في مجمله، وآليات الاستدلال فيه، ومقاصده وموضوعاته، لذلك سنكتفي بالإشارة الى الأفكار الكبرى التي حركت المتكلمين في ردهم على مخالفيهم من النصارى، وبعض ما فكروا فيه من ديانات غير توحيدية، مع محاولة ابراز بعض مقاييس حكم المسلمين على الآخر.
للجدل الكلامي تاريخ ومقاصد. فيه ما يدخل ضمن رهانات الصراع على السلطة بعد الفتنة الكبرى، وهو جدل إسلامي حول الإمامة والعدل والحرية وحكم مرتكب الكبيرة... الخ. وفيه ما يندرج في سيرورة التعامل مع الآخر. وفي كل الأحوال يمثل الجدل مرحلة متقدمة في النظر والتفكير، لأنه يعبر عن مهارة ذهنية وفكرية، وعن قدرة على التمييز والمقارنة والحكم. وسواء انطلق المتكلم من "العقل" أو من "النقل"، كان معتزلياً أو أشعرياً، يناظر مسلماً أو غير مسلم، فإن آليات عقلية استخدمت في الجدال، منها ما استقاه من الرصيد الإسلامي الخاص، ومنها ما استمده من تراث خارج الحقل العربي الإسلامي، وعلى رأسه التراث اليوناني. والمفارقة المثيرة، في هذا السياق، هو أنه إذا كانت الدولة الإسلامية - وخصوصاً الدولة الأموية - قد ورثت الإدارة البيزنطية في الأمصار التي فتحتها، وأبقت على المواطنين النصارى مدة طويلة، فإن النصارى أنفسهم، هم الذين "احتكروا" عمليات الترجمة من السريانية واليونانية وغيرها الى العربية، فضلاً عن أن الفكر الجدلي الإسلامي وجد تراثاً كلامياً مسيحياً يرجع الى قرون خلت بسبب الخلافات بين الكنائس نفسها، أو بين اليهود والنصارى.
يلخ الخطاب القرآني على مجادلة أهل الكتاب "بالتي هي أحسن"، كما أن العلاقة مع الآخر تتم بناء على قاعدة "لا اكراه في الدين"، لكن تمدد الدولة الإسلامية، وانتشارها الواسع، واحتكاكها المتوتر مع جماعات وشعوب وعقائد مختلفة، جعل المسلمين يتعاملون مع الآخر من موقع قوة، ومن منطلق ذلك "الشغف النبوي" العارم الذي، وان ألح على التسامح، فإنه في نفس الآن يحث على الدخول الى التوحيد الجديد. فمعادلة أما الإسلام أو الجزية لم تعد كافية، لأن رفض الانخراط في الإسلام يفترض تفسيراً مقنعاً قد يحتمل نقداً للديانة الجديدة، استلزمت حجج النصارى من المتكلمين المسلمين دراسة الكتاب المقدس والوقوف عند بعض النصوص التفسيرية. غير أن المشكلة التي طرحت هي أن العقائد الرئيسية للمسيحية لم تستقر إلا بعد المسيح، على يد رؤساء الكنيسة، والاطلاع عليها، كان يستوجب، أيضاً، التمكن من اللغة اليونانية "الشيء الذي لم يكن متيسراً لعلماء الكلام المسلمين في بداية تعرضهم لنقد المسيحية. لذلك اكتفوا، مضطرين، ببناء نقدهم على معطيات نصوص الكتاب المقدس وحدها، وهي غير كافية لقيام نقد موضوعي، لأنه نقد يقوم على رفض النص، أو تفسيره، بناء على مفاهيم إسلامية خالصة في الحالتين، والمفاهيم الإسلامية في القبول والرفض لا تصلح في مواجهة خصم له معطياته الدينية الخاصة به، والتي كونها في جو ثقافي خاص".
اتخذ الجدل الكلامي الإسلامي مع النصرانية أشكالاً من السجال الفكري وولد نمطاً فكرياً فريداً نعت بالمناظرة، لا شك أن لهذه المهارة النظرية انشغالات إسلامية - إسلامية دشنتها فرق تختلف في تفسير بعض النصوص وفي تأويل دلالاتها ومقاصدها، لكن الاختلاف مع الآخر في مسائل لاهوتية واعتقادية حفز عدداً كبيراً من المفكرين المسلمين للانخراط في معمعة "الرد" والمجادلة والمناقشة. فالمناظرة، إذاً، تشير الى ذلك الجدل الفكري الذي يتخذ من الموضوعات اللاهوتية والتشريعية موضوعاً له، كما يحيل، أيضاً، في السياق الثقافي الإسلامي، الى جنس أدبي له شروطه وآلياته ومقاييسه. وفي هذا المجال "وضعت تآليف على طريقة المناظرة في مختلف الميادين، وظهرت صنوف من الخطابات تقر المناظرة منهجاً فكرياً مثل "خطاب التهافت" و"خطاب التعارض" و"خطاب الرد" و"خطاب النقض" وما اليها، بل حيثما وجدت مذاهب ومدارس واتجاهات في مجال من مجالات المعرفة الإسلامية، كذلك المناظرة طريقة التعامل بينها، وهذا شأن الفقه باب الخلاف والنحو باب القياس والأدب النقائض طه عبدالرحمن 1987. ويمكن أن نضيف الى هذه الاهتمامات باب الرد على النصارى وغيرهم، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من لهم شبهة كتاب أو من لا نص مرجعياً لهم. وفضلاً عن كون فعل "نظر" يفترض تضمنه لنظرة أو لرؤية ما، فإنه يفيد نوعاً من الدراسة باعتبارها نشاطاً للعقل ولفعل التفكر والتبصر والتدبر. ولهذا السبب نعت علماء الكلام ب"أهل النظر"، لما كان الجدل مع النصارى، ينصب بالدرجة الأولى، على قضايا كلامية ولاهوتية، فإن هذا الجدل، حتى وان اندرج ضمن حقل ديني عقائدي، يعبر، بكيفيات متنوعة، عن مستوى فكري ونظري يمنح للاختلاف مع الآخر بعداً فكرياً أكيداً.
تركز الجدل مع النصارى على الموضوعات الخلافية المعروفة، وهي التثليث، التجسيد وربوبية المسيح، صحة الأناجيل، والتحريف... الخ، ويلاحظ الباحثون أن الردود الإسلامية التي اتخذت من هذه القضايا موضوعاً لها جاءت، في الغالب الأعم، من طرف متكلمين ومفكرين معتزلة والتأكيد على هذه الملاحظة له دلالة بالغة في هذا المقام، ذلك أن نصوص "الرد على النصارى"، حتى ولو ألفها ظاهريون مثل ابن حزم أو أشاعرة وسنيون مثل الغزالي أو ابن تيمية، فإنها كانت تعمل على الدفاع عن الإسلام ضد منتقديه، وعلى تحصينه من تهجمات الخصوم والأعداء، سواء بأعمال الفكر والعقل أو دعوة الآخرين الى الانخراط فيه، أو الاتكاء على سلطة لردع مصادر الخطر الذي يمثله الآخر. وفي كل الأحوال فإنهم ساهموا في بناء الهوية الإسلامية فكرياً ضد اختلافات متنوعة المصادر والعقائد والوسائل. وبعبارة أخرى، إذا كانت المجادلات الإسلامية ضد النصارى، وغيرهم، بما تقتضيه من مهارة في المناظرة والمحاورة والمناقضة، تدخل في اطار "الدفاع" عن الإسلام، فإن المجهودات الفكرية التي بذلت في عمليات الدفاع المختلفة أعطت للهوية الإسلامية، إزاء الآخر، أبعاداً فكرية واضحة. صحيح أن موضوعات هذه المجادلات لها طابع كلامي ولاهوتي، ويحكمها منطق ديني عقائدي، ويؤطرها "براديغم" قدسي ورمزي محدد، ولكن آداب المناظرة التي انتجتها هذه الردود، مع ذلك، سمحت بتنويعات فكرية أعطت للنظرة الإسلامية للآخر مضموناً فكرياً.
النظرة الى النصرانية، والى الآخر عموماً، في هذه المرحلة من تطور الرؤية الإسلامية الى الذات والى العالم، خضعت لمسبق كثيف الدلالات، تمثل في اتخاذ الإسلام، كمنظومة شاملة، المعيار المحدد للإدراك والوعي والتقييم. فالمناظر المسلم لا يستسيغ وجود "علاقة أونطولوجية بين الله والإنسان والإيمان" بأن يكون أحد الهاً وانساناً في نفس الوقت هو عين الشرك، كما ان "الأدلة على نبوة محمد تتكافأ مع الأدلة على نبوة الأنبياء الذين يؤمن بهم النصارى ان لم يكن تفوقها" عبدالمجيد الشرفي 1986. وأما القرآن فإن ماهيته التركيبية وتتويجه المطلق للديانة التوحيدية وإقراره بالرسل والأنبياء، يضعه كل ذلك في موقع متفوق قياساً الى النصوص المقدسة الأخرى. بل ان "انتشار الإسلام ودخول الناس فيه أفواجاً من جميع الألوان والأجناس وغلبة الدولة التي أسسها و"تقدم" الحضارة التي أنشأها والمنجزات الباهرة التي كان له الفضل فيها، كل ذلك دليل على صحة هذا الدين وأحقيته بالاتباع. وخلاصة المجادلة التي وضع المتناظرون المسلمون قواعدها تتمثل في تأكيدهم على أن النصارى لم يتبعوا دين المسيح، باختلاف طوائفهم وجماعاتهم، إذ الانجيل غدا على أيديهم "تركيب بشري صرف"، أي أن النصارى خلقوا هوة سحيقة بين النصوص المقدسة وبين ما يعتقدوه، فضلاً عن أن هذه النصوص تعرضت للتحريف، مما جعل العقائد المسيحية "مبنية على فساد في تأويل هذه الكتب". والغاية الكبرى التي حركت المسلمين في هذه المجادلة تتمثل في بيان "فساد عقائد النصارى في التثليث وآلوهية المسيح"، والفداء والصلب، وفي الدور البشري المحدد لعملية التحريف التي طالت عقائدهم.
ويرى البعض أن الجدل الكلامي الإسلامي مع النصرانية سلك مناهج أربعة: تفسيري، تشكيكي، عقلي وتركيبي، أما التفسيري، فإنه ينطلق من التسليم، جدلاً، بحقيقة الأناجيل، يستعرض صيغاً تتصل بألوهية المسيح، ثم يعارضها بعبارات من الأناجيل تفيد انسانيته، المنهج التشكيكي يضع الأناجيل برمتها موضع الشك، أولاً بسبب التناقض بين الأناجيل، ثانياً بسبب التحريف الذي ولدته روايات النصوص، الأمر الذي يستلزم رفع الثقة عنها. وأما الأسلوب العقلي فإنه يستند، في تفنيده للعقائد النصرانية، اعتبار التثليث والصلب والفداء والتجسد... الخ عقائد "لا معقولة"، إذ يصعب على العقل تقبل ربوبية انسان، لأن ذلك يفضي الى القول باتحاد القدم بالحدوث، واتحاد اللاهوت بالناسوت...، أما المنهج الرابع فيتمثل في الجمع بين المناهج الثلاثة السابقة يستلهم المتناظر، من خلالها، ما يفيده في دحض دعاوى النصارى، فضلاً عن أن هذا الأسلوب التركيبي في المجادلة اقتضته مراوغة الخصوم من "النصارى وعدم التزامهم في الجدل بموقف واحد، إنك تراهم، إذا طوردوا على المستوى العقلي الخالص يلجأون الى النصوص ويحتمون بها في تبرير عقائدهم، ويلجأون الى العقل في تبريرهم هذه العقائد إذا طوردوا على المستوى النصي، لذلك اضطر المجادلون المسلمون، ابتداء من القرن السابع الهجري الى أن يتبنوا مناهج كل من سبقهم، تضييقاً للخناق على خصومهم، ومحاصرة منهم لهم.
لا شك ان معرفة الآخر النصراني من طرف المسلم استلزمت بعض الوقت والجهد، لأن ذلك افترض اطلاعاً على كتابات الآخر وتمكناً من اللغات التي تؤلف بها. وقد يرجع سوء التفاهم بين المتناظرين المسلمين والنصارى الى غياب لغة مشتركة تسعفهم على الحوار والرد اعتماداً على أنصات متبادل. غير أن الأمر المحدد في النظرة الى الآخر لدى المسلمين، وكما أشرنا الى ذلك، يتمثل في اعتقادهم الراسخ بتفوق الإسلام وفي إيمانهم التام بكون القرآن والسنّة هما المرجع المطلق لكل التزام عقائدي توحيدي، وما عدا ذلك فإنه لا يرقى الى قدسية وتعالي هذه المرجعية. والواقع ان الاختلاف الجوهري بين الموقفين يكمن في كون المسلمين والنصارى يحملون "تصورين مختلفين للتوحيد: يرتكز الأول، كلية، على القرآن، والثاني على شخص"، بل وهناك من يرجع سوء التفاهم ذاك الى الرؤية التي تحملها كل جماعة للعالم والمجتمع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.