صدر الاسبوع الجاري العدد 49 من مجلة "الاجتهاد" الفصلية التي تعنى بقضايا الدين والمجتمع والتجديد العربي الاسلامي. وخصصت "الاجتهاد" عددها الاخير شتاء العام 2001م/1421ه لدراسة الرؤية الانتروبولوجية وصلتها بالاستشراق والعلاقة بين الانتروبولوجيين ورجال الدراسات العربية والاسلامية في الغرب بصفتهما الجزء الابرز من العلائق الملتبسة والمعقدة بين العرب في حاضرهم ومواريثهم من جهة والعالم من جهة ثانية. وأبرز موضوعات العدد الاخير: الاستشراق والانتروبوبولوجيا رضوان السيد، الاستشراق والتراث الفضل شلق الاستشراق بين الميتافيزيقا والانتروبولوجيا عمر كوش، الصوفي والسياسي: صورة ماسينيون في الفكر العربي المعاصر احمد عبدالحليم عطية، ترجمة جاك بيرك للقرآن: من القراءة الى التفسير مصطفى عبدالغني، رودنسون والاسلام: من حتمية ماركس الى فضاء ماكس فيبر رضوان جودت زيادة، جدل المعرفي والتربوي: نحو قراءة نقدية لاطروحات انتروبولوجية محمد فاوبار، فوكوياما وهنتنغتون والاسلام وجيه كوثراني. وضم العدد مراجعات كتب ابرزها نقد صقر ابو فخر لموسوعة عبدالوهاب المسيري عن "اليهود واليهودية والصهيونية". في تمهيد رضوان السيد لعدد "الاجتهاد" أكد ان "الاستشراق - وما يزال الى حد ما - منذ بلغ ازدهاره وتحدده في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: العلم أو التخصص أو الاهتمام الدراسي المعني بتأمل الشرق العربي والإسلامي من جانب الدارسين الغربيين. بيد أنّ الاستشراق وهو يتحول الى علم بالدعوى أو بالفعل، كان يسير باتجاه احتضان الشرق كله باعتباره علم العلوم، في الوقت الذي كانت فيه العلوم الحديثة تبزغ وتنفصل عن جذوعها لتجد لنفسها مكاناً أو موقعاً في أحد التصنيفين الأنغلوسكسوني أو الألماني. وهكذا بدأت المشكلة في الدعوى، أو في ادّعاء الموسوعية او الإحاطة، وما ترتب على ذلك من قول بالخصوصية: خصوصية الشرق، وخصوصية الاستشراق. فالشرق خاص في تكويناته، وفي مساره وفي بناه التاريخية واللاتاريخية، وفي جغرافيته البشرية، وفي عقائده ودياناته. وتبلغ تلك الخصوصية ذروتها عندما نصل الى البحوث المتعلقة بالعرب وبالإسلام. وتعني تلك الخصوصية انفصال المشرق العربي والإسلامي على الخصوص عن مجرى التاريخ العام، وبالتالي عدم خضوعه لشروط التغير والتطور التاريخي التي كانت التطورية الداورينية تسعى لتثبيتها في المجال التاريخي والاجتماعي بعد ان اتجهت لتثبيت أقدامها في المجال البيولوجي والطبيعي. أما خصوصية الاستشراق فتأتي من أنه التخصص الذي يملك وحده وبمفرده الأدوات التي يمكنُ بها إدراكُ هذا المجال الخاص وتفهّمه أو تملّكه كما يقول ادوارد سعيد". وأضاف: "تعرض الاستشراق في النصف الأول من القرن العشرين لأشكال عدة من الضغوط، أولها وأهمها تحدي التطورية التاريخية والاجتماعية، الذي أتى من جانب تطبيقات الداروينية في المجال التاريخي والاجتماعي، كما أتى من جانب الماركسية، ومراحلها الأربع للتطور الاقتصادي. وبمعنىً آخر، فإن التطورية ما اصطدمت بالاستشراق في فكرة الحتمية، بل في اعتبار تلك الغائية عالمية أو كونية - وبذلك لا يجوز فصل تاريخ الشرق عن تاريخ العالم. وقد حاول بعض المستشرقين اللجوء الى الأنتروبولوجيا، ثم الى النقد الاستعماري، للوقوف في وجه عالمية التطورية، فاستخدموا مقولة الأنتروبولوجيا الثقافية، بمعنى وجود مجالات ثقافية وحضارية متمايزة في العالم، لكل منها بناه الخاصة، وآليات اشتغاله الخاصة. وكان التحدي الثاني يتحدي ما عُرف بلاهوت الأديان. فقد أنكر اللاهوتيون البروتستانت والكاثوليك طويلاً على الإسلام والأديان الأخرى باستثناء المسيحية واليهودية، كونها أدياناً، بناء على عدم توافر عناصر الدين كلاً أو بعضاً فيها! لكنْ مع ظهور نظريات الدين بين 1850 و1950، جرى تحديد "عناصر" إن توافرت اعتُبر الدينُ ديناً. والمعروف أن الأكثرية الساحقة من المستشرقين حتى الربع الأول من القرن العشرين كانت من رجال الدين الكاثوليك والبروتستانت، أو ممن سبق لهم ان عملوا في مجال علوم الدين. ولذلك ما كانت نظرتهم الى الإسلام نظرة موضوعية. وقد دفع تحدي "لاهوت الأديان" الجديد هذا كثيرين الى إعادة النظر في رؤيتهم للإسلام باعتباره منظومة متماسكة من العقائد والشعائر والطقوس والممارسات وأنماط الحياة، وليس مجموعات غير متماكسة من المواريث اليهودية والمسيحية والوثنية. وكان التحدي الثالث، هو تحدي التاريخ الحضاري في مواجهة التاريخانية الفيلولوجية، القائلة بالجواهر الثابتة. فقد زعزعت دراسات وآثار التاريخ الشرقي القديم من مقولات التفوق والتقدم اليوناني والروماني، مقولات القِدَم الكبير للعقائد التوحيدية اليهودية، وللتاريخ اليهودي المستند الى العهد القديم. وقد اضطر ذلك المستشرقين وفلاسفة الحضارة الى إدخال الأحقاب العربية - الإسلامية ضمن تاريخ الشرق، ثم ضمن التاريخ العالمي. كما اضطر بعضهم الآخر لاعتبار أنفسهم مؤرّخين مختصين بالتاريخ الإسلامي، وليسوا أناساً من نوع خاص، يتملكون وحدهم مجالاً خاصاً". ويرى السيد "أن الأزمة الحقيقية في الاستشراق حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين. وكانت ردة الفعل على أمرين اثنين: ازدهار نقد العلوم، والنقد الاستعماري بالذات - والثورة في العلوم الاجتماعية ومناهجها. فقد اقتضت المتغيرات في العلوم الإنسانية بعد الحرب الثانية المصير الى صورة جديدة للمجتمعات وبناها الداخلية وعلائقها بالدولة، وإلى صور جديدة للعلوم لجهة قدراتها الحقيقية على استيعاب المجال الذي تعمل فيه، وآلياتها ووسائلها المستخدمة في ذلك. وجاءت بحوث نقد الاستعمار عشية نهاياته لتشكّك ليس في حيادية تخصصات مثل الاستشراق والأنتروبولوجيا، وبل وفي موضوعيتها، أي قدرتها على تعقّل المجال أو المجالات التي هي موضوع اهتمامها بالآليات والوسائل، وقبل ذلك وبعده بالصور والإنطباعات، التي اعتمدتها طوال قرن ونصف القرن. وهكذا فإنه منذ الستينات من القرن العشرين ما عاد الحديث عن علم اسمه الاستشراق أو عنوانه الاستشراق مستحسناً، وكان المستشرق الألماني هانس رومر المختص بالتاريخ الإسلامي، يصر في محاوراتنا في السبعينات على استخدام مصطلح: علم الإسلام. وذلك لعجز ذلك المجال عن التحول حقاً وحقيقة الى تخصص ذي أسس وآليات مغايرة أو متمايزة". الاستشراق والتراث ورأى الفضل شلق في مقاله عن الاستشراق والتراث ان دعاة الحفاظ على التراث يدعون أن هناك "منافسة بينهم وبين المستشرقين على مجال واحد هو التاريخ العربي، ويعتبرون انهم هم أهل الدار، وبالتالي فإنهم أحق بهذا التاريخ من غيرهم. وفي الوقت ذاته يدينون المستشرقين بتهمة الانحياز وخدمة المصالح الأجنبية، أي مصالح البلدان الغربية التي ينتمون اليها. ولكنهم لا يستنكفون عن قراءة أعمال المستشرقين، بلغاتها الأصلية أو مترجمة، ويستخدمونها اذا رأوها لمصلحتهم، فيعتبرونها موضوعية حينذاك: ويدينونها اذا رأوا فيها ما لا يعجبهم. وقبل اخذ موقف من أي من الفريقين يجدر بنا توضيح بعض التعابير والمفاهيم الشائعة الاستعمال. فالتاريخ علم موضوعي، والموضوعية ليست صفة زائدة بل هي من طبيعة كل علم من العلوم الانسانية أو الطبيعية يستحق هذا الاسم. وهي لا تتوافر الا بمقدار ما يكون النقاش الحر المفتوح متاحاً، ولا يكون النقاش جدياً إلا اذا استند الى وسائل البحث العلمي والى المؤسسات التي تشكل اطاراً مناسباً لذلك. فالجهد الفردي، وان كان ضرورياً، الا انه ما اعد كافياً. فكما يحتاج البحث في العلوم المادية الى مختبرات وفرق عمل، يحتاج البحث في العلوم الانسانية الى مؤسسات تكون بمثابة ذلك. وجاء التقدم الغربي، المتوسع في شتى المجالات، جزءاً من مشروع عالمي، واعٍ أو غير واعٍ، للهيمنة على العالم، ولاستغلال موارد الشعوب الأخرى واستنزاف قوة عملها. واذا كانت المعرفة هي الطريق الوحيدة إلى حضارات الشرق وثقافاته، وجمع معلومات واسعة جداً عنها، وبذلوا جهوداً مضنية لتصنيفها وتبويبها وحفظها. وكان ذلك من اجل استخدامها في مشروع الهيمنة، لكن ذلك لا يتناقض مع موضوعية تلك الدراسات" فقد كانوا مضطرين للموضوعية كي يستطيعوا استخدام ما يستنتجونه منها بطريقة علمية، والا فما كانوا لينجحوا في تحقيق اهدافهم. واذ كانوا مضطرين للموضوعية العلمية فإنهم ما كانوا مضطرين للموقف الحيادي، بل ان طبيعة مشروعهم الهادف للهيمنة كانت تضطرهم الى الانحياز وفقدان الروح الحيادية. فالموضوعية العلمية شيء والحيادية شيء آخر" وهم كانوا مضطرين للأولى دون الثانية. واذا كان الكثير من الباحثين العرب والمسلمين المعاصرين يجنحون الى رفض الاستشراق بحجة انحيازه لصالح الغرب، فذلك لأنهم يخلطون بين الموضوعية والحيادية. لكنهم في الوقت ذاته يتبنون كتابات بعض المستشرقين الغربيين المتعاطفين مع العرب والمسلمين على رغم ضعف منهجيتها العلمية أو سطحيتها". ويضيف شلق: "ليس هنا مجال التأريخ للدراسات الاستشراقية، فهناك الكثير من البحوث في هذا الموضوع، وربما كان أهمها كتاب إدوارد سعيد حول الاستشراق، على رغم أن هذا الباحث يقارب الموضوع من وجهة نظر سلبية فيدين الاستشراق باعتبار تحيزه ضد العرب والمسلمين، أو مرونة تسخيره لصالح القوى الاستعمارية المهيمنة. فحتى الدارسون الغربيون ذوو النوايا الحسنة تجاه الشعوب التي كانت موضوعاً لدراستهم لم يسلموا من سوء الاستخدام لنتائج دراساتهم. لكن ذلك لا يشمل غير جانب من الموضوع" فالجانب الآخر هو أن الدراسات الاستشراقية تراكمت وقوي نفوذها حتى صارت النخب العربية والاسلامية غير قادرة على النظر الى مجتمعاتها الا من خلال تلك الدراسات التي فرضت نفسها بسبب أسسها الموضوعية وعلى رغم تحيزها المقصود أو غير المقصود. لقد صارت الجامعات الأوروبية والأميركية هي التي تتخرج فيها أفضل النخب العربية. وعلى رغم نمو الجامعات العربية والاسلامية لاحقاً، فإن الجامعات الغربية بقيت هي التي تصنع الكوادر التي تتمتع بالمؤهلات العليا، وبقيت هي مقصد الطلبة الذين يبتغون تعليماً وبحثاً أفضل من حيث النوعية. ولم تتوقف "البعثات" أي تدفقات الطلبة العرب الى الجامعات الأوروبية والأميركية منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر حتى الآن. فهذه الجامعات بقيت هي التي تمتلك المكتبات ومراكز البحوث المتخصصة المتقدمة على مثيلاتها في البلدان العربية والإسلامية. وبقي المثقفون العرب والمسلمون مضطرين لقراءة الكتب الصادرة في الغرب والتي تبحث في مواضيع تخص مجتمعاتهم. فالمرجعية المعرفية بقيت في الغرب، وما استطاع العرب والمسلمون تأسيس ما يماثلها في بلادهم. ولذلك يمكن القول إن المفاهيم المتداولة "للتراث" العربي والإسلامي انما تشكلت في الغرب لا في بلادنا". ويرى "إن مفهوم التراث يحتقر التاريخ اذ يعتبره مجرد أداة تنفيذية، ويجرده من موضوعيته ليجعل منه وسيلةً لتحقيق أهدافٍ مرسومة سلفاً، فلا يبقى منه الا العبر التي تستخدم للتحريض. ويفتقر اصحابه التراثيون الى الصبر، فهم يريدون النتائج مباشرة، ويعتقدون ان الوقت في غير صالحهم، أو ان المجال لا يفسح لهم فرصة البحث والتمحيص. فالأمور واضحة وبسيطة والاستنتاجات مؤكدة لديهم، ولا غرابة في ان معظم السياسيين والمثقفين لدينا يصرون في تصريحاتهم ومقالاتهم على التأكيد أن صورة الأمور لديهم واضحة وخالية من التعقيد، ما يجعل البحث والتساؤل شكلاً في غير محله، ولا طريق أقرب الى الاستبداد من هذا النهج. ولكن مفهوم التراث يستنكف عن تعريف، أو تحديد نفسه. ففي الكثير من الكتب التي صدرت حول التراث، وتجديد التراث والتراث والسياسة والتراث والسلطان والتراث والحداثة، نادراً ما نجد تعريفاً للتراث". ولذلك "يبدو ان التراث، في كثير من الأحيان، مشروع سياسي أكثر مما هو معطى تاريخي، فالأهواء السياسية هي التي تتحكم بالمعطيات التاريخية، وهذه الأخيرة تصبح وليدة الرغبات لا البحث العلمي الموضوعي. لكن المشروع السياسي لأصحاب التراث يعبر عن أوهام ولا يستند الى الوقائع الحقيقية". ويرى شلق أن اشكالية التاريخ تختلف عن اشكالية التراث "فالأولى تتطلب ان يكون البحث على أسس منهجية علمية موضوعية يستحيل وجودها الا بالاعتراف بعالمية الانسانية وانسانية العالم. فالمنهجية ذاتها يمكن تطبيقها على مختلف المجتمعات، وفي ذلك اعتراف ضمني بوحدة المعرفة البشرية وبأن التواصل بين المجتمعات هو الأساس الذي يبنى عليه الاختلاف والتمايز. والأثر الشريف "اختلاف أمتي رحمة"، الذي يرى في وحدة الأمة أساساً لاختلاف وجهات النظر، يمكن ان ينسحب على البشرية باعتبار أنّ وحدة الثقافة الانسانية هي الأساس الذي لا يضيره الاختلاف والتنوع. أما اشكالية التراث، فهي تفترض: لكل مجتمع ولكل أمة، قوانينها الخاصة، والتي تنسجم مع ثقافتهما وقيمهما. وهي تنسجم مع المنهجية الانثروبولوجية التي تركز في بحوثها على الفروض والتمايزات بين المجتمعات، فتحاول ان تستخرج قوانين وأوليات عملها من داخلها. وهي وان استخدمت التقنيات العلمية، تبقى قاصرةً لأنها تغلب التمايزات والفروق على ما هو مشترك بين البشر جميعاً، والمشترك بينهم أكثر بكثير مما يميز بعضهم عن بعضهم الآخر". وينتهي الى التأكيد على "ان المواجهة بين الاستشراق والتراث، ليست مواجهة بين القديم والجديد، ولا بين التقليد والحداثة، بل هي مواجهة بين شكلين للحداثة. أحدهما يرتبط بمشروع هيمنة بدأ بالاكتشافات الجغرافية وما رافقها من عنف ووحشية وتطور الى الاكتشافات العلمية لما تتيحه من وسائل الهيمنة والاخضاع لصالح من يمتلك ناصية العلم والمعرفة، فهو، أي الاستشراق، يستخدم الكثير من العلم والموضوعية لمصلحة مشروع الهيمنة، وذلك لأنه منحاز وغير حيادي. وثانيهما، أي التراث، يرتبط بمحاولة الدفاع عن النفس، لا بمشروع مستقبلي يستطيع أصحابه من خلاله القبض على المصير، وينتهي الى تأكيد الهوية على أنها معطاة من الماضي، بما يؤدي الى العزوف عن محاولة صنع المستقبل واعادة صياغة الهوية كمشروع سياسي مستقبلي". وبرأي شلق: "إن الحداثة ليست شرطاً للتقدم، بل السياسة هي شرطه الوحيد. ففي كل مجتمع وفي كل تراث قيم تفيد العمل وأخرى تفيد الاتكالية، وقيم تفيد التقدم، وأخرى تفيد المحافظة، وقيم تفيد الاجتهاد وأخرى تفيد التقليد، وقيم تفيد استخدام التكنولوجيا ووسائل العلم الحديثة وأخرى تنكر كل ذلك. والمطلوب ليس ان نكون انتقائيين، فنحاول البرهان على أن موروثنا الثقافي ينسجم مع هذا الاتجاه أو ذاك، بل المطلوب هو أن ننطلق من تراثنا كي نتجاوز، والتجاوز لا يكون بالقرب منه بل باسيتعابه. فالمسألة تتعلق بالاستيعاب والتجاوز الدائم لما كنا عليه، أي انها تتعلق بأن تكون لنا ارادة وما السياسة الا التعبير عن الارادة".