في السيارة التي أقلتني من مطار القاهرة إلى وسط المدينة في الأسبوع قبل الماضي، بعد أيام من التغيير الوزاري الأخير، تحدثت تقصيراً للوقت، مع سائق الليموزين في شؤون شتى، فوجدته مطلعاً ومعلقاً على الكثير من الأحداث، فسألته عن تعليمه، فأجاب: بكالوريوس تجارة، ثم أردف، يوجد في الشركة ثلاثة سواقين بدرجة دكتوراه. لم يكن لدي سبب للشك في حديث السائق المثقف، إلا أن التصور ذهب إلى احتمالين لا ثالث لهما. الأول هو تردي التعليم إلى درجة أن يضطر خريج جامعي، بدرجة دكتوراه، إلى العمل كسائق أجرة كل الوقت. والثاني هو أن الوعاء الاقتصادي، في بعض بلادنا، تدهور إلى درجة الهدر غير المبرر في القوى البشرية بهذه الطريقة. فعشية الذكرى السنوية لثورة يوليو تموز تقول لنا الحقائق ان السياسات ليست بالنيات، بل بما تتركه على الأرض من خير أو شر! فليعذرني الأصدقاء المصريون إن تحدثت في الشأن المصري. فكثير منهم له حساسية مفرطة في هذا المقام. ولدي سبب قوي لفعل ذلك، إذ أنني ما زلت، وربما هناك عرب كثيرون غيري يعتبرون أن مصر هي مفتاح لهذه الأمة، إن حسنت وتحسنت اقتصادياً وسياسياً، حسنت وتحسنت الأمة، وإن تدهور الوضع فيها أصاب الآخرين. كان اللقاء في مصر عن الموضوع الأثير المطروح اليوم وهو الإصلاح، بعدما انتهى مؤتمر الإسكندرية في آذار مارس الماضي بعدد من التوصيات. وجاء اللقاء في القاهرة الذي حضره أهل اليسار التقليدي وبعض المستقلين وأهل اليمين، إن صح التعبير إذ شارك ممثلون عن"الإخوان المسلمين"، ليتأكد الجميع أن موضوع الإصلاح هو قضية القضايا اليوم في عالمنا العربي. وأجمع على أهميته وأولويته المشتغلون بالهم العربي، أي شكل الزاوية التي ينظرون منها. وأرى أن لدينا، نحن العرب، نافذة صغيرة من الوقت لفعل شيء ما، لعلها الزمن الذي يقع بين اليوم وبين وصول الإدارة الجديدة أو المجددة للبيت الأبيض، بعدها سيكون الضغط علينا أكبر وأشمل. من هنا، لعل حكومة نظيف، رئيس الوزراء المصري الجديد، هي مبادرة ذكية وخطوة استباقية لما يمكن أن يحصل في المستقبل. التغيير الوزاري المصري المرتقب منذ سنوات، لم يأتِ بما توقع الجميع. وكان معظم وجهات النقد التي برزت حتى الآن أن الوزارة التي تضم 34 عضواً، منهم 14 فقط جدد. وفي تقديري، هذا نقد للقشور، وليس ولوجاً للب المسألة في الإصلاح والتغيير، فالمهم أن تكون الوزارة قادرة على تغيير السياسات التي اتبعت حتى الآن؟ فالأشخاص ليسوا بذي أهمية كمثل السياسيات، ولأن العبء المصري الداخلي والإقليمي ثقيل، بل هو أثقل من أي فترة ماضية، فإن تغيير السياسيات هو جوهر القول ومناطق الفعل. فسفينة مصر ضخمة وتغيير مسارها تفادياً للاصطدام يحتاج إلى قباطنة ماهرين لا يعرفون عواصف البحر ليتجنبوا الغرق فحسب، ولكن أيضاً لهم دراية كاملة بالهدف التي تريد السفينة الوصول إليه. في الشأن الخارجي، هناك ملفات ما زالت مفتوحة. فالموضوع الإسرائيلي مع مصر حُلَ ولم يحل في الوقت نفسه، فلا هو سلام، لأن الاستحقاقات العربية التي تراعيها مصر، خصوصاً الفلسطينية، تجبرها على اتخاذ سياسات محددة مجانبة لسلام كامل. ولا هي حالة من العداء قد تؤدي في التاريخ المنظور إلى اشتباك مسلح. فحرب 1973 هي آخر الحروب في المدى المنظور. كما يقيد التحرك المصري السياسي في هذا الملف الشارع، الذي يغذيه عاملان من القوى السياسية، خصوصاً"الإخوان"واليسار، وإن كانا على طرفي نقيض في كثير من القضايا، إلا أنهما ملتقيان في الموضوع الإسرائيلي. وهنا نجد السياسة المصرية الحالية لا يتوافر لها موقف ذو رؤية محددة وواضحة في هذا الملف الحساس جداً. فهي سياسة مسايرة وردود أفعال لتفادي المشكلات الطارئة، إلا أن الهدف النهائي غير واضح. ويشابه الموضوع الإسرائيلي، الموضوع العراقي. إذ يفاجأ المراقب أن هانز بليكس المسؤول الدولي المكلف البحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، يؤكد في كتابه الأخير أن توني بلير نقل إليه، قبل الحرب، أن المصادر المصرية أكدت له وجود"معلومات عن أسلحة دمار شامل في العراق". وإذا صحت رواية بليكس، فهذا يعني أن بعض المصادر المصرية كان لها رأي في تخليص العراق من النظام السابق. لكن هذا الرأي لم يطرح بشكل رسمي في الشارع، فكان الموقف أقرب ما يكون إلى الضبابية، بشهادة المسيرات الرسمية والشعبية التي خرجت إبان الحرب الأخيرة، مع الكثير من الضخ الإعلامي السلبي، في اتجاه تحشيد الشارع ضد"التدخل الأميركي". ولا تكتمل الصورة إلا إذا أضفنا إليها عاملاً مهماً لا تجدي فيه تسميته بخلاف اسمه، وهو الضغط الخارجي. ولا اقصد هنا ما يتبادر إلى الذهن المتعجل من ضغوط سياسية في هذا الاتجاه أو ذاك، كما حدث أخيراً في المطالبة في الكونغرس الأميركي، بتقليص المعونات إلى مصر. بل أقصد تلك الضغوط التي تتعرض لها كل دول العالم اليوم، ومصر والعرب ليسوا استثناء، وهي الدفع الكلي للتكيف الهيكلي مع قوانين تحرير التجارة، و"دعه يعمل دعه يمر"، والخصخصة والقوانين التجارية التي لها علاقة بحقوق الملكية، إلى جانب حقوق الإنسان وغيرها من القوانين التي تجبر الجميع على المواءمة الهيكلية مع المسار العالمي المتسارع. كل هذه الاستحقاقات لن تنجز، إذا افتقدت الرؤية الاستراتيجية لشكل الحكم ومستقبله. وقد اندفعت مصر، ومعها العرب، بعيداً عن الركب الدولي الذي يحث الجميع على التكيف مع الحقائق الجدية. تتطلب المرحلة إذاً حكومة قوية سريعة الاستجابة، ومساءلة من الجمهور، وشجاعة وشفافة في آن، تجيد التنظيم والمراقبة، وتوازن بدقة، لكن بمرونة وبمنظور واضح، بين مطالب فئات المجتمع المختلفة. تقضي على الفساد أو تقلل منه، ولا تلجأ إلى التسويف والوعود. والحديث عن متوسط سن الرجال و النساء في الوزارة المصرية الجديدة، هو حديث مُلهٍ، فلم يثبت يوماً في السياسة أن كان كبر السن يعني التقاعس وافتقاد الرؤية، ولا يعني أن صغر السن هو الحركة مع افتقاد رؤية لنموذج تنموي. لقد وصل كثير من القيادات العربية إلى السلطة في سن مبكرة. فجاء معهم طيش الشباب أكثر من حركية ذات رؤية. بل ان كثيراً منهم تفنن في إضاعة الفرص وهدر الإمكانات وضياع الثروات البشرية والمادية، فشابوا على ما شبّوا عليه، والأمثلة واضحة حولنا لا تحتاج إلى برهان. لذا فإن الضجيج ترديداً لموضوع السن، هو مدخل لحرف الحديث المطلوب عن القدرة على تحسين الأداء، وتطوير الإدارة، وإعادة توجيه السياسات، ورفع القدرة المؤسسية، والبحث عن الكفاءة قبل الولاء، وإلى قدر كبير من التطهر و النزاهة... لقد تغير نموذج التنمية في العالم، وما تعانيه مصر اليوم أن التغيير لم يصل إليها، ولم تتح للمجتمع فلسفة متكاملة حول نموذج بعينه، ولا قناعات لتمكين المجتمع من الولوج إلى طرق اقتصادية جديدة. فلا يزال البعض يبكي الماضي الاشتراكي على انه الجنة المفقودة، والبعض الآخر يريد أن يطبق الرأسمالية بنَفَس مركزي بيروقراطي قاتل، تكون الدولة هي المسيطر والمسير. وذاك تزاوج غير قابل للعيش أو الاستمرار. فلا الرأسمالية الحديثة قادرة على العيش مع استمرار نموذج الحكم المركزي، ولا هي صحية إن افتقدت النقد المفتوح، والقوانين الواضحة وغير الشخصية نصاً وتطبيقاً. وكل ذلك مغموس في وعاء من الحرية الفكرية الكاملة. فلا تزال الحكومة المصرية، ومعها الحكومات العربية، تحتكر مؤسسات التفكير النقدي، والإعلام الموجه. وصول نظيف إلى رئاسة الحكومة المصرية يبشر بقليل من الأمل، لا يستطيع أحد أن يصادره قبل أن تتضح الرؤية. لكن التجربة العربية قالت لنا في وقت سابق، ان الإتيان بقيادة لها اهتمام كبير بالثورة التقنية الحديثة في مجال المعلومات، ليس كل شيء. المطلوب بالتأكيد رؤية سياسية مختلفة، وتغيير النموذج الاقتصادي من استهلاك الثروة، إلى خلق الثروة، وكم قيل وردد ان الرأسمال الحقيقي هو الإنسان، فإن ظل قائد سيارة الأجرة بدرجة دكتوراه، يعني أن المرض لم يعالج. وإن لم نسمع قريباً عن ثورة حقيقية في التعليم، وإطلاق حرية ملكية وسائل الإعلام ومراكز البحث النقدي، وعن تكيف هيكلي قد يكون قاسياً في بدايته، فإن الآمال قد تتبخر، إلا أن تبخرها سيكون سريعاً، وربما عاصفاً. يبقى دور مصر العربي الذي يتمنى كثيرون أن يكون فاعلاً وواضحاً في الملفات الرئيسية كي يقود أو يقدم أمثولة. فدور مصر الذي يحتاج إلى نمو سياسي في الداخل، يحتاج إلى ذاك النمو في الإقليم. أما السياسة المصرية القائمة حتى الحين فهي تؤدي بالنتيجة أن تكون مصر ضد مصر، وذاك أسوأ الأحوال. * كاتب كويتي.