في لحظات تاريخية محددة تنتشر أفكار معينة ومفاهيم حاكمة، ويجري تداولها على نطاق واسع لتصبح من بديهيات أو مسلمات الخطاب العام السائد في المجتمع. وبالتالي تستخدم هذه الأفكار والمفاهيم وتوظف إعلامياً وسياسياً، من دون مراجعة أو تفكير نقدي، على رغم أن التحليل النقدي قد يثبت أن هذه الأفكار والمفاهيم تتسم بالغموض وتفتقر للمنطق، وتخاصم الواقع، وغير قادرة على استيعاب وتفسير تحولات المجتمع. ولعل الخطاب العام السائد في مصر يقدم نموذجاً لمثل هذه الأفكار والمفاهيم الفاسدة والمغلوطة والتي تزيد الارتباك والعجز عن فهم وتحليل الواقع. مثل هذه الممارسة الخطابية لا تنفرد بها مصر، فهي حالة عربية عامة ترجع في بعض أسبابها إلى سلفية العقل العربي وخوفه الشديد من التفكير النقدي والتجديد في الفكر والممارسة، وغلبة السياسي على الثقافي. ولتكن البداية عن حالة مصر كنموذج للخضوع لثلاثة مفاهيم وأفكار تفتقر للدقة والمنطق، وأول تلك الأفكار الحراك السياسي والتي أصبحت أهم فكرة ومفهوم يستخدم على نطاق واسع في الخطاب العام للحكومة والمعارضة لتوصيف أنشطة الأحزاب أو الحركات السياسية كحركة كفاية أو 6 أبريل أو الجمعية الوطنية للتغيير، بل لتوصيف التحركات المطلبية وحركات الاحتجاج الاجتماعي. وتستخدم الحكومة فكرة الحراك السياسي للتدليل على توافر مناخ ديموقراطي حقيقي يسمح لكل الفاعليات السياسية والاجتماعية بالتحرك النشط والتعبير الحر والعمل السياسي، بغض النظر عن وجود قانون الطوارئ والوجود الأمني المكثف والذي يحاصر تظاهرات أو تجمعات المعارضة ومؤتمراتها بأعداد تفوق أحياناً أعداد المشاركين في تلك التحركات أو الوقفات الاحتجاجية. أما المعارضة بكل فصائلها فإنها تطرح فكرة الحراك السياسي للتدليل على فاعليتها المجتمعية، فقد تمكنت من خلق واقع سياسي جديد يختلف تماماً عن حال الجمود السياسي التي كانت قائمة قبل عام 2004، وبالتالي فإن الحفاظ على الحراك السياسي ودعمه وتوسيع مجاله سيمكن من تحقيق تحول ديموقراطي شامل من شأنه إزاحة الحزب الوطني والحكومة. هكذا تستخدم الحكومة والمعارضة - على ما بينها من اختلافات - فكرة الحراك السياسي لتبرير وجودها والتدليل على إنجازاتها، وكثيراً ما يستخدم الحراك السياسي كمفهوم لتفسير بعض الأوضاع المتناقضة في الساحة السياسية، فرفض الكنيسة لحكم قضائي بالسماح بالزواج الثاني للأقباط، أو تظاهر بعض الأقباط نتيجة إشاعات كاذبة، يفسر بكونه نوعاً من أنواع الحراك السياسي. كما أن إضراب المحامين على خلفية مشاجرة وقعت بين اثنين من المحامين ورئيس نيابة يدخل من الباب الواسع والفضفاض للحراك السياسي! لكن المفارقة أن الحراك السياسي كمفهوم غير مستخدم في أدبيات العلوم السياسية، وفي الحالات القليلة التي استخدم فيها لم يكن هناك أي نوع من الاتفاق في شأنه بين الباحثين، وأعتقد أن أقرب المفاهيم لما يطلق عنه تجاوزاً في مصر الحراك السياسي هو التعبئة السياسية، والذي يقصد به تصاعد اهتمام قطاع كبير من المواطنين بالسياسة واندراجهم في أشكال تنظيمية تمكنهم من المشاركة السياسية على نطاق واسع، مع قدرتهم على تعبئة الموارد الضرورية للفعل السياسي الجماعي. وقد يقع هذا الفعل السياسي ضمن الأطر الرسمية للنظام – كالأحزاب والنقابات - أو غير الرسمية كحركات الرفض الاجتماعي والسياسي التي تعمل خارج النظام السياسي وتسعى لتقويضه وإنشاء نظام سياسي جديد. ولا شك أن المفهوم السابق لا ينطبق من بعيد أو قريب على ما يجري في مصر، فمشاركة المواطنين في الأحزاب الرسمية أو غير الرسمية محدود للغاية، كما أن مشاركتهم في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشورى بلغت 30 في المئة بحسب التقديرات الرسمية وما بين 4 إلى 6 في المئة بحسب تقديرات جمعيات حقوقية مستقلة قامت بمراقبة الانتخابات. وإذا نظرنا إلى أحزاب وحركات المعارضة بما فيها جماعة الإخوان فسنجد أنها تفتقر إلى المشاركة الجماهيرية الواسعة كما لا تتوافر لأغلبيتها الموارد الكافية للحشد والتحرك الفعال. فضلاً عن وجود قيود قانونية وأمنية تحول دون إمكانية تغيير هذا الوضع في المدى المنظور. إذا كانت الشروط الموضوعية للتعبئة السياسية وليس الحراك السياسي غير متوافرة فماذا عن التحركات السياسية والوقفات الاحتجاجية التي شهدتها مصر منذ 2004؟ أعتقد أننا إزاء بدايات تعبئة سياسية محدودة وهزيلة تمثل خطوة للأمام لكنها ليست نقلة نوعية، إذ تقتصر على نخب سياسية محدودة، كما لا تخلو من انقسامات وصراعات واختراقات أمنية وحكومية تبدد كثيراً من فرص النمو. أما حركات الاحتجاج واعتصامات عمال بعض المصانع والشركات على رصيف مجلس الشعب فهي تحركات مطلبية ذات طابع فئوي محدود، وموقت وتفتقر للرؤية السياسية أو النقابية العامة. ومن ثم يمكن القول بأننا إزاء بداية متعثرة لتعبئة سياسية لا تزال وبكل المقاييس أقل بكثير من المطلوب قياساً بنوعية التطلعات والآمال لدى قطاعات واسعة من المصريين بخاصة الشباب الذين يمثلون 40 في المئة من السكان. ومن الضروري إدراك هذه الحقيقة، وحتى لا نقع في أوهام المبالغة وسوء التقدير. الفكرة الثانية التي يروج لها على نطاق واسع داخل وخارج مصر، وتستخدم في الخطاب السياسي للحكومة والمعارضة هي أن مصر على عتبة تغيير سياسي، لكن التغيير المقصود يقتصر على شخص الرئيس وليس السياسة والحكم والثروة في مصر، وتهميش انتخابات مجلس الشعب كآلية للتغيير، واختبار عملي لمدى احترام إرادة الناخبين وحيادية أجهزة الدولة في انتخابات الرئاسة، حيث من المقرر أن تجرى انتخابات مجلس الشعب في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، وسيكون المجلس المنتخب هو المخول دستورياً ترشيح الرئيس المقبل. وفي هذا السياق تطرح سيناريوات ترشح الرئيس مبارك أو جمال مبارك في الانتخابات الرئاسية العام المقبل في مواجهة مرشحين مغمورين. أما ترشح البرادعي ضد مبارك أو جمال فيستدعي تعديل الدستور وهو إجراء يصعب انتزاعه من الحزب الحاكم لا سيما في ظل ضعف المعارضة وعدم وجود ضغوط دولية قوية تكرر ما حدث عام 2005. ويبقى السيناريو الرابع والأخير وهو ظهور مرشح قوي من داخل الدولة – الجيش غالباً- في حال غياب مفاجئ للرئيس مبارك. مجمل هذه السيناريوات بحساباتها المعقدة لا تناقش جوهر فكرة التغيير ذاتها وحدوده، وتسلم صراحة أو ضمناً بأن التغيير يرتبط بشخص الرئيس، أي أنها تقصر مفهوم التغيير على اسم الرئيس المقبل لمصر، ولا تهتم بمناقشة مدى التغيير الذي يمكن أن يلحق بالنظام السياسي أو الاقتصادي لمصر بل وبطبيعة الدولة وقدرتها على فرض القانون ومكافحة الفساد. هذا الطرح لفكرة التغيير يعني غلق الباب أمام أي محاولة لمراجعة التوجهات الأساسية للسياسة والاقتصاد في مصر، فالتغيير المطروح حتى ولو جاء عبر السيناريو الرابع، أي البديل من داخل النظام، سيظل نتيجة تحالفات سياسية واقتصادية داخلية وخارجية ضمن أفق وحدود جمهورية مبارك الأطول عمراً بين جمهوريات مصر الثلاث. أما الفكرة الثالثة الأكثر رواجاً في الخطاب السياسي العام فهي أن التغيير أو الإصلاح السياسي والاجتماعي لا بد وبحكم التجارب التاريخية من أن يحدث من داخل الدولة المصرية، بمعنى أن القوى التي نجحت في إحداث تغيير أو إصلاح في المجتمع المصري كانت تنتمي دائماً للدولة المصرية. في هذا السياق تطرح تجربة محمد علي، أو إصلاحات الخديوي إسماعيل، وثورة أحمد عرابي في 1882، وثورة يوليو، باعتبارها نماذج تبرهن على صحة فكرة التغيير من داخل الدولة، كما أن التغييرات التي أقدم عليها الرئيس السادات والتي تتناقض مع توجهات عبد الناصر وسياساته تعد من قبيل التغيير من داخل الدولة. ويدلل أصحاب فكرة التغيير من داخل الدولة - وكثير منهم ينتمون للحكومة أو المعارضة- على قوة فكرتهم وفاعليتها بالحديث عن خصوصية قوة جهاز الدولة في مصر ووجوده التاريخي المميز في مجتمع نهري مستقر وممتد تاريخياً. لكن مكونات فكرة التغيير أو الإصلاح من داخل الدولة تنطوي على تناقضات منطقية وتاريخية، فثورة 1919 والتي جاءت بدستور 1923 الأكثر ليبرالية في تاريخ مصر الحديث لم تقم بها جماعة من داخل الدولة إلا إذا اعتبرنا سعد زغلول ورفاقه أشخاصاً من داخل الدولة على أساس أن بعضهم كانوا يعملون في القضاء وأجهزة الدولة. لكنها كانت دولة احتلال وهو متغير يفقد فكرة التغيير جاذبيتها ومنطقيتها، فالدولة المصرية تحت الاحتلال البريطاني ليست هي الدولة الوطنية في عصر عبد الناصر والسادات. بل إن الدولة المصرية كانت شبه مستقلة في عصر محمد علي والخديوي إسماعيل بينما لم تكن كذلك في ظل ثورة 1919. هكذا تتداعى الأسانيد التاريخية لفكرة التغيير من داخل الدولة، بخاصة إذا ما نظرنا إلى الفكرة من زاوية أنها تضفي قدراً من القداسة على الدولة، وتحديداً السلطة التنفيذية والجيش والأمن، وتهمش من قدرات المجتمع المدني. كما تصادر على قدرة أي جماعة أو شخص يسعى للإصلاح أو التغيير ولا ينتمي وظيفياً أو إدارياً لإحدى مؤسسات الدولة المصرية، ما يعني على مستوى الخطاب المضمر استبعاد البرادعي وجمال مبارك بل واستبعاد أي شخص مدني لا ينتمي لإحدى مؤسسات الدولة. * كاتب مصري.