الكتابات الكثيرة التي تدين الولاياتالمتحدة على أنها المسبب الأصلي للإرهاب الذي تعيش فيه البلاد العربية من أقصاها الى أقصاها، بعضه ناعم ومرن إرهاب فكري وبعضه خشن ومتوحش قتل الأبرياء وقطع رقابهم قد شبعنا منه، فاللعنات على أميركا لا تفيدنا بشيء البتة، غير تأخير اعترافنا بأسباب الإرهاب وبالتالي تأخير علاجه، وهو مرض عضال يسري في الجسم العربي لن توقفه لعناتنا لأميركا. لنعترف بأن أميركا لها قسمة من ما يحدث تناصر إسرائيل من دون النظر الى اضطهاد الفلسطينيين، إخوتنا في اللغة والدين والأرض ولكن القسم الأهم في ظاهرة الإرهاب المتفشي من الجزائر الى الخليج، له علاقة بنا، بشكل مباشر ومن دون أي اعتذار أو تمويه. هذا الإرهاب له درجات وتنوعات، لكن له جوهر ثلاثي الأبعاد. فهو متولد من إحباط من جهة، ومن تثقيف خاطئ وطويل المدى من جهة أخرى، ومن نقص في السير بالمجتمع الى شواطئ آمنة يحقق فيها المواطن العربي عيشه وكرامته، وينال حقوقه من دون تعثر أو منة. فلنسمي تلك الأمور بأية اسماء نريدها ديموقراطية، حريات، سماع صوت المواطن من خلال مؤسسات أي تسمية يمكن أن تسد الفراغ الذي وجدت الشعوب العربية نفسها فيه. إلا ان مضمون هذه التسميات غير موجود اليوم في فضائنا العربي إلا نسبياً. سواء كان الإرهاب ناعماً أو خشناً علينا أن نعترف انه سبق بن لادن، وقد يبقى بعده. فبن لادن لم يكن في مصر أو البوسنة أو حتى كشمير، الإرهاب له هدف، وهو أن تقوم الدولة بالتشديد على الجمهور في حركته ومعاشه ومضايقته في حركته وانتقاله، لا لأنها تريد التضييق على الناس، بل لأنها تريد أن تلاحق الإرهابيين، الأمر الذي يقع في صلب استراتيجية الإرهاب، ليس الذي نراه اليوم فقط، ولكن الإرهاب التاريخي منذ جماعات الإرهاب في روسيا القيصرية. فذاك التضييق تعتبره إستراتيجية الإرهاب انه يصب في مجراها، وتلتقط من ذاك التضييق والملاحقة كوادر جديدة تنظم لها وتتجند للسير خلفها. الإحباط المتولد من عدد من الممارسات السلبية الطويلة المدى والغور يؤدي الى الخروج على المجتمع، وهو خروج قد يأخذ شكلا سياسيا يساريا أو يمينيا أو قد يحتمي بالدين. إلا أن أدواته ونتائجه واحدة، بدليل أن المتطرفين يستخدمون المنتج الغربي في التبشير لأفعالهم الانترنت وغيره. في الإطار التثقيفي الإسلام هو دين المسلمين جميعا، وهم أكثر من بليون ومئتي مليون مسلم اليوم، يشكل العرب حوالى 15 في المئة منهم فقط. من هؤلاء ال15 في المئة أقلية قليلة ربما بالآلاف يحملون الفكر الإرهابي. فالفكر السياسي المتطرف، يمثل من المسلمين الهامش لا القلب، وأول خطأ استراتيجي في الحرب على الإرهاب المتفشي هو نعته بأنه"إسلامي"أو محاربته من داخل الخطاب الإسلامي، تلك خطيئة في التفكير تسبب اتساع الظاهرة لا تقليصها. فكيف يتجاور الإسلام بالإرهاب، معظم المسلمين لا ناقة لهم ولا جمل فيه، أليس ربط الاثنين معا نفاقاً أو جهلا ووقوعاً في المحظور؟ ولان الإسلام دين هذه الملايين من البشر، فله تجلياته الحياتية المختلفة والمتعددة بالضرورة، هذه التجليات ليست من صنع الحاضر المعاش فقط، ولكنها تاريخية أيضا. وليس هناك عاقل من المسلمين اليوم أو في السابق، يرى أو رأى أن يكون المسلمون خاضعين لشكل واحد من الممارسة، خصوصاً في المعاملات، فلا تربطهم"جماعية وواحدية"في كل شيء. فقد تعددت الاجتهادات بتعدد المناطق والبيئات الثقافية على امتداد عصور التاريخ. واختلفت الممارسات، وبعضها يسمى اليوم طوائف، أو فئات أو مذاهب أو مدارس، وتوافق الجميع على أن عبادة الله في الأرض لها اجتهادات مختلفة، وان الإصرار على شكل واحد موحد للإسلام في معاملات الدنيا، كما تعتقد أقلية من الناس، هو مجلبة للضرر العام، وابتعاد عن المنفعة الكلية. كما أن المعاملات تتغير حسب الأوضاع والظروف. المكون الصلب والمكون المرن في ردع الإرهاب الدولة الحديثة التي تتعامل مع هذا العالم المتقلص المسافات والمتجاوز للحدود والمتداخل الثقافات والذي ألقى الاختلاف في الزمن، لها قواعد هيكلية تصلح بها المجتمعات جميعها، وكلما قربنا الى الاعتراف بالاجتهادات المختلفة، كلما سحب البساط من تحت أقدام أولئك الذين اعتقدوا، بسبب التثقيف الخاطئ، أنهم"الفئة التي تملك كل الحقيقة عن الدين والدنيا"تنقض الآخر المختلف وتعاديه. مثل هذا التفكير يفسد جمالية التنوع، فحكم الخالق في المعاملات فسره المخلوق أكثر من تفسير، ما دام متمسكا بالمقاصد وكلها مقبولة. الإرهاب لا يتحول من فردي الى جماعي إلا إذا وجد في النسيج الاجتماعي ما يرفده بالدعم المالي أو المعنوي أو كليهما. كما أن النجاح الحقيقي لاقتلاع الإرهاب هو في اجتثاث مسبباته ودوافعه، وتجفيف منابعه الفكرية والمالية وفتح قنوات التأويل والجدل الايجابي في المجتمع. وهو عمل طويل المدى يحتاج الى بداية، إلا أن له آليات لا يستوجب منا تجاوزها، حرب الإرهاب يجب أن تمزج بفاعلية وابتكار بين المكون الصلب الردع الأمني وبين المكون المرن الأمل في التغيير والتثقيف الايجابي وإدارة الاثنين معا ليرى المواطن ايجابيات الثاني، ولا تؤثر عليه سلبيات الأول. الأمثلة حولنا واضحة، فالدولة المصرية لم تستطع أن تجتث الإرهاب كاملا، فالاسترخاء الملاحظ في المجتمع المصري اليوم يعني أن الإرهاب الخشن قد تراجع الى الخلف بسبب المكون الصلب، وبقي الإرهاب الناعم الفكري تتبعه بالطبع ملاحقات وسجون، وتنتج عنه تقلصات لا تستبعد عودة ما للإرهاب الخشن أيضا بسبب تأخر الأمل في التغيير. وكذلك في الجزائر، فعلى رغم صدور وتفعيل قانون الوئام الوطني الذي جفف بعض مصادر الإرهاب الخشن، إلا أن عدم الوفاء بالمتطلبات الاقتصادية والسياسية قد سبب ويسبب التقلصات في المجتمع الجزائري المشاهد اليوم. حقيقة الأمر أن أي دولة عربية، بسبب التمنع في اتخاذ خطوات أصبحت واجبة في الإصلاح واستخدام المكون المرن لتجفيف المنابع، ليست ذات مناعة كاملة ضد الإرهاب. الإرهاب في نظري يتصاعد طرديا مع الفساد المالي والسياسي، وهو يتصاعد طرديا مع قلة العدالة أو تحريفها، ويتصاعد طرديا مع القيمة الايجابية التي يضعها الإعلام لممارسات الإرهاب في مناطق أخرى من البلاد العربية. الإعلام السلبي يخلق بيئة صالحة للإرهاب هنا مكمن المخاطر في توسيع دائرة الرضا عن الإرهاب، عندما يوصف بشكله وممارسته على انه"مقاومة"حيث يقوم بعض الاعلام العربي باعتبار الإرهاب في العراق مثلا أو في السعودية كمثال آخر أو في الجزائر من وسائل الاعلام المعارضة لأوضاع هناك، بأنه حرب ذات قيمة أخلاقية عالية، وفي الوقت نفسه يدين الأشكال نفسها من الإرهاب في أماكن أخرى لا تناسبه؟ فبماذا نفسر تلبيس إرهاب"الزرقاوي"مثلا في الفلوجة العراقية لباساً بطولياً في بعض وسائل إعلامنا وهو يقوم بذبح الأبرياء. بل ان هذا الأعلام يتسابق في الحصول على مثيرات للإرهاب مثل بيانات الظواهري أو بن لادن. إن مثل هذا الإطراء أو التمكين في وسائل إعلامنا والتغافل عن نتائجه السلبية، يعني رفعا للقيمة الأخلاقية لمثل هذا العمل أو الخطاب وتشجيعاً لآخرين أن يفعلوا ما فُعل في أرض أخرى. ولعل من الغفلة تجاوز حقيقة التعاطف الكبير لدى جمهور عربي، قد يكون واسعاً، لمثل هذه الأعمال، ليس حبا في ما يجري ولكن إحباطاً من الواقع. وفي الوقت الذي يتجاهل هذا الإعلام تبصير الجمهور بمستحقات الإصلاح وطرقه، وهو جمهور تقول لنا كثير من استطلاعات الرأي المحايدة انه يبدي رغبة قوية للحكومات المنتخبة والحريات الفردية والعامة والخيارات الاقتصادية ذات المنحى الخاص، والمساواة في الفرص، واحترام حقوق الإنسان. لعل قراءة مسيرة الإرهاب في البلاد العربية تعطينا بعض الإشارات المهمة. نرى أن الإرهاب الخشن أقل في نوعين من بلاد العرب، النوع الأول يأخذ بالديموقراطية النسبية، أو بالتراضي الاجتماعي. والنوع الثاني عن طريق تقسيم أفضل وربما أعدل للثروة الوطنية، فيمتص الإحباط أو تقل درجته، وبلاد أخرى تأخذ بالقسوة والصلف الى حد قلع عيون المتهمين بالإرهاب بشوك الطعام! على حد تعبير احد المعلقين الذين كتبوا عن القمع في ربوعنا. إلا أن العقل يميل الى القول أن الأول الذي يميل الى الآخذ بسياسة إعادة الامتصاص في النسيج الاجتماعي وبترجيح سياسات تقوم على الاستيعاب والمرونة وقبول التعددية وإقامة المؤسسات وإشاعة الأمل في المستقبل له إمكانية البقاء أكبر بكثير من أنظمة اقتلاع العيون الرمزية أو الحقيقية. لان مثل ذاك التوجه قد يبقي عنق النظام خارج الماء ولكن لوقت قصير، والوقت هنا الذي لا يحسبه البعض يتحول ضده. مستقبل العرب رهن بتنويرهم، واشتداد ضغط الواقع الداخلي والخارجي يشير الى فشل الدولة العربية في مواجهة هذه الضغوط وفي رؤية المتغيرات، ونجاحها فقط في صناعة الأصنام التي ليس لها آذان. * كاتب كويتي.