قبل حوالى ثلاثين سنة 1973 شارك المستشرق الشاب فتحي مهدي في تأسيس ثالث قسم للاستشراق في يوغوسلافيا السابقة، في بريشتينا عاصمة كوسوفو، وكان هذا يعتبر أحدث تطور في الاستشراق اليوغوسلافي في طريقه الطويل منذ 1926 حين تأسس أول فرع للاستشراق في بلغراد. في ذلك الحين كان من المألوف الحديث عن الاستشراق اليوغوسلافي، الذي كان يتميز بانفتاح أكبر على الشرق بسبب علاقات يوغوسلافيا مع العالم الثالث ضمن حركة عدم الانحياز، وكان فتحي مهدي يعتبر ممثلاً للجيل الجديد من المستشرقين اليوغوسلاف الذي يعد بالكثير. ولكن بعد انهيار يوغوسلافيا تبعثر أيضاً الاستشراق اليوغوسلافي فأصبح لدينا "الاستشراق الصربي" و"الاستشراق الكرواتي" و"الاستشراق البوسنوي" و"الاستشراق الألباني". وفي هذا الإطار يبدو فتحي مهدي الآن ممثل الجيل المخضرم الذي عايش كل هذه التغيرات الكبيرة التي لم تنته بعد، التي تحمل أيضاً بصمة من بصماته. ولد فتحي مهدي في 1944 في قرية زاياز قرب كيتشفو في مكدونيا الغربية، التي تقطنها غالبية البانية، وبعد إكمال دراسته الابتدائية في القرية انتقل إلى كوسوفو المجاورة لمتابعة الدراسة الثانوية في مدرسة "علاء الدين" الإسلامية، حيث تعلم هناك اللغة العربية وبدأ اهتمامه بالدراسات العربية الإسلامية. وبعد تخرجه فيها في 1976 انتقل إلى بلغراد للدراسة في قسم الاستشراق، حيث تخرج فيه في 1971م. وبعد الخدمة العسكرية عاد إلى بريشتينا حيث التحق في مطلع 1973 بمعهد التاريخ، ثم اختاره المستشرق حسن كلشي للعمل معه في قسم الاستشراق الجديد في جامعة بريشتينا الذي بدأ عمله في العام الدراسي 1973-1974. وتابع دراساته العليا في قسم الاستشراق في بلغراد حيث اختار لرسالة الماجستير "الترجمات الصربية الكرواتية للقرآن"، بينما اختار لأطروحة الدكتوراه "ترجمات الأدب العربي إلى اللغة الألبانية". وعُرف عن فتحي المهدي اهتمامه المبكر بالبحث وجديته في العمل ومعرفته لعدد من اللغات العربية والتركية، والألبانية والمكدونية والصربية والإنكليزية مما أثمر نتاجاً كبيراً من الدراسات في مجالات عدة الفيلولوجيا والتاريخ والأدب، إضافة إلى ترجمات كثيرة من العربية والتركية. وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى أن فتحي مهدي كان من الرواد الذين ساهموا في التعريف بالأدب العربي في اللغة الألبانية. وبدأ منذ 1971 بنشر ترجمات له من الأدب العربي الحديث، فنشر ترجمة قصة لمحمود تيمور ثم نشر في1972 ترجمة قصة لإبراهيم المازني، ثم درس وترجم بعض المعلقات في 1973، وانتقل في 1974 لنشر نماذج من الشعر العراقي المعاصر عبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف، وهو ما تابعه في 1975 بنماذج أخرى للبياتي ونازك الملائكة، إضافة إلى نماذج من النثر اللبناني جبران خليل جبران وتوفيق عواد. وفي السنوات اللاحقة تابع فتحي مهدي دراسة الأدب العربي المعاصر وترجم نماذج لعشرات الشعراء وكتاب القصة والرواية من المغرب إلى العراق. وضمن هذه الاهتمام نشر في 1983 في سكوبيا عاصمة مكدونيا مختارات من الشعر العربي، الذي كان من الكتب الرائدة التي تعرّف بالأدب العربي في يوغوسلافيا السابقة. وبالاستناد إلى هذا لم يكن من المستغرب أن يخصص لأطروحة الدكتوراه "ترجمات الأدب العربي إلى اللغة الألبانية"، التي لم تطبع للأسف في الألبانية بسبب الأوضاع التي سبقت وأعقبت انهيار يوغوسلافيا، كما أنها لم تترجم بعد إلى العربية. ومع هذا الاهتمام بالترجمة من العربية إلى لغات يوغوسلافيا السابقة كتب فتحي مهدي أطروحته القيمة للماجستير "الترجمات الصربية الكرواتية للقرآن"، التي جعلته يتعمق أكثر في هذا المجال ترجمات القرآن ويتوجه إلى أهم إنجاز له في ذلك الوقت ألا وهو إصداره لأول ترجمة كاملة للقرآن إلى اللغة الألبانية في 1985. وربما من المستغرب أن تتأخر مثل هذه الترجمة إلى الألبانية حتى 1985، آخذاً في الاعتبار أن غالبية الألبان من المسلمين، ولكنها فتحت الباب بسرعة أمام عدة ترجمات أخرى صدرت في السنوات اللاحقة 1985-1990. وفي موازاة ذلك اهتم فتحي مهدي في تلك السنوات بوضع أول الكتب لتعليم اللغة العربية، حيث أصدر في 1987 كتابه الأول "لنتحدث بالعربية" بينما أصدر في 1991 كتابه الآخر لطلبة الاستشراق "اللغة العربية/ الفونيتيكا والموروفولوجيا". ومع هذا التوجه اهتم أيضاً بدراسة المفردات العربية في اللغة الألبانية وتأصيل كتابة الأسماء العربية في اللغة الألبانية، كما أنه أخذ يهتم بالتاريخ الحضاري للمناطق الألبانية خلال الحكم العثماني استناداً إلى الوثائق والمصادر العثمانية. وقد ساعدته معرفته للغة التركية/ العثمانية على إنجاز دراسات وترجمات مختلفة منها ترجمة ما يخص الألبان من الموسوعة الجغرافية التاريخية "قاموس الإعلام" لشمس الدين سامي التي صدرت في استنبول خلال 1889-1898، وذلك في كتاب مستقل أصدره في 1984. وبهذا كان فتحي مهدي يتابع ما بدأ في البوسنة مع تأسيس معهد الاستشراق في سراييفو في 1950، حيث أخذ الاستشراق يكتسب مفهوماً قومياً بعد أن أصبح يعتبر من أهدافه دراسة التراث الشرقي المحلي أو التراث الشرقي الذي يساعد على دراسة التاريخ المحلي/ القومي. ومع أن أستاذه المستشرق حسن كلشي سبقه في هذا المجال إلاّ أن وفاته المبكرة في 1976 جعلت فتحي مهدي يبرز أكثر في هذا المجال. ويبدو أن الظروف اللاحقة تفاقم الأوضاع في يوغسلافيا السابقة وانهيارها في 1991 كان لها دورها ايضاً. فقد تميزت السنوات الأخيرة من يوغوسلافيا السابقة بتغليب ما هو قومي على ما هو يوغوسلافي، وهو ما جعل بعض المستشرقين اليوغوسلاف يهتمون بما يحدث من حولهم وينشغلون أيضاً في خدمة الأجندة السياسية والقومية. ومع انهيار يوغوسلافيا في 1991 وما صاحب وأعقب ذلك من حروب ومآس وصولاًَ إلى حرب كوسوفو في 1999، أخذ الطابع اليوغوسلافي للاستشراق يتفكك في سرعة لمصلحة الطابع القومي للاستشراق في صربيا والبوسنة وكوسوفو. ومع هذه المتغيرات كان لفتحي مهدي دور في إبراز الاستشراق الألباني. فقد ساعد موقع كوسوفو في قلب العالم الألباني، ما بين جنوب صربيا ومكدونيا الغربية وألبانيا، وعدم وجود كرسي/ قسم للاستشراق في ألبانيا منذ إعلان استقلالها في 1912م، على أن يستقطب هذا القسم الطلاب الألبان من كل المناطق المجاورة. ومن ناحية أخرى فقد أدت عودة الأساتذة البشناق إلى البوسنة عشية الحرب حارث سيلاجيتش وأسعد دوراكوفيتش، وانفصال فرع اللغة والأدب التركي عن القسم لخدمة متطلبات الأقلية التركية في كوسوفو، إلى أن يقتصر وجود أعضاء هيئة التدريس على الألبان. وفي هذه الظروف التي كان فيها كل قسم من أقسام الاستشراق يبحث عن هويته مع هذه المتغيرات المتسارعة أخذ مهدي يعبر في كتاباته عما أصبح يعنيه "الاستشراق الألباني". وهكذا فقد نشر في صيف 2000 مقالة في جريدة "ريلينديا" الكوسوفية بعنوان "الاستشراق الألباني في خدمة الثقافة القومية". ففي مواجهة من يرى أن الاستشراق يعني الاهتمام بالإسلام فقط، وهو ما كان يقابل بتحفظ في الأوساط العلمانية في كوسوفو، ينطلق فتحي مهدي من أن "الاستشراق الألباني له أهمية كبيرة بالنسبة إلى تاريخ الشعب الألباني" لأسباب عدة. فنظراً لأن حوالى 500 سنة من تاريخ الألبان تتدرج ضمن الدولة العثمانية لا يعود من الممكن دراسة هذا القسم المهم من التاريخ الألباني من دون مساعدة الاستشراق الألباني الذي أصبح يدخل ضمن مجال البحث في الوثائق والمصادر العثمانية. ومن ناحية أخرى هناك الكثير من الكتّاب الألبان الذين ألفوا في اللغات الشرقية وهو ما يدخل في دوره ضمن مجال الاستشراق الألباني. وضمن هذا التوجه الجديد بادر فتحي مهدي في 2001 إلى تأسيس "جمعية المستشرقين في كوسوفو" وإلى إصدار مجلة "دراسات شرقية" التي أصبحت أول مجلة استشراقية في اللغة الألبانية. ولو تصفحنا الأعداد الصادرة فيها حتى الآن نجد أنها تبحث في جوانب عدة من تاريخ وثقافة الألبان بالاستناد إلى المصادر العربية والعثمانية. في هذه الأيام يبلغ فتحي مهدي الستين من عمره، التي قضى أكثر من نصفها 1971-2004 في البحث والنشر. ولو تصفحنا الببلوغرافيا التي تتضمن ما نشره خلال 34 سنة لوجدنا حوالى 250 دراسة ومقالة علمية وترجمة في لغات عدة العربية والتركية والمكدونية والألبانية والعبرية والبوسنية ومشاركات علمية في مؤتمرات عدة جعلت منه إسماً يذكر بالاحترام في كل مكان. وفي هذا الإطار يعترف فتحي مهدي أن أفضل تكريم لجهوده في دارسة الأدب العربي وترجمته إلى اللغة الألبانية جاءه من مجمع اللغة العربية في دمشق الذي انتخبه عضواً مراسلاً في 2002، وهو الأمر الذي يعتز به كثيراً. قبل 31 سنة 1973 شارك فتحي مهدي في تأسيس قسم الاستشراق الجديد في بريشتينا، وهو في هذا أخذ يشتهر ضمن الجيل الجديد من الاستشراق اليوغوسلافي. ولكن مع انهيار يوغوسلافيا وقومنة الاستشراق أصبح فتحي مهدي الآن المستشرق المكدوني بحكم الولادة في جمهورية مكدونيا التي تعطيه الجنسية الطبيعية والمستشرق الكوسوفي بحكم إقامته الطويلة التي تكسبه الجنسية الجديدة والمستشرق الألباني بحكم عمله في بلورة المفهوم الجديد لهذا الاستشراق!