في عام 1970 عيّن المستشرق الألباني اليوغوسلافي المعروف حسن كلشي أستاذاً في قسم التاريخ بكلية الآداب في جامعة بريشتينا، وأخذ يدرّس اللغة العثمانية والعلوم المساعدة للتاريخ. وساعد وجوده في الكلية على اطلاق فكرة تأسيس قسم للاستشراق في جامعة بريشتينا التي تأسست لتوّها العام الجامعي 1969 - 1970. ولم يطل الأمر فعلاً إذ تم افتتاح قسم الاستشراق في خريف 1973 بجهود كلشي ورئاسته. جاء تأسيس هذا القسم الجديد/ الثالث للاستشراق على نمط القسمين السابقين في بلغراد وساراييفو، إذ كان يعنى اساساً بتدريس اللغة العربية وآدابها واللغة التركية وآدابها. واهتم كلشي باستقطاب مجموعة من الشباب للعمل معه، فاستفادوا من عمله في القسم فتحي مهدي، اسماعي احمدي، مجاهد اسيموف، محمد موفاكو، نعمةالله حافظ وغيرهم. وطبع القسم في هذه الفترة بطابع يوغوسلافي، شأنه شأن القسمين الآخرين، إذ عمل فيه اساتذة من مختلف القوميات ألبان وأتراك وبوشناق وقبل فيه طلاب من مختلف الجمهوريات مقدونيا وصربيا والبوسنة والجبل الأسود. ولكن مع تفاقم الوضع في البلاد بعد وفاة تيتو في أيار مايو 1980 وتظاهرات الطلاب في بريشتينا في آذار مارس 1981، وتصاعد الاستقطاب القومي في الجمهوريات الكبرى، لم يسلم القسم بدوره من المصير الذي لحق بيوغوسلافيا لاحقاً. فانتقل اثنان من افضل اساتذته اسعد دوراكوفيتش وحارث سيلاجيتش الى البوسنة، ما جعل القسم يطبع بطابع ألباني - تركي. وبعد إلغاء الحكم الذاتي في كوسوفو في آذار 1989 اختزلت بلغراد في اطار سياستها المتمثلة في استقطاب الأتراك ضد الألبان قسم الاستشراق هذا الى قسم لدراسة اللغة التركية وآدابها فقط وطردت الأساتذة الألبان من الكلية. ولكن الأساتذة، سواء في قسم الاستشراق او في بقية الأقسام رفضوا الاعتراف بالإجراءات التي اتخذتها بلغراد وعمدوا الى الانتقال الى مبانٍ اخرى مستأجرة والاستمرار بجامعة بريشتينا كما كانت في السابق. وشمل هذا "قسم الاستشراق" الذي اصبحت محاضراته تدرّس في البيوت، واكتفى اساتذته برواتب رمزية 20 ماركاً ألمانياً بداية، ثم وصلت الى 60 ماركاً في الشهر. ونجح فريق العمل في عبور تلك السنوات الصعبة بفضل تصميمه على عدم الاستسلام. ومع تحرر كوسوفو من الحكم الصربي في حزيران يونيو 1999 عادت "جامعة بريشتينا" الى مقرها الرسمي، وعاد "قسم الاستشراق" الى الطابق الذي طرد منه في التسعينات. ويبدو الآن ان تلك السنوات أثّرت كثيراً في نشاط اساتذة القسم، إذ كانوا في عزلة عن العالم وتحديداً عما يكتب وينشر في عالم الاستشراق والعالم العربي الاسلامي، لأنه لم يعد هناك مكتبة يعود إليها الأساتذة والطلاب في الوضع المتنقل الذي كان فيه القسم. ويبدو ان قسم الاستشراق يتبلور الآن بملامح جديدة في الظروف المتغيرة التي تحكم كوسوفو. فنظراً الى الاعتبارات السياسية أبقي على قسم اللغة التركية وآدابها الذي يعمل فيه الاساتذة الأتراك ويقبل فيه الطلاب الأتراك فقط باعتباره لخدمة الأقلية التركية في كوسوفو اقل من واحد في المئة من عدد السكان وذلك لتوفير الكوادر للعمل في التعليم والصحافة، بينما قسم الاستشراق اصبح يتألف الآن من اساتذة ألبان نظراً الى ان الأتراك بقوا في القسم الأول، ولكنه يصرّ على تعليم اللغة التركية وآدابها للطلبة الألبان على رغم ان اللغة العربية وآدابها تحتل المكانة الرئيسة الآن. ويلاحظ ان الطابع الألباني للقسم يبدو بوضوح بسبب الموقع الذي تحتله كوسوفو بين الكتل الألبانية الرئيسة في البلقان، وتحديداً بين جنوب صربيا ومقدونياوألبانيا والجبل الأسود. ويتجه الآن ليكون قسم الاستشراق الأول والوحيد للألبان في البلقان، إذ ان الظروف في ألبانيا لا توحي بإمكان تأسيس قسم آخر للاستشراق في المستقبل المنظور ما يجعل هذا القسم هو الوحيد من نوعه للألبان. إلا أن الطابع الألباني الجديد لقسم الاستشراق لا يبدو في نوعية الطلاب الذين يقبلون على القسم من الجوار الألباني جنوب صربيا ومقدونياوألبانيا والجبل الأسود بل في بلورة مفهوم جديد للاستشراق لدى اساتذة القسم يعيد اللحمة ما بين هذا العلم الاستشراق والثقافة القومية. وفي الواقع كان كلشي اول من نوّه منذ 1964 بأن الاستشراق في يوغوسلافيا يختلف عن غيره في أوروبا الغربية لأن من واجبه "دراسة ماضينا خلال العصر العثماني وكل ما يتصل بالحضارة العربية في هذا العصر بما يتضمنه ذلك من جمع الوثائق العربية وبحثها ونشر تلك الوثائق التي كتبت باللغة العربية اثناء الحكم العثماني ... ومن ثم دراسة المخطوطات التي يبلغ عددها في يوغوسلافيا نحو 15 ألفاً لتصبح هذه الثروة في متناول جميع العلماء في انحاء العالم". وبعد كلشي اسهم البشانقة اكثر في بلورة مفهوم جديد للاستشراق المحلي لإعادة الاعتبار الى التراث الشرقي ضمن الثقافة البوسنوية انظر "الحياة" عدد 7/2/2001. واستناداً الى هذا، وفي الظروف الجديدة التي تعيشها كوسوفو الآن، أمكن فتحي مهدي ان ينشر مقالة في صيف 2000 بعنوان "الاستشراق الألباني في خدمة الثقافة الألبانية" ورد فيها للمرة الأولى مصطلح "الاستشراق الألباني" والمفهوم الجديد له. وفي الواقع يبدو الآن ان اساتذة القسم فتحي مهدي واسماعيل احمدي بوليسي وعبدالله حميدي وعيسى مامتيش يجمعون على هذا التوجه الجديد من خلال ابحاثهم الجديدة، وتحديداً التركيز على اسهام الألبان في التراث الشرقي باللغات العربية والتركية والفارسية خلال الحكم العثماني الطويل الذي استمر نحو خمسة قرون. وهكذا، اهتم فتحي مهدي بإسهام الألبان في نظم الموالد مولد علي كورتشا، وحديثاً نشر اسماعيل احمدي اول دراسة في اللغة الألبانية عن العالم علي كورتشا الذي كان من الرواد الألبان الذين درسوا الأدب العربي/ الفارسي وترجموه الى اللغة الألبانية، ودرس عبدالله حميدي اسهام عالم آخر علي اولتشيانكو الذي ألّف اول قاموس تركي - ألباني، وألباني - تركي. وقام مهدي بوليس بدراسة مؤلفات العالم المعروف شمس الدين سامي وترجمة ما يخص الألبان في موسوعة "قاموس الاعلام" وترجمة بعض مؤلفاته الاخرى الى اللغة الألبانية. لكن هذا التوجه الجديد لألبنة الاستشراق او لجعل الاستشراق في خدمة الثقافة الألبانية لم يؤثر في "الواجب" الأساس لأساتذة القسم، ألا وهو دراسة الأدب العربي وترجمته الى اللغة الألبانية. فقد خصص فتحي مهدي اطروحته للدكتوراه عن "ترجمات الأدب العربي في اللغة الألبانية" وهو ممن ترجم الكثير الى اللغة الألبانية، ونشر اسماعيل احمدي كتباً عدة عن القصة والمسرحية العربية، كما ترجم عبدالله حميدي مجموعة مختارة من أشعار محمود درويش ورواية لوليد ابو بكر. ولا شك في ان هذا الوضع الجديد الذي يعيشه قسم الاستشراق في بريشتينا، الذي يمكن وصفه بأنه اعادة تأسيس للقسم في الذكرى الثلاثين للتأسيس الأول، يبشّر بارتقاء نوعي له في السنوات المقبلة، بعد ان خرجت كوسوفو من عزلتها. * استاذ جامعي.