صدرت الطبعة الثالثة لترجمة القرآن الكريم إلى الألبانية، التي كانت طبعتها الأولى قد نُشرت عام 1985 وعُدّت حدثاً ثقافياً مهماً للألبان من مسلمين ومسيحيين باعتبارها أول ترجمة كاملة للقرآن الكريم من العربية الى الألبانية. وفي الحقيقة ان صدور الطبعة الثالثة في الذكرى الثلاثين للطبعة الأولى تؤرخ لعقود من الجهود التي بُذلت لكي يكون القرآن الكريم في متناول الألبان بعد أكثر من خمسة قرون من اعتناق غالبيتهم الإسلام، كما وتؤرخ للظروف التي واكبت الألبان في كوسوفو بعد أن أصبحت من مكونات يوغسلافيا الفيديرالية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية. فمع هذا التطور السياسي والثقافي الجديد للألبان في إطار يوغسلافيا، تأسّست جامعة بريشتينا عام 1970 بينما افتتح أول قسم للاستشراق عام 1973 ليكون بذلك الثالث في يوغوسلافيا بعد ساراييفو (1950) وبلغراد (1926). وفي هذا القسم الذي أسّسه حسن كلشيHasan Kaleshi (1922-1976 تكوّن الجيل الأول من المستشرقين الألبان (الياس رجا وشمسي إيوازي وفتحي مهديو وإسماعيل أحمدي ومهدي بوليسي وعبد الله حميدي وعيسى ميميشي)، التي كانت لهم مساهمة كبيرة في ترجمة الأدب العربي الى الألبانية ودراسته ومقاربة مختلفة في ما يتعلق بترجمة القرآن. وكان كلشي، الذي يمكن اعتباره مؤسّس الاستشراق الألباني، قد تناول هذا الموضوع (ترجمة القرآن الكريم) في مقدمته المطوّلة للمختارات من الترجمة الصربية الأولى التي صدرت ببلغراد عام 1967، والتي كانت بعنوان ملفت للنظر «القرآن أعظم أثر للأدب العربي». فنظراً لأن هذه الطبعة المختارة للقرآن كانت موجّهة للمسلمين وغير المسلمين، مع الاهتمام المتزايد في يوغسلافيا التيتوية بالعالم العربي، فقد ركّز كلشي على الجانب الفليلوجي والتاريخي لتعريف غير المسلمين بالقرآن والإسلام باعتبار ان الإسلام يختلف عن غيره من الأديان بأنه «ليس دين المعجزات بل دين المعجزة الواحدة» (القرآن)، وأن القرآن بذلك أعظم أثر أدبي في اللغة العربية بل هو المثل الأعلى للغة العربية وبلاغتها. وقد استعرض كلشي في مقدمته الطويلة آراء المستشرقين الاوروبيين حول مختلف القضايا ليساعد القرّاء اليوغسلاف على فهم أفضل للعرب والعالم العربي. وفي تناوله لترجمات القرآن الى اللغات الاوروبية منذ بدايتها الى وقته ميّز بين «الترجمات الدينية» التي تمّت بدوافع دعائية مضادة للإسلام وبين «الترجمات العلمية» التي جاءت مع نمو الدراسات الشرقية في أوروبا بهدف التعرف في شكل أفضل على هذا المصدر الرئيس للإسلام والثقافة الإسلامية. وقد تصادف خلال كتابته هذه المقدمة (1966) ظهور ترجمة جديدة للقرآن الى اللغة الصربوكرواتية عن المشيخة الإسلامية في ساراييفو، إلا أنه انتقدها باعتبارها نموذجاً ل «الترجمة الدينية» المنجزة من قبل رجال الدين المسلمين والموجهة الى المسلمين وليست نموذجاً ل «الترجمة العلمية» التي تستفيد من انجازات الدراسات الشرقية في أوروبا خلال القرون الأخيرة. وبهذا المفهوم يمكن القول إن أول «ترجمة علمية» للقرآن الكريم الى الصربوكرواتية تأخرت حتى 1977، تلك التي أنجزها المستشرق المسلم بسيم كركوت (Besim Korkut (1904-1975 وصدرت عن معهد الدراسات الشرقية في ساراييفو، ولكنها مسّت المسلمين في الصميم بسبب المقدمة التي كتبها مدير المعهد سليمان غروزدانيتش (S.Grizdanic (1933-1996 وزعم فيها أن القرآن هو من نتاج محمد بن عبد الله وليس من نتاج الله . وبالمقارنة ب «الترجمة الدينية» لعام 1966 المثقلة بالشروح المعتمدة على كتب التفسير والفقه الخ، فقد جاءت «الترجمة العلمية» مباشرة وموجّهة للمسلم وغير المسلم، من غير هوامش ولا حواش، بينما جاء في نهاية الطبعة ملحق ب 253 ملاحظة في حوالى ثلاثين صفحة تتضمّن توضيحات لبعض الأمور التي لابد منها، بخاصة لغير المسلمين، بدأها بتوضيح المقصود من بدء سورة البقرة ب «ألم» وأنهاها بتعريف أبو لهب الوارد في سورة اللهب. وبالاستناد الى كل هذا يمكن القول إن أول «ترجمة علمية» للقرآن إلى اللغة الألبانية ظهرت في بريشتينا عام 1985 على يد فتحي مهديو Feti Mehdiu لتمثل بذلك استمراراً لما أصدره حسن كلشي في 1967 وبسيم كركوت في 1979. فقد كان فتحي مهديّو درس الاستشراق في جامعة بلغراد وأنجز رسالته للماجستير عن «ترجمات القرآن إلى اللغة الصربوكرواتية»، وانضم الى قسم الاستشراق الجديد في جامعة بريشتينا مع بداية تأسيسه وكان من أقرب الموجودين الى المؤسّس حسن كلشي الذي استفاد منه الى حين وفاته في 1976، كما كان على صلة جيّدة بالمرحوم بسيم كركوت. ومن هنا فقد تضمّنت الطبعة التي أصدرها د. مهديّو عام 1985 المقدمة المطوّلة لأستاذه كلشي «القرآن أعظم أثر في الأدب العربي»، كما تضمّنت في خاتمتها الملاحظات أو التوضيحات ال 253 الموجودة في ترجمة بسيم كركوت. وكان مهديّو على صلة بالمشيخة الإسلامية في بريشتينا، وهي الهيئة التي تمثل المسلمين أمام الدولة وتهتم بأمورهم الدينية والثقافية، التي شكلت في نهاية 1981 لجنة مختلطة من العاملين في المشيخة والعاملين في قسم الاستشراق (شريف أحمدي وبيروش أحمدي وفتحي مهديّو وإسماعيل أحمدي وغيرهم) لترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الألبانية، إلا أن اختلاف المقاربة بين «الترجمة الدينية» و»الترجمة العلمية» أدت الى أن يستقيل د. مهديّو من اللجنة ويتابع عمله وحده ليصدر في 1985 أول ترجمة كاملة ومباشرة من العربية للقرآن الكريم في اللغة الألبانية. ومن الطبيعي أن يكون لهذه الترجمة صداها الواسع في يوغسلافيا وخارجها لأنها كانت أول ترجمة كاملة للقرآن الى الألبانية بعد حوالى خمسة قرون من اعتناق الألبان للإسلام. جاءت هذه «الترجمة العلمية» للقرآن الكريم على نمط ترجمة بسيم كركوت، أي أنها لم تكن موجّهة للمسلمين فقط بل لعموم الألبان من مسلمين ومسيحيين، ولذلك جاء الاحتفاء بها لكونها قد جعلت هذا المصدر الرئيس لثقافة الغالبية الألبانية متاحاً للجميع من مؤمنين وغير مؤمنين، ومن مسلمين وغير مسلمين. وعلى نمط ترجمة بسيم كركوت فقد حمل الغلاف تعبير «ترجمة» (ترجمهُ إلى الألبانية فتحي مهديو)، ومن ثم جاءت السور بآياتها مباشرة بالألبانية من دون تفسير أو حواشٍ، على حين أنه اكتفى بترجمة الملاحظات ال 253 التي وردت في ترجمة بسيم كركوت. صدرت هذه الترجمة في فترة عصيبة كانت فيها يوغسلافيا تتخبط وكانت المُثل الشيوعية تتراجع أمام المُثل القومية الصاعدة التي سيطرت على القيادات الفيديرالية وأدت إلى انهيار يوغسلافيا والحروب التي صاحبت ذلك. وبعبارة أخرى، جاءت هذه الترجمة في مجتمع علماني من ناحية، بعد عقود من حكم الحزب الشيوعي، وفي مجتمع متأزم من ناحية أخرى يبحث عن البديل عن الشيوعية سواء في القومية أو الدين. وفي هذا السياق التاريخي جاءت هذه الترجمة لتنتشر في شكل غير متوقع ولتخدم في شكل أو آخر هذا التحول التاريخي عند الألبان في يوغسلافيا. فصدور ترجمة للقرآن باللغة الألبانية كان يرضي من ناحية النزعة القومية الصاعدة بقوة عن الألبان في تلك السنوات، حيث أصبح مثاراً للاعتزاز أن القرآن أيضاً أصبح في الإمكان قراءته باللغة الألبانية، كما أن صدور هذه الترجمة كان يلبي من ناحية أخرى التوجه المتزايد نحو الدين في مجتمع لم يعد يؤمن بالقيم الشيوعية. صحيح أن مثل هذه «الترجمة العلمية» لم تكن لتمرّ بسهولة من قبل القيّميين على الدين (المشيخة الإسلامية) وعلى اللغة الألبانية، نظراً للظروف غير الطبيعية التي أشرنا إليها في الدولة الأم (ألبانيا) ومنعت حتى 1990 ظهور أدبيات إسلامية باللغة الألبانية، ولذلك فقد انصبّت الملاحظات عليها من الطرف الأول لكونها «ترجمة لغوية» أو «غير دينية» ومن الطرف الثاني حول دقة أو سلامة بعض المصطلحات. وفي الواقع كانت اللغة الألبانية قد توحدت مابين ألبانيا وكوسوفا قبل عقدين فقط على صدور الترجمة الأولى ولم تكن المصطلحات الدينية قد استقرت بعد، ولذلك كان الفرق بين الطرفين واضحاً حيث أن الطرف الأول (علماء الدين) يعرف العربية ولكنه لايتقن الألبانية الفصحى بينما الطرف الآخر (علماء اللغة الألبانية) لا يعرف اللغة العربية ولكنه يركز على دقة اللغة وسلامة الأسلوب في الترجمة. وربما كان فتحي مهديّو يشكل استثناء لكونه تخرج من مدرسة دينية (مدرسة علاء الدين) وتابع في بلغراد (قسم الاستشراق) والقاهرة دراسة اللغة العربية إضافة إلى كونه أوشك على إكمال برنامج الليسانس في اللغة الألبانية وأدبها في جامعة بلغراد أيضاً. ولكن الأمور تغيّرت بسرعة بعد صدور هذه الترجمة، حيث استسلم الحكم الشيوعي في ألبانيا في نهاية 1990 بالقبول بالديموقراطية وعودة المؤسسات الدينية وبدأ انهيار يوغسلافيا وظهور الكيانات التي ورثتها. ومع هذه التغيرات زاد الاندفاع نحو الدين وتزايد عدد الجمعيات الخيرية التي جاءت لتساعد الألبان على استرداد دينهم أو لهدايتهم إلى «الإسلام الصحيح»، وهو ما ساعد على صدور عشر ترجمات أخرى للقرآن في الألبانية سواء في كوسوفو أو في ألبانيا ومكدونيا وحتى في تركيا والباكستان. ومع ذلك فقد بقيت «الترجمة العلمية» الأولى للقرآن التي أنجزها فتحي مهديو تتمتع بقيمتها عبر السنوات اللاحقة. فقد أعيد إصدارها في سكوبيه عاصمة جمهورية مكدونيا من قبل دار النشر الأولى المتخصّصة بالأدبيات الشرقية (لوغوس) عام 1999، بينما صدرت في طبعة ثالثة في بريشتينا صيف 2015 من قبل المشيخة الإسلامية ذاتها. وفي غضون ذلك كان د. مهديو يصرّح باستمرار أن ترجمته الأولى ليست قرآناً، وكان يتقبل أية ملاحظة ويعاود النظر في كل طبعة قبل صدورها لكي تكون في أحسن حال.