الناس نوعان، نوع يحب الحديث مع الذين يوافقونه الرأي ويرتاح الى ذلك، ونوع يحب أن يسمع رأياً مختلفاً. الكلام السابق ليس لي، وإنما قاله دانيال بارنبويم، قائد الأوركسترا المشهور. ولا نحتاج ان نسأل أي نوع من الناس هو بارنبويم، فصداقته مع ادوارد سعيد وعملهما للتقريب بين الفلسطينيين والاسرائيليين من طريق الموسيقى، وكتابهما "توازيات وتناقضات" تؤكد إمكان التعايش. وكنت عدت اليهما في الأيام الأخيرة بعد أن اهتزت قناعاتي، أو ثوابتي، عن النفس البشرية مع ما يحدث في العراقوفلسطين. إدوارد سعيد صديق قديم وشهادتي فيه مجروحة، لذلك أكتفي بما قيل في الغرب بعد وفاة هذا الصديق الذي تجاورت وأسرته في شارع المقدسي، في رأس بيروت سنوات، والذي توفي في أيلول سبتمبر الماضي في نيويورك عن 67 عاماً، وحمل في جامعة كولومبيا لقب "بروفسور جامعة" أو "بروفسور جامعي" وهو لقب لم يحمله سوى 12 أستاذاً فقط في الجامعة، فهو أعلى لقب جامعي. قرأت في نعي ادوارد سعيد ان معرفته بالأدب، وحبه الآخر للموسيقى الكلاسيكية من مستوى يتجاوز التصنيف... نفوذه تجاوز الأكاديميا فكان "سوبر ستار" فكرياً في الولاياتالمتحدة والعالم كله... هو مؤلف ومحاضر وكاتب مقالة وناقد أوبرا وعازف بيانو ونجم سياسي وخبير ميديا، وهو أهم مدافع عن الفلسطينيين وحقوقهم الانسانية حول العالم. دانيال بارنبويم هو المدير الموسيقي للإوركسترا السمفونية في شيكاغو ولدويتش ستاسوبر في برلين، وهو اسرائيلي قدم الى اسرائيل مع أسرته من الارجنتين وعمره عشر سنوات، وكان تعرف الى إدوارد سعيد في لندن في أواسط التسعينات، وذهب الى الضفة الغربية، وأصبح يرى أن الاحتلال "خطأ عملي وأخلاقي، وتأثير مفسد في الأراضي المحتلة واسرائيل". وهو قاد أوركسترا في رام الله سنة 1999 و2002، وتلقى تهديدات بالقتل حتى ان "جيروزاليم بوست" كتبت عنه مقالاً بعنوان "مع أصدقاء مثل بارنبويم من يحتاج الى أعداء. وكان بارنبويم أثار عاصفة مماثلة عندما قدم موسيقى فاغنر في تل أبيب، فقد ثار عليه الناجون من المحرقة النازية وأقاربهم لأن فاغنر كان الموسيقي المفضل لهتلر، وله سمعة لا سامية مع أنه توفي قبل أن يولد هتلر. بارنبويم اسرائيلي، وكان ادوارد سعيد فلسطينياً من القدس حمل وطنه في عقله وقلبه، وتذكرت صداقتهما وتعاونهما وأنا أكاد أيأس من السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وعكس كتابهما "توازيات وتناقضات" الصادر سنة 2003 حوارات قاعة كارنغي التي تتناول السياسة والثقافة. وهما أسسا سنة 1999 أوركسترا الديوان الغربي الشرقي، بالفكرة نفسها، فمع الموسيقى تقوم حوارات انسانية بين أعضاء الأوركسترا في السياسة والثقافة العامة. ولعل من القراء من يذكر أن بارنبويم فاز الشهر الماضي بجائزة وولف، فأعلن وهو يتسلم الجائزة 50 ألف دولار داخل الكنيست انه سيتبرع بها الى الكونسرفاتوار الوطني الفلسطيني في رام الله. وكان خطابه وهو يتلقى الجائزة بحضور الرئيس الاسرائيلي موشيه كاتزاف والوزراء مثل الليكودية المتطرفة ليمور ليفنات إدانة صريحة للممارسات الاسرائيلية. وقال ان ظروف الاحتلال والسيطرة على شعب آخر تتناقض مع إعلان استقلال اسرائيل، وسأل كيف يتجاهل الشعب اليهودي الذي اضطهد عبر التاريخ حقوق شعب مجاور وآلامه وآماله؟ ثم أعلن عن إيمانه بعدم وجود حل عسكري للنزاع العربي - الاسرائيلي من زاوية اخلاقية أو استراتيجية. وعكس تبرع بارنبويم بقيمة الجائزة لنشاطات موسيقية في الأراضي الفلسطينية واسرائيل جهده مع ادوارد سعيد للتقريب بين الشعبين، وبين العرب واليهود من طريق الموسيقى. الديوان الغربي الشرقي يضم عازفين من فلسطين ولبنان ومصر وغيرها ومن اسرائيل. وقد أرسل بارنبويم بعض أفضل طلابه لتعليم أعضاء الديوان الموسيقى، واختيار القطع المناسبة لهم. واستضافت اسبانيا الأوركسترا، وتعهدت بأن تقدم عازفين للقطع التي لا يوجد عرب او اسرائيليون يتقنون العزف عليها. وقد قدمت أوركسترا الديوان أعمالها السنة الماضية في اسبانياولندن، حيث لقيت ترحيباً حاراً عبر ال"بي بي سي" التي غطت برنامج "برومز" من قاعة الأمير ألبرت. وكان المغرب أول بلد عربي يستضيف الموسيقيين الناشئين. أما برنامج هذه السنة فيشمل اشبيلية وبرشلونة ولندن قاعة باربيكان وجنيف وعمان. والأوركسترا في حاجة الى دعم حضوراً لحفلاتها، وبكل وسيلة أخرى. وأختتم كما بدأت، فإدوارد سعيد ودانيال بارنبويم شقا طريقاً نحو التفاهم بين الفلسطينيين والاسرائيليين من طريق الموسيقى، وهذه مهمة بذاتها، ومهمة أكثر بخدمة السلام.