في الإمكان رصد التحول اللافت الذي يطرأ على الموقف الفلسطيني إزاء قضايا استراتيجية طالما شكلت سداً منيعاً أمام مبادرات دولية ومشاريع تسووية لإنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. نجح الفلسطينيون والإسرائيليون منذ مغامرة أوسلو السلموية في اجتياز سلسلة من العراقيل الإجرائية والأمنية وتوقفوا أمام الجوهر المؤجل إلى مرحلة الحل النهائي. ناور الطرفان وأبدعا في استحضار الحلول بسبل مباشرة والتفافية، وأخفقا عند أول تماس مع مسائل الوجود والعدم. أخرج الفلسطينيون من جعبتهم انتفاضة لم تتوقف واستل الإسرائيليون سيفاً ينحرون به رقاب الشركاء في رحلة السلم المتوخاة. وما أفصح عنه الرئيس ياسر عرفات في مقابلته الأخيرة مع "هآرتس" الإسرائيلية قد يعبر عن انزلاق الموقف الرسمي في اتجاة خيارات بديلة تبتعد عن راديكالية الموقف المركزي من قضايا ثابتة تؤذن تصريحات عرفات بتحولها. إذ أعاد الرئيس الفلسطيني تأكيد حق شركائه - أعدائه في الوجود، وأعاد تاريخية تأكيداته إلى قرار للمجلس الوطني الفلسطيني في اجتماعه في الجزائر عام 1988 يقر بموجبه بحق إسرائيل في الوجود. على أن الموقف الفلسطيني آنذاك كان يهدف إلى تجاوز حلم الدولة العتيدة من النهر إلى البحر وجر الوجدان الفلسطيني إلى هضم فكرة دولتين على أرض واحدة، والإقرار الفلسطيني بحق إسرائيل في الوجود لا يعكس بالضرورة اعترافاً فلسطينياً بالطابع اليهودي للدولة الإسرائيلية. يحتاج عرفات إلى "تنازل" من هذا النوع على أمل أن يعود العالم بعرابه الأميركي إلى إعادة الاعتراف بالزعيم الفلسطيني شريكاً في أي مغامرة تسووية جديدة. ف"يهودية" الدولة العبرية مطلب إسرائيلي قديم/جديد لا يعتصر نجاعته إلا من اعتراف الفلسطينيين وحدهم. وضمن هذا التصور أصبح في الإمكان تمرير قناعة نظرية مفادها أن هوية إسرائيل وأمنها أوراق مفصلية ومصيرية يتحكم بحركتها الفعل الفلسطيني. تطور الموقف الفلسطيني من إنكار لوجود إسرائيل ونفي لديمومتها إلى اعتراف بها ولفظ لفكرة تدميرها. ويندفع الموقف الصادر عن رأس السلطة الفلسطينية أخيراً إلى أبعاد أخرى تضفي طابعاً شرعياً يهودياً يبرر لجوء إسرائيل نظرياً إلى استقدام يهود العالم إلى داخل حدودها. وفي هذا السياق يتساوى حق إسرائيل في استعادة "مواطنيها" بحق فلسطين في استقدام لاجئيها. بيد أن ما كشف عنه عرفات في الصحيفة الإسرائيلية قد يكسر هذه المعادلة لمصلحة الطرف الإسرائيلي. فالزعيم الفلسطيني يخطو نحو الواقعية السياسية بإيحائه استحالة العودة التامة لكافة اللاجئين. فالمسألة أضحت تنحصر في تجمعات فلسطينية لاجئة دون غيرها يأتي اللاجئون اللبنانيون في الدرجة الأولى معيداً موقفه النسبوي من عدم رغبة كافة الفلسطينيين في العودة إلى فلسطين، أي أن الأمر عائد إلى "إرادة" فلسطينية لا إلى "فيتو" إسرائيلي قاهر. لم يعد حق العودة مطلباً مقدساً في الخطاب الرسمي الفلسطيني. والأمر لا يبدأ من جُمل عرفات الأخيرة بل يأتي نهاية لسلسلة من المواقف في هذا الصدد لم يكن آخرها وثيقة جنيف، بل إن مجموعة من المواقف تدافعت في العقدين الأخيرين تؤذن بتراجع عن الطابع الراديكالي لمطلب العودة في اتجاه الحلول التي لا تنال من "الطابع اليهودي" لدولة إسرائيل. على أن الخطورة تكمن في تداعيات "يهودية" إسرائيل على عرب 1948 الذين ما انفكوا يطالبون بمساواة في المواطنة التي فرضت عليهم منذ قرار التقسيم أواسط القرن الماضي. وقد يأخذ العرب وراء حدود عام 1967 على المركز الفلسطيني تخليه عنهم وإنكاره لوحدة الهوية والمصير على طرفي الخط الأخضر. ومن نافلة القول أن اعتراف الفلسطينيين بلسان زعيمهم بالطابع اليهودي لدولة إسرائيل يطيح بدعوات عربية حالمة/طموحة لإقامة نظام سياسي داخل الدولة العبرية يقوم على تعدد الثقافات يتعايش داخله العرب واليهود وفق ناموس يقر مكاناً عضوياً وأتنولوجياً للجميع. والمراقب لحركة الرئيس الفلسطيني وحنكته السياسية يلتمس بعد عرفات عن اتخاذ موقف استراتيجي بهذا الوزن بخفة تصريحات صحافية. فالأمر بالنسبة إليه بالون اختبار يقيس على أساسه رد الفعل الإسرائيلي والدولي على أن ينسحب الاختبار بحجر واحد على الميدانين العربي والفلسطيني. فالرجل يتحرك على وقع استعداد حكومة شارون لانسحاب أحادي الجانب لقواتها من قطاع غزة، وعلى وتيرة تدخل مصيري ناشط ومباشر في تسوية ميدانية تحاك قواعدها، وعلى قاعدة تحسّن في علاقات رام الله بدمشق، وتحت خلفية حاجة الإدارة الأميركية إلى همَة سلام في فلسطين تخفف من براكين العنف في العراق. خطاب أبو عمار يمعن في واقعيته ويذهب إلى المغامرة في حلول لقضايا معقدة. فالتسوية التي يميل إليها تسعى إلى "استعادة ما بين 97 و98 في المئة من أراضي الضفة الغربية" ولا بأس لنيل هذا المراد من القبول بتبادل في الأراضي لضمان تواصل أراضي الدولة الفلسطينية العتيدة. وإذا ما يذكر الزعيم الفلسطيني في إخفاق الأبحاث الأثرية في العثور على بقايا الهيكل اليهودي الثاني المعروف ب"هيكل سليمان"، إلا أنه مستعد للاعتراف "بسيطرة إسرائيل على حائط المبكى حائط البراق وعلى الحي اليهودي في القدسالشرقية" على أن تبقى السيادة فلسطينية على هذا القطاع من المدينة. من مقره المحاصر في مدينة رام الله يعد عرفات بضمان الأمن في غزة بعد الانسحاب المنتظر للقوات الإسرائيلية. ليونة الرجل يردفها بلهجة حاسمة تعد بصدّ الفصائل الفلسطينية بما فيها فتح التي قد تعارض أو تتعرض للأمن الفلسطيني المركزي. وربما في ذلك تذكير لإسرائيل بأن أمن الدولة العبرية ما زال ورقة فلسطينية كما "يهودية" طابعها. * كاتب لبناني.