أثارت تصريحات رئيس الحكومة البريطانية توني بلير عن ضرورة قيام دولة فلسطينية، ونيات جورج بوش في تأييدها، التي وأدها اللوبي الصهيوني في مهدها، آمال بعض الفلسطينيين في دعم حقوقهم المشروعة، ورأى البعض في سعي اميركا وبريطانيا المحموم لتجميع الحلفاء في "الحرب ضد الارهاب" فرصة سانحة لكي تتخلى هاتان الدولتان عن تعطيلهما تنفيذ الحقوق الفلسطينية المشروعة التي أيدها المجتمع الدولي لمدة تزيد عن نصف قرن، وتعلق هؤلاء بحبال الآمال الواهية، متجاهلين تاريخ الغرب ووعوده المتكررة منذ مطلع القرن العشرين التي لم يتحقق منها إلا ما كان لصالح اسرائيل وضد العرب. وظهرت الى السطح دعوات الى قبول العروض المطروحة، وأقلها شراً عرض بيل كلينتون في نسخته الاسرائيلية، التي تنادي بقيام دولة فلسطينية اسماً، ناقصة السيادة ومنزوعة السلاح ومقطعة الأوصال، لها صلة ما بالقدس الشريف، شرط أن يتخلى هذا الكيان المخلوق عن لب المشكلة وجوهر الصراع وهو حق عودة اللاجئين الى ديارهم. ولعله ليس من قبيل المصادفة أن طلع علينا رئيس جامعة القدس سري نسيبة، الذي عين أخيراً في أحد مناصب فيصل الحسيني في القدس، بعرض قدمه لجمهور اسرائيلي حاشد في الجامعة العبرية قال فيه ما خلاصته: انه لن يعم السلام في الشرق الأوسط ولن تقوم دولة فلسطينية إلا إذا تخلى، نعم تخلى، الفلسطينيون عن مطلبهم وليس حقهم في العودة الى ديارهم، وان الانتفاضة ما هي إلا تشنج عصبي ملطخ بالدم وليست ثورة شعبية، وان عودة اللاجئين ستهدد الطابع اليهودي لدولة اسرائيل. وبالطبع هلل الاسرائيليون لهذا البيان، ونشرته "نيويورك تايمز" عدد 17 تشرين الأول/ اكتوبر، وال"اسوشييتدبرس" بعدها بأيام 23 تشرين الأول. ورحب دان ميردور الوزير الاسرائيلي في حكومة شارون بهذا "الفتح العظيم" الذي أزال آخر العقبات في طريق السلام الدائم. وزار وفد من ميرتز مكتب الدكتور نسيبة 7 تشرين الثاني/ نوفمبر مهنئين بولادة سياسي فلسطيني معتدل لا يؤمن بالانتفاضة ولا بحق العودة. كتب كثيرون من الاسرائيليين والأجانب داعين الى التخلي عن حق العودة فعلاً، وان لم يكن اسماً، في عملية خداع مفضوحة. وتنطوي عملية التمويه والخداع على اعلان اسرائيل عن "أسفها" لجريمة النكبة ومعاناة اللاجئين، من دون الاعتراف بمسؤوليتها عنها، والسماح لعدد رمزي من كبار السن أن يعودوا الى قراهم ليدفنوا هناك. لكن لم يحدث أن دعا فلسطيني، وبالذات مثقف ودارس ومسؤول في السلطة الفلسطينية، الى التخلي عن حق العودة بهذه الصراحة والجرأة. ونترك للسلطة أن تعلن رأيها في هذه الدعوة، وتتبرأ منها، استجابة لطلبات عشرات الجمعيات المدافعة عن حق العودة الى السلطة فصل نسيبة من منصبه. لكن يهمنا هنا أن نناقش الدعوة التي تقدم بها نسيبة وخلاصتها القول بأن قيام دولة فلسطينية يعني، لدى غالبية الناس، عودة اللاجئين الى هذه الدولة وأن هذا تحقيق للقرار 194، وأن اسرائيل كانت مستعدة دائماً منذ انشائها حتى اليوم لاستقبال عدد ضئيل من العائدين، والغالبية الباقية تعوّض وتوطن في أماكن أخرى، بما في ذلك دولة فلسطين العتيدة. ويرى نسيبة ان الحل هو في دولتين: يهودية، وقد قامت، وفلسطينية، ويجب أن تقوم، بحيث يعيش اليهود في دولتهم اليهودية، والفلسطينيون في دولتهم الفلسطينية، ولا يجوز للفلسطينيين أن يتوقعوا أن يكون لهم الحق في العيش في دولتهم المقبلة بالاضافة الى دولة اليهود أيضاً، حيث توجد ديارهم وأراضيهم التي طردوا منها عام 1948. وفي هذا الكلام الكثير من الخطأ الواقعي والقانوني والأخلاقي. أما الحكم على هذه التصريحات من ناحية الولاء الوطني، فأمر هذا متروك للناس. أولاً، ان الداعين الى عودة عدد رمزي يخدعون الناس. لقد طرح يوسي كاتس عودة 100000 لاجئ، وشلومو بن عامي 150000 وبعضهم عظيم السخاء، اذ يطرح عدد 200000 على مدى عشرين سنة أي 142000 بواقع اليوم. وبالحساب نكتشف أن هذه الأرقام تعني 20000 لاجئ عام 1948، أو حوالى نصف في المئة من لاجئي النكبة. هل يعقل أن يقبل أحد بهذا؟ إذا كان هاري ترومان المعروف بانحيازه لاسرائيل، أصر على موشى شرتوك أن يسمح بعودة 300000 لاجئ عددهم اليوم مليونان، وهؤلاء هم سكان المناطق التي احتلتها اسرائيل زيادة عن التقسيم، فكيف يفكر أحد، بعد خمسين سنة من الحروب والمعاناة، بقبول عودة أقل من 1 في المئة فقط من اللاجئين؟ وكيف يمكن اختيار هذه الفئة المحظوظة؟ هل تذهب هذه القلة للدفن في مقابر القرية؟ وثانياً، هناك خلط بين قيام الدولة الفلسطينية وحق العودة للاجئين. قيام الدولة مسألة سياسية تؤدي الى بسط سيادة الدولة على رقعة من الأرض وعلى المواطنين الذين يعيشون عليها. أما حق العودة فهو حق غير قابل للتصرف ولا يخضع للزوال أو المفاوضة. وقيام الدولة لا ينفي حق العودة ولا علاقة له به. وللاجئ الحق في العودة الى بيته وأرضه وممتلكاته التي طرد منها بغض النظر عن الدولة ذات السيادة في هذا المكان. وقد أوضح قرار 194 في مذكرته التفسيرية ان العودة تكون الى موطن اللاجئ الأصلي نفسه، وليس الى مخيم آخر. أما في ما يتعلق بقرار التقسيم 181، فإنه كان مجرد توصية بتقسيم فلسطين الى منطقتين: الأولى تقام فيها دولة ذات سيادة يسيطر عليها اليهود، والأخرى عربية. وتكون هذه التوصية ملزمة إذا وافق عليها الطرفان المعنيان. وعلى سبيل المثال لم تتفق الأطراف في البوسنة على التقسيم الا بعدما طرحت خريطة التقسيم خمس مرات تراضى الأطراف بعدها. وما قرار 242 أو مشروع باراك أو خطة شارون الا محاولات جديدة لإعادة تقسيم فلسطين. وهذا كله لا علاقة له بحق العودة ولا ينفيه بأي شكل. ولا يوجد في القانون الدولي معنى لدولة "يهودية"، كما أن وزارة الخارجية الأميركية لا تعترف بالمعنى السياسي للشعب اليهودي حسب رسالتها الى ممثلي اليهود عام 1964. وقيام دولة اسرائيل لا يعني قيام دولة لليهود فقط ولا يعني طرد اللاجئين من ديارهم، ولا يعني منع عودتهم اليها بعد الحرب. فقد جاء في الفصلين الثاني والثالث للقرار 181 تفصيل كامل لحماية الحقوق السياسية والدينية والثقافية وغيرها للفلسطينيين في "اسرائيل" المقترحة واليهود في فلسطين. ولذلك فإن طرد اللاجئين ومنع عودتهم مخالف للقرار 181 نفسه بالاضافة الى القرار 194. لذلك فإن وجود اسرائيل كدولة إثنية لليهود فقط، وليس لكل مواطنيها بمن فيهم الفلسطينيون المقيمون والعائدون من اللاجئين، مخالف للقانون الدولي ومخالف لقرار التقسيم نفسه. وهذا ما أكدته لجنة الأممالمتحدة للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية عام 1998، اذ جاء في تقريرها ان القوانين الاسرائيلية التي تسمح باستجلاب اليهود فقط وتمنحهم الجنسية فوراً، وتحرم الفلسطينيين من ذلك، وان مصادرة الأراضي وتسجيل ملكيتها باسم الوكالة اليهودية في الخارج، وتطبيق القوانين بشكل يفرق بين المواطنين الاسرائيليين حسب ديانتهم، وحرمان 200000 لاجئ في اسرائيل "الحاضرين الغائبين" من العودة الى ديارهم، كلها ممارسات تخالف ميثاق الأممالمتحدة للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وصدرت مثل هذه القرارات أيضاً من لجنة الأممالمتحدة لإزالة آثار التمييز العنصري. وللمرة الأولى تخرج علينا هذه السنة مؤسسة العفو الدولية أمنستي ومراقبة حقوق الانسان هيومان رايتس ووتش بهذه القرارات نفسها. فإذا كان المجتمع الدولي الرسمي والشعبي يشجب هذه الممارسات، والشعب الفلسطيني هو ضحيتها الأولى عبر 50 عاماً، فلماذا يتبرع نسيبة بالوقوف الى جانب اسرائيل لحماية مبادئها الصهيونية؟ ولماذا يتبرع بالدفاع عن "الطابع اليهودي" لاسرائيل؟ ونسأل: هل مهمة الفلسطينيين حماية هذا الطابع على حساب حقوقهم، في الوقت الذي شجب فيه المجتمع الدولي ولجانه المتخصصة هذا الطابع لأنه عنصري منبوذ من العالم، وهو الوحيد الباقي من نوعه في العالم، بعد زوال الابرتهايد في جنوب افريقيا؟ ولماذا لا يقتدي نسيبة بالصهيوني الاسرائيلي داني رابينوفتس الذي قال: "ان الخطر الحقيقي على اسرائيل يكمن في التزامها العنيد بمبدأ تعريف الدولة اليهودية على أساس إثني قومي، ما يؤدي الى الاضطهاد العرقي الذي هو الجانب المظلم من الديموقراطية" "هآرتس" 22/10/2001. وإذا كان نسيبة قلقاً على الطابع اليهودي لاسرائيل، فإننا نسأل ما هو هذا الطابع؟ ان كان قانونياً، فقد قال المجتمع الدولي كلمته في القوانين الاسرائيلية العنصرية. ولا شك أن اسرائيل ستبقى منبوذة الى أن تتخلى عنها. وان كان الطابع ديموغرافياً، بمعنى ان يبقى اليهود اكثرية، فهذا وهم وسراب. سيأتي يوم تنضب فيه الهجرة، ولن يعيش في اسرائيل في المستقبل اكثر من نصف اليهود البالغ عددهم الآن 13 مليوناً في العالم باعتراف دراساتهم التخطيطية نفسها. وليس بالامكان استجلاب اكثر من 800.000 - 1.600.000 يهودي خلال عشرين او ثلاثين سنة قادمة. لكن عدد الفلسطينيين في اسرائيل سيتجاوز عدد اليهود خلال 50 - 70 سنة، ما لم تقم اسرائيل بإبادتهم فعلاً او جغرافياً، وهو الأمر الذي يدرسه دوماً مخططو اسرائيل. واليوم قارب عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية عدد اليهود. وعلى رغم الاحتلال والقهر والقيود، فانهم مختلطون معاً. اذن فخرافة التفوق العددي لليهود ما هي الا وسيلة فاشلة لكسب الوقت، وانتزاع اعتراف من الفلسطينيين بإسقاط حقوقهم. وان كان الطابع اليهودي اجتماعياً، فهو خرافة ايضاً. اذ لا يوجد طابع مشترك لمهاجرين من 102 بلداً، يتكلمون 82 لغة. ولا نعتقد ان عودة اللاجئين الى ديارهم ستفتّت هذا الكيان اكثر مما هو مفتّت اصلاً. والادعاء الاسرائيلي بأن البلاد ملآنة ولا يوجد فيها متسع لعودة اللاجئين ما هو سوى ادعاء باطل، وغير ذي قيمة قانونية، اذ لا تسقط الحقوق بسبب الادعاء بصعوبة تطبيقها. وقد اثبتت الدراسات المفصلة ان 78 في المئة من اليهود يعيشون في 14 في المئة من اسرائيل وانه بالإمكان عودة جميع اللاجئين الى قراهم التي لا تزال في مواقعها خالية عدا 3 في المئة حول تل ابيب والقدس. ولا ندري لماذا لا يدرس الباحثون هذه المسائل قبل ان يتبرعوا بتبني المقولات الاسرائيلية. اما رأي اللاجئين في كل هذا فهو واضح. فقد جاء في استطلاع اسرائيلي ان 98 في المئة من اللاجئين، خصوصاً الشباب، يصرون على حق العودة، ولا يقبلون التعويض بديلاً، ولا يقبلون دولة فلسطينية مقابل اسقاط حق العودة. ولو شك احد في ذلك فما عليه الا القاء خطاب مثل خطاب نسيبة في اي مخيم للاجئين. اما السلطة الفلسطينية فلا تزال متمسكة بحق العودة، كما جاء في ورقة العمل في محادثات طابا في كانون الثاني يناير 2001 التي نشرتها "لوموند" الفرنسية. اما دعاة الواقعية الذين يريدون لنا ان نركع ونقبل بالفتات المعروض، فنقول ان للواقعية وجهاً آخر يجب الا ينسوه. هناك خمسة ملايين لاجئ، هم ثلثا الشعب الفلسطيني، تعرضوا لويلات الحروب والمعاناة طوال خمسين عاماً، ولم تتم ابادتهم على رغم المحاولات، ولا يزالون يطالبون بحقوقهم باصرار. ثم ان النكبة كانت وما زالت المحرك الرئيسي لجميع احداث المنطقة، وستبقى كذلك الى ان يطبق الحل العادل، وقد يمتد تأثير النكبة وفلسطين على الاحداث الى سائر انحاء العالم العربي والاسلامي. ولا يستطيع سياسي عاقل ان يتجاهل هذا. ثم ان راية حق العودة يحملها الآن شباب اكثر علماً وخبرة واكثر عناداً من آبائهم، بعدما اندثرت خرافة موت القضية بموت الكهول الذين يذكرون فلسطين. ثم ان عدد الفلسطينيين في مختلف مناطق فلسطين سواء احتلت في عام 1948 او عام 1967 يبلغ الآن 4.5 مليون وهو يقارب عدد اليهود، واختلاط المجتمعين الفلسطيني واليهودي اصبح وثيقاً وان كان عدائياً. ونتيجة لذلك اصبحت اسلحة الدمار الشامل الاسرائيلية واسلحتها التقليدية اقل فعالية من قبل، وتحول الصراع بين الجيوش تدريجاً الى صراع بين الافراد، على رغم ان طائرات الاباتشي وغيرها لا تزال تفتك بالناس من دون هوادة. ثم ان وسائل الاتصال الالكترونية وجمعيات الدفاع عن حقوق الانسان زادت في تنوير العالم الخارجي باستثناء الولاياتالمتحدة بما يجري في فلسطين. ولدينا مثال جدير بالاهتمام في مؤتمر ديربان في ايلول سبتمبر الماضي. صحيح ان كل هذه العوامل لن تقدم حق العودة على طبق من فضة، ولن تدفع اميركا الى استعمال قوتها العسكرية مثلما قررت تسخير القانون الدولي لخدمة مصالحها في البوسنة وكوسوفو وتيمور الشرقية وغيرها، ولكنها خطوة في الاتجاه الصحيح نحو الامام، وليست خطوة تخاذل الى الخلف. ولكن اذا كانت تصريحات نسيبة ذات مغزى، او كانت لها علاقة بمبادرة كلينتون الفاشلة، او مبادرة بوش الموؤودة وقد رفض مقابلة عرفات وحتى مصافحته فان مصيرها واضح. ومن الافضل عدم تعريض الشعب الفلسطيني الى بلبلات وتساؤلات في الوقت الذي تُدكّ بيوته، وتُحاصر قراه، ويتساقط شهداؤه كل يوم. ونترك مسألة حماية مكاسب الصهيونية واسرائيل الى الاسرائيليين انفسهم، فقد نجحوا حتى الآن في حماية العنصرية، لكن غداً يوم آخر. * باحث فلسطيني، ومؤسس "هيئة أرض فلسطين".