قد لا يعني اختيار محمود درويش عنوان "الأعمال الجديدة" للدواوين الخمسة الاخيرة التي أصدرها تباعاً، ان أعماله السابقة أضحت "قديمة". فالتحوّل الذي طرأ على شعره في مرحلة الثمانينات وخصوصاً مع ديوان "هي أغنية، هي أغنية" وما بعده، حمل الكثير من الجديد شعرياً ولغوياً. ولا يمكن وصف هذا التحوّل إلا انطلاقاً من دواوين سابقة مثل "ورد أقل" و"أحد عشر كوكباً" وسواهما. قد تكون المرحلة الأولى مرحلة "قديمة" نظراً الى العلاقة الشعرية المباشرة بالقضية الفلسطينية التي كان محمود درويش واحداً من أبرز شعرائها. حينذاك كانت القصيدة تتباهى بالتزامها السياسي مخاطبة "الجمهور" ومحرّضة إياه على النضال. وترافقت هذه القصيدة مع نشوء الكفاح المسلّح وأضحت المعادل الشعري له، تمتدح البطولة والحماسة وتدعو الى الشهادة فداء للأرض المسلوبة. وإطلاق صفة "القديمة" الآن على دواوين درويش الأولى أوراق الزيتون، عاشق من فلسطين، آخر الليل... يعني أكثر ما يعني انها دخلت "تاريخ" المقاومة من باب القصيدة وذاكرة "الجماعة" شعرياً، علاوة على أنها تمثل "بدايات" محمود درويش حين كانت "شعريته" طريّة العود، فطريّة وتلقائية. حينذاك كان الموقف الشعري ردّ فعل على الموقف الوطني وعلى المآسي المتعددة. وكانت القضية تسبق الشعر وتصنعه وكان الشعر دوماً وراءها، يتأثر بها أكثر مما يوثر فيها. حينذاك أيضاً لم تكن "أدوات" محمود درويش قد نضجت ما يكفي ولا لغته ولا ثقافته الشعرية. هكذا تبدو "الأعمال الجديدة" حديثة لا في المفهوم الزمني فحسب وإنما شعرياً أيضاً. إنها أعمال جديدة في المعنى "الحداثوي" كذلك، كونها لا تتوانى عن ترسيخ "حداثة" محمود درويش التي لا تشبه أي حداثة أخرى، لا حداثة بدر شاكر السياب ولا أدونيس ولا أنسي الحاج ولا سعدي يوسف... على ان محمود درويش ما زال يصرّ على كتابة قصيدة التفعيلة ولكن محرّراً إياها من إرثها الثقيل ورتابتها المضنية، بل مازجاً بينها وبين "فضاء" قصيدة النثر من غير ان ينحاز الى الاخيرة إنحيازاً شكلياً أو تقنياً. ولعلّ الخصال التي تتميّز بها قصيدة درويش الجديدة هي ايقاعية في ناحية منها. فالايقاع لديه تخطى النظام التفعيلي المغلق مازجاً بين الايقاع الداخلي الذي يصنعه تجانس المفردات والحروف والتقفية الداخلية، والايقاع الخارجي الذي تصنعه التفاعيل والقوافي. إلا ان البنية الايقاعية لدى درويش تعرف حالاً من الرحابة نادراً ما عرفها الشعر التفعيلي الجديد. إنها رحابة اللغة "الدرويشية" التي تكسر العلاقة ما بين المعنى والشكل وما بين الايقاع ورموزه لتصبح لغة مشرّعة على "الشعري" في ظواهره المتعددة، مشهدياً وروحياً، تجسيماً وتجريداً، واقعياً وميتافيزيقيا، ذاتياً وجماعياً، جمالياً وفكرياً... راح محمود درويش منذ الثمانينات يتحرّر من "الإرث" الوطني والقومي الذي ألقي على عاتقه في صفته شاعر فلسطين أو شاعر القضية - كما أطلق عليه، لكنّه كلما كان يتحرّر من ذلك الإرث كان يبدو أكثر قرباً منه. فالقضية التي كانت مأساة الجماعة أصبحت أيضاً مأساة الفرد، والمأساة التاريخية أضحت كذلك مأساة ذاتية. ولم يبق من القضية سوى الجوهر الحارق كالجمر. أما شاعر فلسطين فأصبح شاعر الوجود الذي لم يتخلّ عن مأساته الشخصية، وشاعر الأرض والقضية أصبح شاعر الانسان في يأسه ورجائه، في انتمائه ولا انتمائه، وأصبح أيضاً الشاعرالحالم والرائي، المألوم والمجروح، والباحث أبداً في عتمة اللغة عن ضوء ساطع، وفي سديم اللاوعي عن منفذ يطل على شمس الحياة. يصعب الآن فعلاً تسمية محمود درويش "شاعر فلسطين" أو شاعر القضية أو الأرض وسواها مما أطلق عليه من كنايات وصفات. أصبح الشعر أبعد من القضية التي انطلق منها وحملها في روحه، أصبح في مقدّم القضية بعدما كان وراءها. ولم يعد يحتاج الى ان يحتمي بها ليقدّم نفسه، لكنه لم يتخلّ عنها حتى في أشد القصائد نأياً وتغرّباً واغتراباً، فهي أضحت بمثابة الجوهر الكامن في عمق التجربة الشعرية والانسانية على السواء. قد يكون محمود درويش شاعر الأرض ولكن في المعنى الوجودي والميتافيزيقي وليس الجغرافي أو الوطني فحسب. والأرض تشهد في شعره ولادات عدة مثلما تشهد ميتات عدة، إنها أرض الغربة كما هي أرض العودة، أرض الحياة كما هي أرض الموت. إنها الأرض التي تلدها اللغة أولاً وأخيراً، حقيقية ومتخيّلة في آن واحد. قراءة محمود درويش في "الأعمال الجديدة" تفترض عودة الى الأعمال السابقة التي برزت في مرحلة الثمانينات. هناك ولا شك خيط متين يربط بين هذه الاعمال جميعاً في ما عرفت من تحوّلات جذرية. فالشاعر الذي خرج عن حماسة البدايات استطاع ان يجعل من اللحظة التاريخية لحظة شعرية بامتياز. وتمكّن كذلك من إخضاع الظرف السياسي للبعد الجمالي. إنه في معنى ما انتصر للشعر حين كان الانتصار هو للتاريخ، وانتصر للقصيدة عندما كان الظرف السياسي هو المنتصر. ومضى درويش في تجربته غير آبه لما تركت قصائده الأولى من أثر في الذاكرة الفلسطينية والنضال الفلسطيني. كان عليه ان يختار، إما ان يكون شاعراً جماهيرياً أو ان يكون شاعراً حقيقياً. واختار محمود درويش الشعر من دون ان يتخلّى عن ماضيه أو ينكر هذا الماضي كما فعل شعراء كثيرون. وعندما اندلعت "حرب الحجارة" كان محمود درويش الأقل حماسة وانفعالاً كشاعر، فلم يُكتب إلا ما يجب ان يكتب، بهدوء وتروٍ وجمالية، فيما تراكمت قصائد الحجارة محرّضة الأطفال من بعيد، على الموت استشهاداً في مواجهة الآلة الاسرائىلية القاتلة. لكنّ القصائد المنفعلة والحماسية سرعان ما ماتت مثلما ماتت القصائد السياسية الكثيرة التي رافقت الهزائم العربية المتوالية مرافقة انفعالية وسطحية. لم يعد قرّاء محمود درويش الحقيقيون يبحثون في اعماله الجديدة عن حضور فلسطين فقط أو عن تجليات قضيتها. فالقضية أصلاً باتت مدعاة للقنوط وربما لليأس بعدما أضحت على مفترق المتناقضات. أصبحت القضية في شعر محمود درويش قضية في المطلق، تعني الفلسطيني مثلما تعني كل قراء الشاعر عرباً وأجانب. ولا غرابة ان يلقى شعره المترجم الى الفرنسية والانكليزية والألمانية وسواها الترحاب الكبير كشعر يخاطب الانسان والجماعة أياً كانا وحيثما كانا. وعندما شرع محمود درويش في ترسيخ "حداثته" الشخصية بدا كأنه يبني هذه "الحداثة" على صخرة الثقافة الشعرية الشاملة. وقد لا يجد القارئ أصداء داخلية للشعر العالمي، لدى أي شاعر عربي مثلما يجدها لدى محمود درويش. لكن الشاعر عرف كيف يجعل الاصداء تضمحل في صنيعه البهيّ وكأنها ترجيع لذاكرته الشخصية. ولعلّ هذه الخلفية الثقافية المتقاطعة مع "ملكة" محمود درويش الشعرية هي التي جذرت حداثته في قلب الشعرية الحديثة. و"حداثة" درويش هي أبعد من ان تحدّ في مظاهر أو معايير معيّنة، جاهزة أو غير جاهزة. إنها الحداثة الحرّة والمتفلتة من أي قيود أو شروط. حداثة لا حدود لها لأنها حداثة شاعر طالع من رحم التجربة، حيث تنصهر الفطرة الطبيعية في الشعرية المكتسبة وحيث تذوب أنا الشاعر في بوتقة الألم الشخصي والمأساة الجماعية. لعلّ القضية التي أعطت محمود درويش الكثير، أخذت منه الكثير أيضاً، ألا يحق له ان يكون شاعراً خارج القضية؟ ألا يحق لقرائه ان يقرأوه كذلك بعيداً من سطوة القضية؟ هذا ما جعل الشاعر نفسه يصاب بالحيرة والتململ، لكنه لم يلبث ان خرج من أسر القضية ليكون في الحين عينه شاعرها ولكن من بعيد. والبعد هنا اقتراب أكثر مما هو ابتعاد لأنه حفر في عمق القضية الذي هو عمق مأساة الوجود. كم تحتاج أعمال محمود درويش الجديدة الى قراءة شاملة وعميقة تستكشف خصائصها وميزاتها، اللغوية والايقاعية والجمالية. فالكثير من هذه القصائد عصيّ على التصنيف "النوعي" أو "المدرسي". إنها قصائد جميلة وأكثر من جميلة. قصائد الحياة وما هو أبعد من الحياة، قصائد الموت وما وراءه، قصائد الحلم واللاوعي، قصائد الواقع وما فوقه، قصائد توفّق بين اتجاهات شتى لتصنع شعريتها الفريدة، الحيّة والنابضة... ثم ماذا عن لغة محمود درويش الهادرة كالنهر؟ ماذا عن صوره الشعرية التي تتجاوز المفهوم البياني الجاهز؟ ماذا عن ايقاعاته التي لا تميّز بين وقع الحروف والمفردات والجمل ووقع التفاعيل والقوافي؟ لعلّ "الأعمال الجديدة" التي صدرت مجموعة عن دار رياض الريّس، تحمل الكثير من الأجوبة عمّا يمكن ان يطرح القارئ من أسئلة، شائكة في أحيان. وما أجمل ان تلتقي الدواوين الجديدة في مجلّد واحد يتيح للقارئ ان يقرأها قراءة متواصلة، فينحاز لديوان دون آخر. وعندما ينتهي القارئ يشعر انه غاص فعلاً في بحر من الشعر الصافي، الشعر الذي لا تخوم له ولا سياج.