"شَفَك"، ابنة السابعة والعشرين، تعشق اسطنبول. فحين تستقبل زائراً أجنبياً مثلي، تروح تحدّثه عن مدينتها بمبالغة في التعبير وقدر من المعاناة بادٍ. فهي، ظانّةً أن الكلمات لا تفي اسطنبول حقها، تترك لملامح وجهها أن تجاهد في إيصال رسالة تحسب أنها لن تصل كاملة أبداً. وأكثر ما تحبه "شفك" في مدينتها أنها حاضرة الأديان والثقافات الكثيرة. تقول، مثلاً، إنها حين تغمض عينيها وتختصرها في صورة واحدة، تراها إطاراً يجتمع فيه مسجد السلطان أحمد وكنيسة آيا صوفيا المتقابلان المتجاوران. فهما، عندها، "يتبادلان في الليل كلام العشّاق". لكن مهمة "شفك" صعبة. فكيف يمكن ذاك العشق أن يدوم في مدينة ابتُذل وصفها جسراً بين قارتين، ومن فوق الجسور يعبر العداء مثلما تعبر المودّة؟ على أن إغراء اسطنبول وأمْثَلَتها لا يُقاوَمان. ولأنهما كذلك، يُرى تاريخ المدينة متواصلاً، متكاملاً، تتعانق حقبه الثلاث الكبرى، البيزنطية والعثمانية والجمهورية، فيما يزدهي كله بذاك الإرث الذي يعصى المخيّلة من أمكنة بالحمولة الرمزية خصبة. فمتحف القصور والجنائن والمآذن والبازار يطوي في تضاعيفه كنائس للمسيحيين ومعابد لليهود وأحياء للأوروبيين من كل صنف وسواهم. وهل بسيطٌ، في آخر الأمر، أن تغدو عاصمةُ بيزنطة، قسطنطينيتُها، هي نفسها عاصمة الخلافة؟ أو أن تقنع اسطنبول بنزع عاصميّتها عنها في غرّة العهد الجمهوري، وبإسباغها على بلدة أناضولية تُدعى أنقرة، يقال إنها حضنت انبثاق الروح التركية "غير الملوّثة"؟ ليست مدينة - ثغراً ووقعتُ في لعبة "شفك" الكوزموبوليتية، فقلت لها إنني لو أردت أن أوجز اسطنبول اخترتُ البحر ممخوراً بالسفن. فهل قليلٌ أن يحتار المرء، في مدينةٍ ما، على كتف أيٍ من البحور يجلس، وهو السؤال الذي شاغَلَنا، أنا وصديق تناولنا العشاء معاً في فندق "سويس آير"، على تقاطع مرمرة والبوسفور؟ فعلى عكس ما قد توحيه هذه الحقبة أو تلك من تاريخها، وما خلّفته الحقب على شواطئها من قلاع وحصون تداعى معظمها، ليست اسطنبول مدينةً - ثغراً يأتيها العدو من البحر فتتأهّب لصدّه. ذاك أن البحر ليس طريق الخارج اليها كما الحال، مثلاً، مع "البلد الواطىء" هولندا. فهذا الأخير لم تمنعه المائية التي ترطّب ذرّات ذرّاته، من بناء الخنادق في وجه الغزاة البحريين. وإنما البحر بعض داخل اسطنبول كذلك: فشمالها، كما هو معروف، البحر الأسود وجنوبها الغربي بحر إيجه المتصل بالمتوسط. لكنْ قبل الوصول الى إيجة، تراها تلتف وتنطوي على بحر مرمرة الصغير الذي يبدو بمثابة بحيرة داخل تركيا، يصعد من شماله البوسفور فيقسم التلال السبع التي تروي الأسطورة إن اسطنبول بُنيت عليها في القرن السابع قبل الميلاد. والبوسفور يفعل ما يفعله كما لو أنه يعتدي على وحدة المدينة، أو يُخضعها لانقسام القارتين. بذا يكون كمن يتواطأ مع الجغرافيا ضد التاريخ، متصرفاً تصرف انقلاب أخرق لا يأتمر الا بالأطوار الجيولوجية. وعلى النحو هذا، يروح يحرّض يمين المدينة الآسيوي على يسارها الأوروبي الأحدث، كما يفعل العكس. بيد أنه إذ يمضي صعوداً، ينتابه التعب من ثورته فيندمج، هادئاً طائعاً، في البحر الأسود، فيكون كمن يعلن عجز الجغرافيا عن تقرير التاريخ. غير أنه، قبل ذلك، ينشق هو نفسه عن مصدره فيتشكّل من انشقاقه "القرن الذهبي"، ثم يمتد لساناً مائياً بطول عشرة كيلومترات، يناط به اختراق الشطر الأوروبي من الحاضرة. وهذه الاضطرابات، ما كان منها في الطبيعة وما كان في التاريخ، تُحيلها اللعبة الكوزموبوليتية تصالحاً وانسجاماً. ذاك أن القرن الذهبي لا يمكن إلا أن يستحضر جسر غالاتا الذي يعبره، والذي من فوقه مرّ من الأقدام ما حمل سائحاً يابانياً في القرن التاسع عشر على وصفه ب"جسر العشرة آلاف أمة"؟ والجسور لا تُرى، والحال هذه، الا وصلاً واستكمالاً. فجسر البوسفور، مثلاً، هو الذي افتُتح في 1973 بعدما ظهرت فكرته الأولى في العهد الحميدي، كان شهادة متأخرة نسبياً لصالح اللعبة الكوزموبوليتية. فقبل أن تمر 24 ساعة على تدشينه وعلى إمكان الانتقال مشياً على الأقدام من أوروبا الى آسيا، والعكس، عبره 28 ألف شخص و126 شاحنة محملة بضائع. والماضي لا يبخل بالأسباب ولا بالأمثلة. يكفي القول إن اسطنبول القرن التاسع عشر كانت، بين ما كانته، "المدينة البلغارية الأكبر" لأن البلغار المقيمين فيها فاقوا البلغار في أي مكان من بلادهم. وحين قصدتُ مقهى "ماركيز"، وهو على غرار مقاهي فيينا الهابسبورغية، عرفت أن جدرانه تخبّىء قصة شيّقة. فصاحبه، ذاك الروسي الأبيض الذي فر من ثورة أكتوبر الى عاصمة الخلافة، شاء أن يقيم مقهاه هناك، مختاراً له من الأسماء ما تحبه الأريستوقراطية العثمانية المتفرنسة قدر ما تكرهه القيادة الشيوعية في بلده. ولا يخلو ألبوم اسطنبول من حادثات أقدم هي أقرب الى الغريب العجيب الذي تجود به المدن شبه الخرافية شبه الواقعية. فقد حمل العداء للروس الجامع بين الأتراك والبولنديين، ثوارَ بولندا ممن هُزمت انتفاضتهم عام 1831، على اللجوء الى بلدان ومدن عدة في عدادها اسطنبول. وكان من هؤلاء الثوري قسطنطين بوزيتشي الذي تحول الى الاسلام وتسمّى مصطفى جلال الدين باشا. وما لبث الباشا المذكور أن برز واحداً من أوائل المبشّرين الأتراك بالاصلاح السياسي والوطنية التركية. هوس بالمياه الشاملة وكان لهؤلاء الأجانب العابرين، معطوفاً عليهم الحضور السلطاني المهيب والمتمكّن، أن وضعوا الإجادة على مقربة من الترف. هكذا طوّرت تلك المدينة أشياء كثيرة بينها "المطبخ العثماني" الذي لا يساوي "المطبخ التركي" ولا يساويه. فهو مشهور بمواده الدسمة، ولكنْ أيضاً بكثافة المَرَق وتعقيداتها، وبكثرة استخدام اللوز والجوز والمكسّرات في أطباقه. وقد شمل "طعامُ القصور" هذا طبخَ الفاكهة مع اللحم وحشو ورق العنب بالإجاص المفروم، بما يردّ الى المطبخ الإيراني حيناً وأحياناً الى الصيني في جمعهما المرارة بالحلاوة. وإذ شاعت في اسطنبول مآكل أرمنية خاصة، ك"مَزّة" الحمّص المهروس بالبصل والكمّون والمُزيّن بالفليفلة، يصرّ قدامى الاسطنبوليين على تنزيه مأكلهم عن مآكل حُسبت طويلاً عليه، بما في ذلك الكباب والدونر مما أتاهم من الأرياف التركية والكردية. وبينما يطغى اللحم على السمك في "المطبخ التركي"، يطغى السمك على اللحم في "المطبخ العثماني" فيتفنّن فيه الاسطمبوليون شيّاً وقَلياً وتمريقاً. فتراهم، إذاً، يأكلون من الماء أكثر مما يفعل أهل المدن الأخرى، تاركين لياشار كمال، أديب اسطنبول العتيق، أن يرسم صورة الهوس بالمياه التي تحيط مدينته. فإذ يشاهد سائر الأتراك الأخبار على شاشة التلفزيون، يشاهدها هو على شاشة البحر الذي تحمل أمواجه وسفنه الخبر اليقين. فمن عاديات الإنشاء المدرسي، بالتالي، اعتبار تلك المدينة ساحليةً، أو نعتها السقيم بالمرفأ والشواطىء. فهي مكان للبحر بامتياز. بسببه تلوح مائية، سائلة ورطبة، حميمة على عظمتها، أو كأنها أزقّة أقيمت لسائحين هاموا، أو لبحّارة جاؤوا من مآتٍ غامضة، تتخلل المعالم التي صنعتها لنفسها الإمبراطوريات وأقدار التاريخ. وإذا عرفت القدس "عقدة" التشبّه بالأنبياء، وتقليد مشيهم وحركاتهم، استولت "عقدة" الماء على حبكة القصّ الاسطنبولي. فجوليان فيّو الذي سمّى نفسه بيار لوتي، جاءها ضابط بحرية قبل ان ينتهي عاشقاً فتاته التركية أزيادي. وأغاثا كريستي لم تكتب فيها روايتها البوليسية "أورينت أكسبرس" إلا لأنها أقامت في فندق مُطل على مائها الشامل حيث صافرات البواخر وحركة الأسرار المهاجرة. لذا فمَن خال أن المساجد لا تنهض إلا في الدواخل البرية، أو من رأى أعداداً قليلة من دور العبادة الإسلامية تجاور البحر في بيروت أو الإسكندرية أو الدار البيضاء، أدهشه أن تستقبله تلك الزيجات السعيدة التي لا تُحصى بين المساجد والبحر في اسطنبول. فكأنما الأذان الذي باشره بلال في مكان بعيد وجوف عميق، صارت ترجّعه سماء مفتوحة وزرقة تلفّ العالم. سياسات و"سياسيات" والماء أقوى من السياسة في الحاضرة التي أنتجت من كبار التجار والمثقفين أضعاف أضعاف ما أنتجت من الساسة الكبار. وربما كان عصمت إينونو الإسطنبوليَ الوحيد بين رجالات الشأن العام البارزين ممن عرفتهم تركيا الحديثة. لكن إينونو، بدوره، جاءها من الجيش واحداً من جنرالات أتاتورك وأقرب معاونيه إليه. ورغم التحولات الديموغرافية الصاخبة، خصوصاً في العقدين الماضيين، ظلت اسطنبول بخيلة بالسياسيين. فرجب طيب أردوغان، قائد "حزب العدالة والتنمية" الاسلامي ورئيس الحكومة الحالي، الاسطنبوليُ الوحيد في قيادة حزبه. الا ان اسطنبوليته حديثةُ العهد مُستجدّة. فأهل أردوغان مهاجرون من الشمال أقاموا في ضاحية قاسم باشا الفقيرة التي اشتُهرت بقبضاياتها وأخذ دنياها غلابا. هناك نشأ مثلما ينشأ سائر أبناء العائلات المهاجرة البائسة، فدرس في واحدة من "مدارس الأئمة الخطباء" القرآنية التي باتت تعدّ اليوم 536 مدرسة تعلّم 65 ألف طالب. والمدينة لم يغيرها كثيراً صعود ابنها الحديث البنوّة إثر انتصار حزبه في انتخابات 2002 العامة. ولم يغيرها، بالطبع، تبوّؤه قبل ثماني سنوات رئاسة بلديتها بأصوات النازحين الريفيين. لكن هؤلاء يبقون أصحاب قصة أخرى قد تجمع، بطريقتها، الخرافي والواقعي. فهم، منذ وحّدهم الإسلام السياسي، ممثلاً يومها ب"حزب الرفاه"، مع صغار تجارها وبقايا حِرَفييها، ثم زوّدهم جميعاً قيادة من الأثرياء والمقاولين الأناضوليين المؤمنين، صاروا القوة الأولى في البلد. وقد يلاحظ زائر مثلي، هذه زيارته الرابعة الى اسطنبول، أن الحجاب اتسعت رقعته وأوقع في أسره أعداداً من الفتيات والنساء أكبر. لكن بعض نقّاد الأصولية أنفسهم يعترفون بأن الرئة الاسطنبولية لا زالت، حتى الآن، تتنفس. فاللواتي يتحولن منهن موظفاتٍ، أو ينشطن في ظاهر المدينة، يتحلّين بأخلاق المهنة وأدائها فلا يعود يميّزهن عن زميلاتهن السافرات الا الحجاب. وإذ تكثر المناسبات الاجتماعية والعامة في بيئة المحجبات الشابات، يتزايد ظهورهن في المناطق الغنية والحديثة، فترتاد واحدتهن المقهى أو الفندق أو المركز الثقافي، ممتثلةً تماماً لمعايير التصرف المعمول بها في أمكنة كهذه. وذلك إنما يُشاهَد خصوصاً في الأصوليات الشابات اللواتي تفرّعن عن عائلات ثرية أو صلبة في متوسط حالها، ممن يعتمدن السيدة أمينة أردوغان مرجعاً لهن وقدوة. فزوجة رئيس الحكومة غالباً ما توصف بمرونة سلوكها واختيارها من الملابس والأغطية، بل من المجوهرات، ما يلائم بين الإملاء الديني والموضة الرائجة والغلو الاستهلاكي. وثمة من يقول، بقدر من مزاح يستبطن الجد، إن السيدتين أردوغان وهايدونيسا غُل، زوجة وزير الخارجية، ليستا وحدهما من زوجات القادة تجدهما في "أرماني" أكثر مما في أمكنة الصلاة والتعبّد. وبينما يمتدح بعض خصوم الأصولية ظهور أمينة المتكرر "في المناسبات الاجتماعية" لعليّة القوم، تغمز من قناتها صحف التابلويد والإثارة واثقةً من أن الحصانة الشعبية لزوجها، القائد الشعبي والكاريزمي، أقوى من حصانتها وأن مناعتها، من ثم، أضعف من مناعته. فحين سافر أردوغان وزوجته الى أثينا، كان للقبلة التي طبعها قسطنطين كرامنليس على خد ضيفته التركية أن زوّدت تلك الصحف مادةً غنية للتشهير. وعندما نشرت مذكراتِها "صديقة" أمينة في شبابهما، فأوردت أن عيني صاحبتها فاضتا بالدمع حين أجبرها أهلها على التحجّب، لاذت زوجة رئيس الحكومة بصمت بدا سبباً لكلام تشكيكي يهمّ أن يكون فضائحياً. لقد هضمت اسطنبولُ نخبةَ "العدالة والتنمية" وشرعت تحوّلها، فلم يعد يميّز رموزها عن سواها سوى فارقين: أن أفرادها لا يحتسون الخمر في أمكنة المدينة العامة، فيما نساؤها يغطين شعورهن وحدود وجوههن. وهناك من يردّ بدايات هذا "الاستيعاب" للنخبة الاسلامية الى 1996. فعامذاك أقام فاتح أربكان، نجل نجم الدين الذي كان يرأس الحكومة، حفل زفافه في فندق قصر شيران، مقرّ الشرطة الحميدية قبل أن يغدو أعرق فنادق اسطنبول قاطبة وأهمها. وقد استعرض هذا المحفلُ، الأصولي افتراضاً، قدراً من البذخ لاكته الألسنة في مدينة لا تعوزها إلفة البذخ ونِعمه. لكن الألسنة اليوم، بما فيها ألسنة إسلاميين معروفين بالتعفف، تسنّ شفرتها على أردوغان ووزير خارجيته عبد الله غل بسبب ما يُعزى اليهما من علاقة وطيدة ب"المتكبّرين"، خصوصاً منهم إمبراطور الإعلام، أيدين دوغان، الأقرب إلى أن يكون روبرت ميردوخ التركي. حي بايولو ولئن أثّر، في حياة المدينة، بلوغ هذا الحزب السلطةَ، عُدّ التأثير الإيجابي أكبر من السلبي. فكادت مداخلاته الاسلامية، أو التي توصف كذلك، أن تقتصر على ما قل ودل من إجراءات. فقد أُغلقت، مثلاً، مراكز القمار القليلة أصلاً. وفي مجال الرمزي، جُعل الاحتفال بذكرى سقوط القسطنطينية في 1453 على يد محمد الثاني، أو الفاتح، وكان مناسبة متواضعة تمر مرور الكرام، احتفالاً مشهدياً ضخماً ومناسبة وطنية نُصبية. بيد أن الحزب، كما شرحت لي "شفك" ووافقها آخرون، ضاعف حملات النظافة واعتنى بالتشجير، كما اهتم بمكافحة الفساد. ومن يتذكر انتقادات بعض اليسار الايطالي المتطرف لنزاهة رؤساء البلديات الشيوعيين وكونهم بهذا يسهّلون للرأسمالية عملها ويخفّفون عليها تناقضاتها، تقوده التداعيات الى التساؤل: هل أن ما تفعله سلطة الإسلاميين الأتراك تخفيف التناقضات على الطابع الكوزموبوليتي لاسطنبول؟ فمن يسير في حي بايولو، على ضفة القرن الذهبي الشرقية، ناظراً الى الواجهات والأمكنة، أو متلصّصاً على المطاعم والمقاهي، لا يفوته أن سوهو اسطنبول تعمل بكامل طاقتها. فهذه الرقعة وجوارها حيث أقام الأجانب منذ القرن الثامن عشر، تجاراً وقناصل ومترجمين ووسطاء، منشئين الكنائس والمعابد، لا يني يُغنيها زحف الفنانين عليها وتكاثر المراكز الثقافية والمكتبات الغربية، فضلاً عن دور العرض والغاليريات والتجريب المتناثرة في زواياها. فهنا، وفي جوار هنا، يقيم بعض كبار مثقفي المدينة ومبدعيها، كأحمد ألتان ومراد بلجه وألبير أورتالي وأورهان باموك وموراتان مونغان وعمر أولوتش وفيفيت كانيتّي. وفي جلسة ضمّتني الى ناشطة نسوية وناشط مثليّ، بدا الاثنان في بايولو كما لو أنهما في رحمهما. صحيح أن أحوال المرأة في الأطراف، وفي كثير من مناطق اسطنبول نفسها، غير مقبولة بتاتاً، فيما لا يزال العنف ضد النساء و"جريمة الشرف" سيفاً فوق رؤوس التركيات، لا سيما منهن ذوات المنبت الريفي. غير أن المرأة الحرة، والنساء الحرات والحديثات الملبس كثيرات، تسير مثل الديك الفخور في بعض شوارع الحاضرة. وإذ بدأت بعض المهن الحديثة المتوسّعة، كالصحافة والتلفزيون، تستوعب أعداداً أكبر من الصبايا اللواتي وجدن فيها ممرّهن الى الحرية، بدأ الانسجام مع أوروبا يفعل فعله بدوره. فقبل أيام، مثلاً، ناقش الحزبان الأساسيان، "العدالة والتنمية" و"الشعب الجمهوري"، فقرة في القانون تجيز الكشف الطبي على الفتيات المقيمات في رعاية المؤسسات الأهلية والرسمية إذا ما شاع أنهن فقدن عذريتهن. وبينما طالب الحزب الثاني بالالغاء الكامل للفقرة المُهينة، رأى الأول الإبقاء عليها لمجرد الإفادة منها في حالات محددة كالتعرض للاغتصاب. وبدعاياته وأفلامه الاستهلاكية كما ببرامجه الثقافية والتثقيفية، يعمل التلفزيون على تطوير صورة مقبولة للفتاة الحرة بجسدها، كما للمثلي الحر بجسمه. فإذا عُرفت اسطنبول بأنها من مقاصد المثليين الأوروبيين، فالسنوات القليلة الماضية ضخّمت أعدادهم ببعض أسماء لفنانين ومبدعين وإعلاميين مشهورين، كما بات جهْر المثلي المحلي بهويته يحظى بتسامح أوسع. إشاعة محضة يتراءى، إذاً، أن بعض اسطنبول يعدّ نفسه لأوروبا بلهفة الحبيبة التي تنتظر حبيبها الغائب. وهذا البعض إذ يمارس إعداده المجتمعي، لا يكون يفعل إلا ما يشبه ميله العميق وحساسيته الراسخة. أما النخبة الإسلامية التي تصدر في هواها الأوروبي عن أمزجة مغايرة، فتغمض عيناً عن البيئة هذه وبالعين الأخرى تتلصص عليها. وهي لا يعوزها التذكير، حين تحتاج اليه، بأن السلطنة نفسها إنما كانت مجالاً كوزموبوليتياً مفتوحاً، عابراً للشعوب والأقوام. لكنْ لئن تجاهلت النخبة تلك نصف الحقيقة الآخر، وهو أن السلطنة أسست كونيّتَها على تراتُب ملّي صارم، بقي استعدادها للزمن الحاضر سبباً وجيهاً للسؤال. وإذ أسألُ رجل الأعمال والمثقف إسحق ألاتون عن سرّ التعايش الهادىء بين كوزموبوليتية المدينة، أو بعضها، وبين إسلامية الحكم، يردّ بأن السؤال نفسه خطأ: ذاك أن تلك "الإسلامية" المنسوبة الى أردوغان وصحبه "محض إشاعة". فالحزب إنما ينفّذ بشكل مُرضٍ جداً البرنامج الذي اتُفق عليه مع صندوق النقد، وكان مهندسه الوزير السابق والاقتصادي المعروف كمال درويش. أما سياسياً، فيقود البلد الى بروكسيل، وهو المشروع الذي لم ينشأ الإسلام السياسي أصلاً إلا للرد على مثله. وهناك تيارات شتى تدفع، من أمكنة متعاكسة، في وجهة كتلك. فالجيش يضغط فعلاً على "العدالة والتنمية" للحد من إسلامه في الحيّز العام، فيما يتولى "الوعد الأوروبي" بالتخلص من نفوذ العسكر ضبطَ الحزب وسلوكه بما يخاطب "قارة التعدد وحقوق الانسان". وإذا ما اكتشفت قيادة أردوغان، وقد حكمت، أنها لا تستطيع تدبير سبعين مليوناً ببرنامج أيديولوجي فقير، اكتشفت أيضاً حياةً أخرى مشوبة بالمخمل، انشدّت اليها انشداد كل باحث عن ترقّ اجتماعي. وفوق هذا وذاك، لا يوجد اليوم في تركيا الحزبُ العلماني القوي والمُقنع الذي يثبّت خصمه في موقعه الإسلامي المفترض. فحزب دنيز بايكال، "الشعب الجمهوري"، وهو نقطة اللقاء بين الأتاتوركية القومية والاشتراكية الديموقراطية، يعاني من أعراض الهزال عديدها. فلا قائده بالوجه المقنع، وليس موقفاً شعبياً تأييده "الدولة"، وهي الجيش في القاموس التركي، ضد "الحكومة"، أي "العدالة والتنمية". وإذ أدت أوروبية أردوغان التي أعاد توكيدها موقفُه من الاستفتاء القبرصي، الى تقريبه من المحيط الليبرالي والحديث، أدت شروط "الشعب الجمهوري" على الأوروبية إلى تنفير المحيط نفسه منه. فحين خيّرتُ هرانت دينك، رئيس تحرير صحيفة "أغوس" الأسبوعية الأرمنية، بين خوفين، الخوف من الجيش العلماني والقومي والخوف من الإسلامية السياسية والشعبوية، قال بصورة قاطعة: "هناك خوف واحد… العسكر". وهو لئن أخذ على حكومة أردوغان بطئها في إنصاف الأقليات، رأى أن الإسلام ليس فيه "ما يخشاه الأرمن، شعبياً كان أم سياسياً".