منذ شهور عدة، نشرت في "الحياة" مقالاً عنوانه "بيدنا قبل أن تمتد يد عمرو لتفرض التغيير علينا"، وكان فحوى المقال أن سقوط نظام صدام في العراق هو رسالة إلى كل المستبدين العرب: فإما أن يبادروا هم ويستجيبوا إلى مطالبات شعوبهم لهم بالإصلاح، وإلا فإن التغيير سيُفرض عليهم وعلينا من الخارج، وغالباً لمصلحة هذا الخارج! وفجّر المقال جدلاً واسعاً في الصحف والفضائيات التلفزيونية العربية. ولأن معظم الحكام والمثقفين العرب مسكونون "بالعفريت الأمريكاني"، فقد تصوروا، حقيقة أو وهماً، أن المقصود "بعمرو" هو الولاياتالمتحدة. وبالتالي انهال عدد من هؤلاء المثقفين بالهجوم على الولاياتالمتحدة، ناسين أو متناسين، قضية "التغيير"، هدفاً، ومضموناً، وشكلاً، وآليات. وحين عدت في مقالات تالية إلى التذكير بالقضية المحورية، وهي الديموقراطية والحكم الصالح، أمعن بعضهم في الاستمرار بالهجوم على الغرب عموماً والولاياتالمتحدة وإسرائيل خصوصاً انظر مثلاً، جلال أمين "الحياة" في 9/ 9/2003 بعنوان "سعد الدين إبراهيم ومدرسته أشبه بتحقير لدور المثقفين العرب في المرحلة الراهنة". الهجوم على الولاياتالمتحدة وإسرائيل له ألف مبرر ومبرر، فسياساتهما وممارساتهما في المنطقة من السوء والعدوانية فلا تحتاجان إلى دليل، وبالتالي ليست محل جدل. ولم أصادف عند ظهور مقالي، او قبل ذلك أو بعده، من يدافع عن تلك السياسات والممارسات في الوطن العربي. لذلك لم أستوعب في حينه إمعان بعض المثقفين في تجاهل قضية الإصلاح والتغيير وتركيز الاهتمام على أميركا، إلى أن اتيحت ثلاث مناسبات: إحداها خلال المؤتمر السنوي لمنتدى الفكر العربي في عمان، والثانية أثناء مساجلة لي مع أحد "الإسلاميين" المستنيرين على قناة "الجزيرة"، والثالثة مساجلة مع أحد "القوميين العرب" الثوريين. وفي المناسبات الثلاث كلما ذكرت أنا ضرورة التحول إلى الديموقراطية، كصيغة مثلى للتعامل مع مشكلات الحاضر وتطلعات المستقبل، رد عليّ الماركسي والإسلامي والقومي بالهجوم على أميركا، كأن الديموقراطية وأميركا، سواء بسواء! وحتى أحاصر المحاور مع انتصاف المساجلة، كنت أبادر بصب ألف لعنة على أميركا، ومليون لعنة على إسرائيل، ثم أطلب من الزميل المحترم، أن يدخل في الموضوع - أي التغيير، والانتقال من نظم الاستبداد السائدة في الوطن العربي إلى نظم اكثر ديموقراطية. ومع ذلك ظل كل منهم يحاول العودة إلى ما يجيده، ويستريح له، ويدغدع به مشاعر المشاهدين - أي الهجوم على أميركا وإسرائيل! فكنت مع كل عودة إلى هذه الممارسة اللفظية، أضاعف أنا من عدد اللعنات، شرط ان يدخل الزميل الفاضل في موضوع المساجلة، التي أعلنت عنها القناة الفضائية. وضاق صدر احدهم، نتيجة حصاري هذا، فأعلن صراحة أنه "ضد الديموقراطية، التي تأتي على أجنحة الطائرات والدبابات الأميركية"، وذلك في إشارة واضحة إلى الغزو الأميركي للعراق. فقلت مداعباً: "وماذا لو اتت الديموقراطية على ظهر ناقة أو بعير عربي؟"، فهب في وجهي بصوت غاضب "أنت تسخر مني، لأنك تعلم يقيناً أن الديموقراطية لن تأتي من صحراء العرب!! قلت له مهلاً، وبلا غضب، ماذا لو أتت الديموقراطية على ظهر فيل هندي؟". استمر الرجل في عبوسه وغضبه، واتهمني أنني ما زلت أسخر منه، "لأن الديموقراطية التي أقصدها هي الديموقراطية الأميركية". سألته، "ولماذا لا تسألني أنا عما أقصد، بدلاً من الجزم أو التخمين؟" قال الرجل: "أنا أعرف قصدك وليست لي حاجة إلى سؤالك!!". وأضطرت صاحبة البرنامج ان تتدخل لإنقاذ المساجلة من هذا التدهور السريع. فسألتني عما إذا كنت فعلاً اقصد الديموقراطية الهندية، ولماذا؟ حقيقة الأمر أنني من أشد المعجبين بالنموذج الهندي سواء في الديموقراطية أو التنمية. وكانت بداية هذا الإعجاب من مقابلة مع زعيم الهند الراحل جواهر لال نهرو، الذي جاء إلى مصر في احدى زياراته المعتادة لصديقه جمال عبد الناصر، وطلب أن يلتقي بعض الشباب من جيل ثورة يوليو. وكنت وقتها زعيماً لاتحاد طلبة كليتي في جامعة القاهرة، فوقع الاختيار عليّ لكي أكون ضمن الوفد الشبابي الذي التقى الزعيم نهرو، وقد كتبت عن هذه المقابلة في مناسبات وأماكن اخرى، لكن الجزء من تلك المقابلة المتعلقة بموضوع المقال الحالي، وبسؤال صاحبة البرنامج التلفزيوني، هو عن "الديموقراطية الهندية"، التي لم اكن مقتنعاً بها تماماً في ذلك الوقت آخر خمسينات القرن الماضي. فقد كنت ما زلت مبهوراً بكل من الأنموذج السلطوي الناصري، والأنموذج الشمولي الصيني، اعتقاداً مني بأنهما الأسرع في تحقيق التنمية الاقتصادية، والتقدم التكنولوجي، والعدالة الاجتماعية. ومع ذلك استمعت الى الزعيم الهندي وهو يفسر ويبرر حتمية الديموقراطية في الهند كمجتمع "تعددي" - طبقياً، ودينياً وعرقياً، ولغوياً، وأن الديموقراطية هي الترجمة السياسية المنصفة لهذه التعددية الاجتماعية، وإلا فإن الفئة الحاكمة تتحول إلى فاشية مطلقة لضبط هذه التعددية الكثيفة بالحديد والنار، والسجون والمعتقلات، كما حدث في روسيا الستالينية، وألمانيا النازية. فضلاً عن ان ثقافة الهند - طبقاً لنهرو - مثلها مثل "الأفيال الهندية"، ثقيلة، هادئة، لكنها قادرة على امتصاص العواصف والأنواء ومخاطر الطريق! تذكرت هذا الحديث مع الزعيم الهندي الراحل، وأنا أطالع أنباء الانتخابات الهندية الأخيرة، في منتصف شهر آيار مايو الماضي، والتي أسفرت نتائجها عن فوز حزب المؤتمر "بأكثرية" وليس أغلبية الأصوات، ضد الحزب القومي الهندي الحاكم. وهذه هي الانتخابات النيابية الثانية عشرة منذ استقلال الهند 1947، والتي لم تنقطع كل أربع سنوات، إلا مرة واحدة، كانت أنديرا غاندي رئيسة وزراء الهند، وابنة الزعيم نهرو، قد عطلتها، وفرضت الأحكام العرفية وقتها، أي خلال سبعينات القرن الماضي. وعلى رغم أن توترات طائفية واسعة هي التي دفعت أنديرا غاندي إلى هذا الإجراء، إلا أن الناخبين الهنود، الذين كانوا إلى ذلك الوقت أوفياء في غالبيتهم لحزب المؤتمر، عاقبوا أنديرا في أول فرصة سنحت لهم فأفشلوها في الانتخابات التالية. اي أن اسمها والتاريخ العريق لأسرتها في خدمة الهند، لم يشفعا لها، حينما تلاعبت بالممارسة الديموقراطية الهندية. ومنذ ذلك الوقت أراقب الهند عن كثب. وقد زرتها أربع مرات في العقدين الأخيرين، ودرست مجتمعها، وتابعت نهضتها وتقدمها العلمي والتكنولوجي، واستخلصت أربعة دروس صامتة، هي في الوقت نفسه مصدر حسرة وألم، حينما أقارن المشهد الهندي بمثيله المصري والعربي: - الدرس الأول، هو أن الممارسة الديموقراطية المتصلة لحياة جيل واحد، أي لمدة 25 سنة، كفيلة بترسيخ الديموقراطية، وتجذيرها في المجتمع. ومقارنة بمصر، مثلاً، فإنه على رغم بدء الممارسة الديموقراطية عام 1866، إلا أنها لم تكن متصلة لجيل أو أكثر. فبعد البداية الواعدة بخمسة عشر عاماً فقط، دهم الاحتلال البريطاني مصر 1882، وسيطر على مقاليدها، وعطل حياتها النيابية. ولم تقم للممارسة الديموقراطية الحقيقية أو نصف الحقيقية قائمة إلا بعد ثورة 1919، والحصول على استقلال، على رغم انه كان منقوصاً، إلا انه عام 1932 صدر دستور ليبرالي متقدم سمح بحياة برلمانية لا بأس بها، لكنها كانت تتمزق كل سنوات عدة بسبب تدخل القصر الملك أو الإنكليز، إلى أن انهى ضباط ثورة تموز يوليو 1952 التجربة كلها، أي أن مصر لم تهنأ بديموقراطية متصلة لمدة جيل كامل. - الدرس الثاني، هو أن النخبة الحاكمة التي ناضلت من أجل الاستقلال ظلت وفية، لا فقط للديموقراطية، كترتيبات سياسية للمشاركة في السلطة وتداولها، ولكن أيضاً لقيم "الليبرالية" التي لا بد منها لكي تنجح الديموقراطية. ومن هذه القيم، فصل الدين عن الدولة والسياسة، وليس عن المجتمع، والتسامح، وحرية التعبير، والحركة والتنظيم. وفي كل مرة اختلّت إحدى هذه القيم، شهدت الهند توترات عميقة، دفعت النخبة سريعاً إلى إعادة تأكيد هذه القيمة أو تلك. وعاقب الناخبون الحزب القومي في الانتخابات الأخيرة، بسبب تخليه عن قيمة التسامح الديني، وتشدده "هندوكياً"، خصوصاً ضد مسلمي الهند أكثر من 120 مليوناً، كما عاقبوا أنديرا غاندي، منذ ربع قرن، لتلاعبها بقيمة الديموقراطية نفسها. - الدرس الثالث، هو الاحترام المطلق لاستقلال القضاء، فعلى رغم كل ما مرت به الهند، منذ الاستقلال، من أزمات وحروب مع جارتيها الصين وباكستان، إلا أن النخبة الحاكمة ظلت متمسكة باستقلال القضاء، مهما كانت أحكامه مناوئة لخططها السياسية، داخلياً وخارجياً. واضفى ذلك على النظام السياسي الهندي احتراماً شديداً أمام مواطنيه وأمام العالم. - الدرس الرابع، هو استمرارية التنمية. فعلى رغم البداية الشديدة التواضع للاقتصاد الهندي مع الاستقلال، إلا أن النخبة السياسية الهندية ظلت وفية بتنفيذ خطط تنمية خمسية متواصلة، ومثل الاستمرارية الديموقراطية، كانت الاستمرارية التنموية. فالهند تنفذ في الوقت الراهن الخطة الخمسية رقم 12. وقد جاء ترشيح الاقتصادي الهندي القدير مانموهان سنغ، رئيساً للوزراء، تتويجاً للمسيرة الاقتصادية المبهرة للهند في العشرين عاماً الأخيرة. فهذا الرجل هو مهندس الإصلاح الاقتصادي في الهند في بداية ثمانيات القرن الفائت. نجحت الهند، على رغم البدايات المتواضعة عند الاستقلال، في أن تتجاوز ثالوث الفقر والجهل والمرض. وهو ثالوث كان يعصف بها مثلما كان وما زال يعصف بالعديد من بلدان العالم الثالث. وفي رأينا أن هذا النجاح كان بفضل تمسك النخبة الثقافية والسياسية الهندية بالليبرالية والديموقراطية. لقد أصبحت الهند مكتفية ذاتياً في إنتاج الغذاء، بعد أن كانت تشهد مجاعات كل عشر سنوات، في المتوسط. بل أصبحت من الدول المصدرة للمنتجات الغذائية. واصبحت الهند قوة تكنولوجية صاعدة، لا فقط نووياً، ولكن أيضاً في مجال البرمجيات والإلكترونيات. بل إن قيمة صادراتها من البرمجيات تجاوزت خمسة بلايين دولار عام 2003، واحتلت الصدارة في تجارة الهند الخارجية. وأصبحت مدينة "بنغالور" الهندية تنافس وادي السيلوكون في ولاية كاليفورنيا، الذي ظل الرائد الأول في صناعة البرمجيات طوال العقود الثلاثة الأخيرة. إن رئيس الجمهورية في الهند مسلم الديانة، والمسلمون هناك أقلية. ورئيس الوزراء الجديد هو من طائفة السيخ، التي هي أيضاً أقلية. ورئيسة حزب المؤتمر الذي فاز في الانتخابات الهندية الأخيرة هي سونيا غاندي، الإيطالية المولد والهندية بالتجنس. إن الديموقراطية الهندية جديرة بالتحية والاحتفاء. على أعداء الديموقراطية العرب، الذين يخلقون عداوتهم لها، بدعاوى أنها وافدة من الغرب أو أميركا، أن ينظروا شرقاً، علّهم يهتدون! * كاتب مصري.