ليس الانحياز إلى الخامات الفقيرة فقط، مما يسترعي انتباه المتلقي في المعرض الذي أقامته مجموعة التشكيليين العرب في صالة الأمير فيصل بن فهد في الرياض، بل أيضاً تنوع الاستخدامات وتعدد أساليب التعامل مع تلك الخامات البسيطة، إذ يحضر بشر بأحلام وطقوس وأساطير ورموز تنتمي إلى حضارات مختلفة. بدا المعرض مميزاً من أول وهلة، حينما يصافح المتلقي جانباً من تجربة الفنان الراحل مصطفى الحلاج الذي يستضيفه المعرض، والتي تكشف عن خصوصية عميقة، تحولت إلى ما يشبه الهوية. يصعب على المتلقي استقبال أعمال الحلاج من دون أن يستحضر موته، احتراقاً في مرسمه. لونت النهاية المأسوية طريقة التلقي للأعمال القليلة التي اختارها التشكيلي السعودي فايزالحارثي، من جملة أعمال كان أخذها من الحلاج قبل وفاته، بهدف تنظيم معرض له في مدينة جدة. العفوية والبساطة في تصاوير الحلاج بلونيها المعروفين الأسود والأبيض، لم تغيب تلك الروح النضالية البعيدة من الشعار والمباشرة، ولا ذلك الخيط الدقيق الذي يجذب قروناً من الميثولوجيا الشرقية. بقدر ما توحي اعمال الحلاج باندغامها بالواقع، بالقدر نفسه هي تمارس ذهاباً أبدياً في الأسطورة. تتحول الحيوانات والطيور والبشر في لوحة الحلاج إلى مرموزات ومجازات، تتيح إمكان قراءتها من جوانب مختلفة، قراءات لا تتجاوز بل تعمق من اللحظة التراجيدية التي يبدأ منها ويعود إليها الفنان. كما لا يبدو الحفر في المازونيت، لدى الحلاج مجرد حفر في حضارات وتواريخ قديمة، بقدر ما هو تأسيس لهوية جديدة، ليست بديلة لكنها ضرورة للوجود والمعاش. تضمن المعرض الثاني لمجموعة التشكيليين العرب، إلى جانب تجربة الحلاج، تجارب عشرة فنانين، من السعودية وبعض الأقطار العربية، فحضرت الحارة القديمة في مدينة جدة، في تجربة السعودي سعيد علاوي، بحس تجريدي تعبيري، حيث امتلأ الفضاء البصري لديه برموز المكان الشعبي، من "رواشين" ومشربيات وعمارة قديمة وملابس، مع توظيف "موتيفات" خارجة عن مناخات البيئة، أعطت العمل مشهدية بصرية جاذبة. وفي لوحات علاوي ما يمكن اعتباره نقطة إرتكاز محورية، يمكن الانطلاق منها وتشكيل الدلالة الكلية للعمل بأكمله، فالمرأة التي تطل من النافذة مرتكز اللوحة وعمقها في الوقت نفسه. وتميزت أعمال السعودي فايز الحارثي بالانتقال من فضاء الحروفيات والمنمنمات إلى أشكال تجريدية، تعلي من قيمة البحث الدائم في ماهية اللوحة، باستخدام تقنيات مختلفة، وخامات متنوعة تجلت من خلال تلك السطوح الناتئة والملامس الخشنة في العمل. السوري عبود سلمان، واصل طرح تجربته على خلفية من استحضار لرموز مختلفة منحتها الألوان الصاخبة والخطوط المتشابكة بعداً فولكلورياً. وبدا العمل عند سلمان تجلياً لازدحام الذاكرة بمخزون تراثي، تحوله المخيلة إلى عناصر تتكثف لتغطي مساحة اللوحة بالكامل، ولتكشف عن رؤية عفوية وتلقائية تجاه العالم وموجوداته. وجاءت أعمال السوداني عثمان عز العرب، بخاماتها البسيطة، قلم أسود وقطعة ورق، كما لو كانت لوحة واحدة، تجد كل لوحة امتدادها في الأخرى. ما يميز تجربة عز العرب، هي تلك البساطة وعدم التكلف والذهاب بعيداً في استنطاق موروثاته الحضارية التي تبدأ من الأحاجي السودانية، ولا تنتهي عند الطابع الأفريقي الذي يمارس تأثيراً واضحاً في عمل عز العرب، من خلال شكل العيون والأنف واللون الأسود، الذي يقول انه جزء منه، ويشعر بحميمية تجاهه، على رغم صعوبة التعامل معه، بعكس الألوان الأخرى التي يجد سهولة في استخدامها. اللوحة عنده هي أيضاً قطعة من الورق يمكن أن يرسمها في أي مكان أو زمان. يرسم الفنان عز العرب، بمخيلة طفل ودأب شيخ متمرس. تفسح الأعمال مساحة للعينين وكذلك الوجه، بما يحيلان إليه من طاقة تعبيرية كامنة في الإنسان. يقول "عندما أبدأ الرسم لا يكون لدي موضوع، وقد أبدأ بنقطة ثم ينهمر العمل كاملاً بعدها". وتراوح أعمال المصري راضي جودة، بين التشكيل الزخرفي والحروفي الذي لا يخلو من تنميق لوني وخطوط هندسية من جهة، وتصميم أشكال جمالية من خامات بسيطة كالكرتون وسواه، من جهة أخرى من دون إضافة أي عنصر آخر، وينحاز في أعماله وخاماته إلى المتروك والمهمل من الأشياء، التي تتواجد أمام أعيننا ولا نتنبه لها، انحيازه للبسيط من الخامات يعكس روح الفنان التي تتوق إلى العيش في الهامش. وتأتي الأعمال النحتية للسعودي عبدالعزيز الرويضا، لتعبر عن الحركة والسكون معاً، متخذاً من المرأة مصدراً للإلهام، وهو لا ينطلق من تصور مدرسي للنحت، إنما يعتمد بدرجة رئيسة على سجيته وانطلاقاً مما يدله اليه احساسه، فيعبر عن حركة المرأة وانحناءاتها بشكل مرن، لا تكلف فيه. لا يذهب الرويضان في استيحاء اشكال تجريدية، مبقياً على موضوعته التي تتكرر في كل معارضه، مع تحويرات بسيطة. بقية الفنانين تراوحت تجاربهم بين الزخارف والمشغولات الجلدية إيمان اليماني، والرسم بالألوان المائية بخفة تعكسها تلك التجريدات التي لا تذهب بعيداً في التعقيد، الفلسطيني فوزي زقزوق، وأعمال تجريبية مشبعة بالعناصر والرموز والذاكرة التي تحتفي بأدق التفاصيل، الصومالي عبدالعزيز بوبي وأخيراً تكوينات بالغرافيك، وحروفيات تنطلق من هندسة الخط العربي وجمالياته، الكويتي فريد العلي.