لم أتصور أن تلبيتي للدعوة التي تلقيتها لزيارة مونتريال ستكون بهذه الصعوبة فالطريق كانت طويلة ومملَّة. استغرقت الرحلة من أبوظبي إلى لندن زهاء سبع ساعات وهناك أمضينا وقتاً مماثلاً في قاعة الترانزيت في مطار هيثرو، الذي يعج بالحركة وبالأسواق، وكأنك في أكسفورد ستريت، وسبع ساعات أيضاً فصلت ما بين الإقلاع من هيثرو والوصول إلى مونتريال. في الطائرة تسلمت بطاقة هبوط لاندنغ كارد ولأول مرة في حياتي كنت أرى مثلها فهي مكونة من ثلاث صفحات، بخط صغير باللغتين الانكليزية والفرنسية، وتحتوي على أسئلة متنوعة كثيرة مثيرة للضجر، وكان من بينها مثلاً: هل تحمل معك أكثر من عشرة آلاف دولار؟ فأجبت ب"نعم". في المطار سألني ضابط الجوازات حول صحة المعلومة، فأجبت بالإيجاب، عند ذلك أحالني إلى زميلة له في مثل رتبته تصلح لخوض مسابقة جمال الكون، فانفرجت أساريري ودندنت بأغنية عبدالحليم حافظ "يا عيني يا قلبي جرى إيه"، وبخاصة عندما طلبت مني أن أتبعها إلى مكان منعزل حتى لا يرانا الركاب الآخرون فأكملت "والدنيا احلوت كده ليه"، فحمدت الله أن ملابسي من ماركة "آرماني" قد أدت مفعولها، وأن وسامتي قد أوقعت بأول كندية أقابلها في بلاد الفرنجة. وفي مكان منزوٍ قالت لي: هل تثق بي؟ فأجبت: طبعاً. فهي في ملابس الضباط أكثر إغراءً وكيف لا أثق بها وهي تحمل وجه ملاك وجسد نحته الشيطان، وأحسست بها ولسان حالها يقول: "كامل الأوصاف فتني والعيون السود خدوني". أفقت من أحلامي عندما طلبت مني أن أريها العشرة آلاف دولار، فناولتها إياها، وعندما تأكدت من المبلغ أعادته إلي، وكتبت إفادة بأنه يحق لي الخروج بهذا المبلغ لدى مغادرتي الدولة، فقلت لها: أهذا كل شيء؟ فقالت: نعم. ورحبت بي في مونتريال متمنِّية لي إقامة سعيدة. وأردت أن ألفت انتباهها إلى أن بإمكانها أن تأتي إلى غرفتي في الفندق للتأكد من صحة المبلغ وقت تشاء، ولكنني خشيت أن ينتهي بي المطاف بأن أتأكد من المبلغ منفرداً في أجواء رطبة. وعندما سألت العالمين بأمور كندا، عن أفضل مطعم في مونتريال، كان الإجماع على ال"كو دو شيفالQueue De Cheval"، وهو يعني "ذنب الحصان" فذهبت إليه لتناول طعام الغداء برفقة أحد الأصدقاء. كان المطعم مميَّزاً: شعاره حصان باللونين الأبيض والأسود، يعدو رافعاً ذنبه إلى الأعلى، أما الأرضية فمن الخشب ذي اللون الداكن، وكذلك الجدران التي حملت الكثير من رسومات الخيول، تشعرك وكأنك في أحد مطاعم بلاد العم سام. جاء النادل الذي بلغت السمنة معه أقصى حدودها، إلى درجة تجعلك تخاله يتدحرج بدلاً من أن يسير باتجاهك، فسألته عن الوجبة الكندية الأشهر لأتناولها، فاستغرب سؤالي ثم أجابني بعد تفكير: لا يوجد، فقلت له ما هي أشهر وجبة تقدمونها؟ فقال: "الإستيك" على طريقة أهل نيويورك. فقلت: جيد، فلتأتني بطبق منه مشوي بشكل جيد well done. فقال: إذا كنت من متذوقي الطعام، فعليك بالإستيك متوسط الشواء. فأجبت بعدم الممانعة. جاء بالطبق: قطعة جميلة من لحم العجل الصغير، كبيرة جداً، ولكنها بالفعل طيبة المذاق وكالإسفنج، أقرب إلى الملبن منه إلى اللحم. وعندما طلبت منه أن يحضر إلي حلوى كندية شهيرة، أجابني بأن لا توجد حلويات كندية، بل فرنسية. فاكتشفت أن لا وجود لشخصية كندية، وإنما لمجموعة كبيرة من المهاجرين من كل أنحاء العالم، كونت مجتمعاً مبنيّاً على المحبة والإيمان، استطاع بقوة عمله ودقة تنظيمه واحترامه للإنسان أن يرتفع إلى مرتبة إحدى الدول الصناعية الثماني الكبرى. في صباح اليوم التالي اصطحبني الأصدقاء إلى مطعم شهير لا يقدم سوى وجبتي الإفطار والغداء، يقع في منطقة "سان لوران" وتنتشر فروعه في مقاطعة كيبك، ويسمى "شي كورا Che Cora" أي عند كورا. الطلاء الخارجي للمطعم براق طفولي يجمع بين الأخضر والأحمر والأصفر، وهو خفيف الظل، يقدم كل وجباته ممزوجة بالبيض، تناولت قائمة الطعام، فوجدت العجة التي كانت تتقنها جدتي، والأومليت مع الجبنة السويسرية، والبيض "العيون" مع اللحم المقدد. ووقعت عيناي على ما لم تذهب به الأيام من ذكريات طفولتي الأولى، بخاصة عندما كنا نتحلق حول ال"سومون فيميه" الذي كان يحضره والدي في المناسبات، فطلبته مع البيض المخفوق، وكان لذيذاً وشعرت عند تناوله بالنشوة، داعياً للعمة كورا بالعمر المديد، ولخالتي بطول البقاء، ولجدتي بالرحمة والنور، وكنت أظنها الوحيدة التي تتقن إعداد العجة. وفكرت جدياً بافتتاح سلسلة مطاعم في عالمنا العربي لا تقدم الوجبات إلا مع البيض ونحن النشامى لنا باع طويل في الفول بالبيض، والفلافل بالبيض، وصولاً إلى البيض مع البيض "الكافيار" وبذلك تشمل دائرة زبائني الفقراء والأغنياء وما بينهما، وسأسميه "كُل هنيئاً عند العمة نفيسة"، أو "كل واشكر عند طانط تريز"، "على كيفك عند جولدا".. وبذلك ستتسع دائرة زبائني لتشمل كل سكان الشرق الأوسط... الكبير. انطلقنا عقب الإفطار في اتجاه الشمال، نحو منتجع شتوي يسمى القديس المخلِّص St. souveur ويبعد عن مونتريال حوالى ساعة بالسيارة. وكان منظر الأطفال وهم يتزلجون جميلاً، والتقطت زوجة صديقي من الأرض قطعة عملة معدنية من فئة الدولارين وما أن استكملنا المسير حتى عثرت أنا على قطعة أخرى تلمع بين الثلج فالتقطتها واعتبرتها تميمة الحظ التي لن أتخلى عنها. انتقلنا إلى منتجع شتوي آخر لا يبعد عن الأول كثيراً، يسمى Mount olympia جبل أولمبيا، وكان يعج بالمتزلجين. لفت انتباهي على ناصية أحد الشوارع شخص يمهِّد بكلتا يديه الثلج المتساقط على طاولة أمامه، فاقتربت منه فإذا به يبيع عصارة شجرة "المابل" التي اتخذت ورقته رمزاً رسمت على علم كندا، وتستخرج العصارة من خلال وضع ما يشبه الصنبور في جذع الشجرة وعبره تستقطر إلى وعاء وضع تحتها لتجميع العصارة التي يجري غليها لاحقاً ثم يضع البائع عليها عصا صغيرة ويغمرها في العصير ويمررها على الثلج المبشور فتصبح كالآيس كريم. رغبنا في تذوُّق ما نراه، ففعلنا. لقد كان طعمها لذيذاً. وفي مونتريال يعتبر الكثيرون عدم إتقان اللغة الانكليزية مدعاة للفخر، ويكفي أن تبدأ كلامك بالعبارة السحرية Bonjour أما معظم اللافتات العامة في كيبك فهي مكتوبة باللغة الفرنسية فقط. وتعتبر مونتريالالمدينة الأكبر في كيبيك، ويسكنها نحو ثلاثة ملايين نسمة وتقع فوق جزيرة عند ملتقى نهري "أوتاوا" و"سان لورانس". صعدنا مع الأصدقاء إلى Mount Royal "الجبل الملكي"، ومن هناك استمتعنا بالمنظر الجميل للمدينة بأكملها وهي تبدو كاللؤلؤة تلمع وسط الأضواء. ولقد سبقنا إلى هذا الصعود المستكشف الفرنسي جاك كارتييه في رحلته التاريخية العام 1535م، وهو الذي أطلق عليها هذا الإسم ولاءً للملك فرانسوا الأول، فعُرفت المدينة باسم "مونتريال" قادتنا خطواتنا إلى المدينة القديمة، حيث المرفأ وبعض السفن، وتحيط بها المياه المتجمدة، والساحة الأمامية مرصوفة بالحجارة، والمباني حجرية قديمة، أسطحها منحدرة للغاية لمنع تجمع الثلوج عليها. وفي شارع نوتردام يوجد مبنى البلدية Hotel de ville حيث أطلق ديغول من على شرفته في العام 1967، صيحته الشهيرة التي ما تزال تلهب حماس الانفصاليين: Vive le Quebec Libre تحيا كيبيك حرة، ومن هناك تجولنا في كنيسة نوتردام وهي أصغر بكثير من مثيلتها في العاصمة الفرنسية باريس، التي توحي إليك بأنها تتأهب للانطلاق نحو السماء. عدنا إلى الفندق الواقع وسط المدينة في شارع شيربروك Sher brooke المليء بناطحات السحاب ومراكز التسوق المحتشده حول الكنائس والمتاحف، وتقع في الشارع نفسه الجامعة الأشهر في كندا وهي جامعة ماكجيل Mc Gill التي أسسها في أوائل القرن التاسع عشر تاجر الفراء الاسكتلندي "جيمس ماك جيل". وفي وسط المدينة دخلنا إلى أحد المحلات التي أدت بنا إلى مدينة مونتريال تحت الأرض وهي تعجّ بالمتاجر الفاخرة ودور السينما والمقاهي والمطاعم التي تمكن زائرها من أن يقضي بها شهوراً عدة من دون الحاجة للصعود إلى سطح الأرض. وعلى رغم جمال التجوال في هذه المناطق إلا أنني لم أحتملها، ليقيني بأن فترة بقائنا تحت الأرض ستكون أطول كثيراً من بقائنا فوقها، فلماذا العجلة والذهاب بأرجلنا إلى أسفلها ولننتظر لننتقل إليها محمولين. لم أكمل الساعة في هذه الجولة وخرجت سريعاً إلى سطح الأرض حيث البرد والثلوج وقسوة الشتاء، ولكنها بدت لي أرحم من جنة مونتريال تحت الأرض وكان هذا إحباطي الثاني في كندا. ولما كان المحبون والأصدقاء قد أوصوني بضرورة زيارة شارع سانت كاترين، فلقد عزمت على الذهاب إليه يملؤني الفرح، لقد سبق لي أن زرت دير سانت كاترين في صحراء سيناء، الذي بُني في عصر جوستينيان 542 - 551م وهو شبيه بقلاع العصور السحيقة، وكانت الامبراطورة هيلانه والدة الامبراطور قسطنطين قد أمرت ببنائه العام 432م، ثم أكمل في عهد جوستينيان ليكون معقلاً لرهبان سيناء وقد سمي في العصور التالية باسم القديسة كاترين، لرؤية رآها أحد الرهبان في منامه بأنها نقلت إلى هذا الموضع فنقل رفاتها بناء على ذلك، وأطلق اسمها على الدير وعلى المنطقة كلها. ولسانت كاترين قصة حزينة مليئة بالدماء، ففي العام 307م حضر القيصر مكسيمانوس الثاني إلى الاسكندرية، وكان مستبداً ويستمتع بتعذيب المسيحيين، وأصدر مرسوماً بوجوب الذهاب إلى المعابد الوثنية وتقديم القرابين لها وإلا تعرض الرافضون للعذاب والموت. ووقفت سانت كاترين بأعوامها العشرين بجرأة أمام القيصر وحكمائه منددة بالأوثان واستطاعت أن تقنع الكثير من حكمائه والجنود بدخول الديانة المسيحية، فجنّ جنون القيصر وأمر بفصل رأسها عن جسدها. ... وفي صباح اليوم التالي كان الخبر الرئيس في التلفاز عن زفاف ممثلة من صديقتها، فأيقنت بأن دوائر الحرية والفوضى والعبث حين تتداخل من دون وجود معايير فكرية وقيم أخلاقية يفقد المجتمع صلابته الاجتماعية. ولكل مدينة حُماتها، هكذا تعلمت خلال رحلاتي، في دول الشرق أضرحة أولياء الله الصالحين وأهل البيت يحمون المدن، وفي الغرب القديسين والقديسات، ولما سألت عن "حامي" مونتريال أشاروا إلى الراهب أندريه الذي يرقد جثمانه في سرداب كنيسة سانت جوزيف، التي تقع على تل وتعترض الرؤية إلى السماء وتستقبل نحو مليوني شخص سنوياً. ولد أندريه العام 1845 في عائلة فقيرة وعاش بين أحد عشر أخاً، عمل بواباً في أبرشية Holy Cross وكان يداوي المرضى، وكثيراً ما كان ينجح في شفائهم. وعندما توفي في العام 1937م حضر جنازته أكثر من مليون شخص. ويفاجأ زائر الكنيسة بمجرد دخوله للكنيسة بعدد ضخم من العكازات المعلقة على الحيطان، والتي يقال بأن المشلولين قد أتوا إلى الكنيسة مستندين إليها، ثم خرجوا منها معافين. ولقد رأيت مثل ذلك في ديرسانت كاترين في صحراء سيناء، ولم أر شبيهاً له في المستشفيات، وفي داخل الكنيسة خزانة بجانبها أوراق صغيرة وقلم، وقد وضعت لكي يكتب الزائر أمنياته على ورقة يضعها في الصندوق. ولقد رأينا مثل ذلك في أضرحة سيدنا الحسين وأهل البيت في القاهرة. وفي اليوم السابع لحقت بي زوجتي إلى مونتريال، وكان ذلك إحباطي الرابع في كندا، فلقد تمنَّيت لو أنها كانت معي منذ اليوم الأول مصحوبة بإبنتي الصغرى هيلانا. أنجزنا موعدنا المنتظر مع امرأة ما زالت تتمتع بمسحة جمال غادرها منذ أربعين عاماً، وكانت النتيجة عدم منحنا الموافقة على الهجرة إلى كندا وأنا الباحث عن وطن في عالم أعتبره وطني. ورضيت بقسمة القدوس فينا، بعد أن وفقنا المهيمن في ثلاثٍ كتب الدهر علينا معايشتهم: وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين صادرة من أكبر دولة عربية لا قيمة لها، ضغط عال في شرايين الدم، خواطر نريد أن نمليها ولا نستطيع، وهي خفايا في قلم العاقل تحسب له، وإن كُتبت تحسب عليه. * كاتب فلسطيني مقيم في أبو ظبي.