في بدء الفترة الثالثة من حكمه العام 1936، جاء على لسان رئيس وزراء كندا ويليام ليون ماكينزي كينغ ان "ثمة بلدان ذات تاريخ هائل، لكن لكندا جغرافيا هائلة". والواقع ان لا خلاف حول هذه المقولة، فالاتحاد الكندي يغطي مساحة عشرة ملايين كيلومتر مربع من الكرة الارضية نصفها تقريباً اراض مغطاة بالغابات، فيما تتوزع البحيرات والانهار على سبعة في المئة من المساحة. ففي مقاطعة اونتاريو وحدها مثلاً يمكن احصاء نحو 400 الف منها، بينما تنساب في كندا ثلاثة من بين الانهر العشرين الاطول في العالم وكل ذلك جعل منها خزاناً يحوي 25 في المئة من احتياط العالم من المياه العذبة. وافردت كندا 34 محمية طبيعية تبلغ مساحتها 140 ألف كيلومتر مربع لوقاية النباتات والحيوانات التي تشكل ثروة تفاخر بها فبالاضافة الى اكثر من 800 حيوان بحري تختزنها مياه خليج سان لوران وفي عرض "تيرنوف" الارض الجديدة في المحيط الاطلسي، تعيش على الاراضي الكندية اجناس حيوانات عدة كالغزلان والأيل والدب الاسود والقندس البني والحيوانات ذات الفرو والذئاب والثعالب وغيرها… وغالباً ما اقترن اسم كندا بتعابير من نوع "جليدي" او "قطبي" او ما هو "شمالي" بحيث يعتقد اجانب كثر ان كلمة "بارد" تختصر المناخ الكندي بأكمله. وهو خطأ شائع، اذ ان كندا، وان احتلت المنطقة الشمالية من الكرة الارضية وبالتالي الاكثر صقيعاً، الا ان مناطق منها، مثل جزيرة بيلي في مقاطعة اونتاريو تقع على خط العرض ذاته مع روما، وتتمتع بمناخ مماثل. واذا طبعت اذهان الناس صور الثلوج التي تغطي قمم جبال "روكي ماونتنز" غرب، الا انه لا يغيب عن ذهن هؤلاء ان هذه الجبال العالية تشكّل حاجزاً طبيعياً يجعل فصل الشتاء في مدينة فانكوفر اكثر لطفاً من شتاء دالاس مثلاً. كما ان سواحل كنداالشرقية على المحيط الاطلسي تداعبها في اجزاء كبيرة منها تيارات "غولف ستريم" الدافئة، ما يجعل شواطئها تتمتع بصيف يقارب الدفء ذاته لشواطئ البحر الابيض المتوسط. وبذا تكون كندا ناصعة بثلوجها نصف السنة، ومشمسة في غالب الاحيان، وخضراء بقية السنة، ويعكس تنوع مناخها تنوعاً في جغرافيتها يخول الزائر اختيار ليس فقط المكان والنشاطات التي ينوي ممارستها وانما ايضاً المناخ الذي يلائمه. بين المقاطعات العشر التي يتشكل منها الاتحاد الكندي تعتبر اونتاريو الاغنى والاكثر تعدداً سكانياً، وتقصدها اكبر نسبة من الزوار والسياح، وهي تؤوي تسعة ملايين نسمة يشكلون عدد سكان كندا، وهي تحوي ثروات معدنية اكثر من بقية المقاطعات واراضي زراعية اشد خصوبة. وتعتبر مركز البلاد الصناعي، اذ تنتج نصف اجمالي المنتجات المصنّعة في كندا. وفيها تقع العاصمة الفيديرالية اوتاوا وكذلك اكبر المدن الكندية تورونتو. وتتوزع فيها نحو 40 الف بحيرة مياه عذبة تغطي مساحة 200 ألف كيلومتر مربع. وقبل ان تصبح على هذه التسمية كانت اونتاريو مقاطعة فرنسية ثم انتقلت الى الانكليز لتشكل منذ العام 1791 كندا العليا، بحسب التقسيم الاداري الناجم عن "القانون التأسيسي" الذي توصل اليه "الفرنسيون" السكان الناطقون بالفرنسية والانكليز من اصل انغلوساكسوني، والذي جعل من مقاطعة كيبيككندا السفلى. وحين أُعلن الاتحاد الكندي العام 1876 انضمت اليه مقاطعة كندا العليا تحت اسم اونتاريو فأعلنت مدينة اوتاوا عاصمة فيديرالية، فيما بقيت تورنتو عاصمة اقليمية للمقاطعة، ومنذ ذلك الحين لم تكف المقاطعة عن التطور لتصبح مع القرن العشرين مركز الثقل الاقتصادي لكندا، والصرح الثقافي للكنديين الناطقين بالانكليزية. وهي اليوم المقاطعة الثانية بعد كيبيك من حيث مساحتها التي تفوق مليون كيلومتر مربع. مظاهر اوتاوا المتنوعة جعلت منها عاصمة مثالية لكندا، فهي مدينة ضخمة بمبانيها الحكومية القديمة المتجددة المنتصبة على هضبة تشرف على نهر اوتاوا بينما تتوزع مبانيها واحياؤها السكنية على حدائق واسعة وبحيرات وهي محاطة بحزام من ارض خضراء عرضه اربعة كيلومترات، يضمن للمدينة ولسكانها ال835 الفاً هواء نقياً لا اثر فيه لتلوث. وهي مدينة مثقفة بمتاحفها الوطنية الستة، والمركز الوطني للفنون الذي تحتضنه. ومزدوجة التعبير، بحكم وضعها كعاصمة فيديرالية تتعاطى باللغتين الانكليزية والفرنسية على السواء اكثر من اي مدينة كندية اخرى، وتفاخر باحتوائها على بعض افضل مطاعم وفنادق المنطقة.. وهي مسافة طويلة قطعتها هذه المدينة التي لم تكن سوى قرية نائية تدعى بايتاون، قبل ان يتحول اسمها الى اوتاوا عام 1855 حين جعلت منها الملكة فيكتوريا عاصمة اقليمية، ومن ثم عاصمة للاتحاد بعد عشر سنوات. تورنتو حين وصف الممثل بيتر اوستينوف تورنتو ب"نيويورك يديرها سويسريون" لا شك انه اثار سخرية الكثيرين، او على الاقل استغرابهم، لكن لا بد لزائرها ان يعترف بصحة هذا التشبيه. فناطحات سحاب تورنتو ليست فقط شاهقة، بل هي تناطح فعلاً الغيوم، بينما لا تكتفي نسبة الجريمة بكونها متدنية جداً، بل هي الادنى على الاطلاق بين كبريات مدن اميركا الشمالية. اما شوارعها فهي نظيفة الى حد ان موظفي تنظيفات البلدية يغسلون دورياً، بالماء والصابون، سلال القمامة الموزعة بكثرة في شوارع المدينة، حتى تحت المطر. تورنتو هي اليوم اكبر مدن كندا بسكانها الذين يقارب عددهم الثلاثة ملايين والذين يتوزعون على 650 كيلومتراً مربعاً، وهي تدحض بثقة مقولات من يدّعون ان مصير المدن الكبرى ان تتحول الى بؤر للفساد والفقر والعنف والقذارة والضجيج واليأس والتشرد والانانية والجريمة… باختصار ان تتحول الى غابة من الاسمنت. صحيح ان في تورنتو الكثير من الاسمنت، لكنها تضم كذلك اكثر من مئتي حديقة عامة ومنتزه تسودها الخضرة الناصعة. وصحيح ان فيها ناطحات سحاب عدة، لكنها لا تزال تحتفظ بحرص وبغيرة شديدين بمبان ومنشآت قديمة تتحدث عن ماضي البلاد، ولو لم يكن بعيداً، وهي وان شهدت نمواً متسارعاً الا ان هذا النمو ليس عشوائياً، اذ ترافقه برامج وتدابير لتأمين اعداد من المساكن الجديدة تتناسب مع كل نمو في حجم العقارات المفرزة للمكاتب، وهي شاسعة الارجاء تصل بين اطرافها شبكة مواصلات عامة ممتازة. وشوارعها ليست فقط نظيفة فهي ايضاً آمنة ليلاً ونهاراً وسكانها اخلاقيون ومهذبون. وهي تضم اكبر عدد من المسارح، بعد نيويورك، من بين مدن اميركا الشمالية. ولعل افضل مثال على نجاح تورنتو في الموازنة بين القديم والحديث، بين الديناميكية والتقاليد هو كونها تفاجئ زوارها الاميركيين الذين يرون فيها مدينة انكليزية، بينما يفاجأ زوارها الآخرون خصوصاً الاوروبيين بطابعها "الاميركي" ما يسمح باعتبارها المدينة الاكثر "كندية" بين مدن كندا. وتتميز تورنتو ببرجها "سي. ان. تاور" المبني من الخرسانة والذي يشبه ابرة عملاقة، والذي يرتفع 554 متراً، ليكون اعلى بنية من دون مرتكز في العالم. ويدور في اعلاه مطعم يوفّر للجالسين الى طاولاته مشاهد خلابة من علو لكل اطراف المدينة واتجاهاتها. ولكن للشجعان الخروج من المطعم والوقوف على منصة زجاجية على ارتفاع نحو 400 متر، ليشاعدوا عمودياً تحت اقدامها من خلال "نوافذ" زجاحية سميكة معالم المدينة وكأنهم على متن طائرة هليكوبتر. ولذا على الذين يخشون الدوار تجنب هذه المنصة بأي شكل. وعلى قرب من البرج يقع استاد "سكاي دوم" المغطى بقبة قطرها 86 متراً صممت بشكل يسمح لها بالانحسار ليصبح الملعب مكشوفاً. ويمكن لمدرجاته استيعاب 60 الف متفرج، وهو يضم مطعماً وفندقاً من 364 غرفة، تطل 70 منها مباشرة على الملعب. شلالات نياغارا في الطريق الى شلالات نياغارا الشهيرة، لا بد من التوقف في مدينة "نياغارا اون ذي ليك" الواقعة عند منبع نهار نياغارا وبحيرة اونتاريو. وهي من اجمل مدن القرن التاسع عشر في اميركا الشمالية وحافظت على طابعها هذا منذ اعادة بنائهاة بعدما دمّرها الاميركيون تماماً العام 1913. في منتصف الطريق بين بحيرتي ايرييه واونتاريو تنهمر مياه نهر نياغارا من منحدر بمعدل 200 مليون متر في الدقيقة الواحدة جاعلة من هذه الشلالات احدى اهم عجائب العالم. وتفصل جزيرة صغيرة بين الشلالات الكندية، وتدعى "حدوة الحصان" ويبلغ عرضها 793 متراً، والشلالات الاميركية الواقعة في الطرف الاميركي وهي اصغر بكثير من الكندية ولا يتجاز عرضها 305 امتار. وفي بعض الاماكن يتم تحويل 75 في المئة من حجم المياه بواسطة اقنية الى محطات كهربائية في الطرفن الكندي والاميركي. وزوار شلالات نياغارا بدأوا بالوفود لمشاهدتها منذ القرن السابع عشر، قاطعين في احيان مسافات بعيدة جداً لهذا الغرض. ويبلغ معدل عددهم السنوي اليوم نحو 12 مليون زائر، وبينهم عدد كبير من العرسان في شهر العسل او من العشاق من دون ان يعلم احد كيف ولماذا نشأ هذا التقليد، لكن الاكيد ان احداً لا يمكن الا ان يتأثر بمشاهدة هذه الظاهرة الصاخبة. كيبيك: المقاطعة والمدينة كيبيك، المقاطعة الكندية الناطقة بالفرنسية، هي اكبر المقاطعات مساحة وتغطي 1.5 مليون كيلومتر مربعه. وهي "القلعة" اللغوية والثقافية الفرنسية الوحيدة التي لا تزال صامدة في عالم اميركا الشمالية الانغلو-ساكسوني. اما المدينة التي تحمل الاسم نفسه فهي المدينة الوحيدة في اميركا الشمالية التي اعلنتها منظمة اليونسكو "تراثاً انسانياً". تقع مدينة كيبيك على مرتفع يعلو نهر سان لوران سانت لورنس ب110 امتار وهي ليست فقط احدى اجمل مدن اميركا الشمالية، بل احدى المدن الاكثر "فرنسية" حتى بالنسبة الى فرنسا بالذات. ووصفها تشارلز ديكنز قائلاً: "انها مكان لا يغيب عن الذاكرة، ولا تمكن مقارنته بمكان آخر"، وبالفعل، من الصعب جداً نسيان هذه المدينة القلعة، الشامخة، التي تحيط اسوار منيعة بمبانيها التي يعود بعضها الى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتفرد لزائرها مناظر خلابة ومقاهي وصروحاً تذكر بتاريخها الذي يتكلم ويتنفس بالفرنسية في قلب اميركا الشمالية. وهي قسّمت الى جزءين: المدينة العليا والمدينة الواطئة، يصل بينهما مصعد آلي وادراج عدة تقودك صعوداً الى الاسوار التي بناها الانكليز للصمود في وجه الاميركيين، والى المدينة القديمة بأزقتها الضيقة ومبانيها الاثرية، او نزولاً نحو المدينة الواطئة المبنية على السفوح والممتدة نحو وادي سان شارل حيث تبدأ ضواحيها الصناعية. وعلى رغم ان عدد سكان كيبيك يناهز رسمياً 600 الف نسمة، الا ان هذا العدد يزيد عن ذلك بكثير، نظراً الى استضافتها اعداداً كبيرة من السياح على مدار السنة. مونتريال تعتبر مونتريال ثاي مدينة فرنسية ليس في كندا، وانما في العالم، بعد باريس، وفي محيطها الشمال - اميركي، تحمل سمات مشتركة عدة مع مانهاتن في نيويورك. فهي جزيرة مثلها، وكان سكانها هنوداً اميركيين، في الماضي. وهي المدينة الاكثر تنوعاً والاكثر "اوروبية" من بين مدن كندا، وتتميز بجودة مطاعهمها، بحياتها الليلية الصاخبة، وبالمئة قومية التي تعيش في حضنها وبفريقها في لعبة البيسبول. لكن المقارنة مع مانهاتن تتوقف عند هذا الحد. فبعكس هذه الاخيرة، مونتريال جزيرة كبيرة جداً، طولها 51 كيلومتراً، ويصل اقصى عرضها الى 16 كيلومتراً. كما انها تبتعد 1500 كيلومتراً عن المحيط، وتحوي شبكة مواصلات تحت الارض واسعة وموثوق بها. كما تختلف عن نيويورك بكون غالبية سكانها يتكلمون الفرنسية، ولها طابع شخصي جداً يميزها عن بقية مدن العالم. كانت مونتريال القديمة او "المدينة القديمة" مركزاً لكل نشاطات المدينة حتى القرن التاسع عشر، وفي الستينات اخذت المدينة القديمة تتآكل وتتحول الى ركام بعدما انتقلت كل النشاطات الى الاحياء الجديدة ذات ناطحات السحاب وبعدما انصرف سكانها الى مساكن اكثر حداثة. ولكن الحكومة الكندية تدخلت لانقاذ المعالم التاريخية لمونتريال القديمة، فأعلنتها "منطقة تاريخية" وجرى تنفيذ برنامج ترميم وتجديد لمبانيها القديمة مما جعل احياءها العتيقة تضجّ بصخب المطاعم والمقاهي والحوانيت والمسارح التي فتحت فيها. وبعد… من الصعوبة بمكان حصر معالم دولة شاسعة مثل كندا، علماً ان هذه الجولة تناولت اهم مدنها، من دون ان تصل الى عوالمها الشاسعة المتنوعة التي تحتاج الى زيارات عدة واسابيع طويلة للإحاطة سطحياً، بهذا العالم القائم بذاته: الاتحاد الكندي.