أعلن آرييل شارون انه يريد الانسحاب من قطاع غزة جنوداً ومستوطنات. وفي حين أن القرار لو نفذ سيكون في خطر بناء الجدار العنصري وأهميته. فإنني لم أسمع بعد أن القيادات الفلسطينية اجتمعت لتدرس إدارة قطاع غزة وهو خالٍ من الاسرائيليين. إذا كان عدم اجتماع الفلسطينيين يعد غريباً وغير مقبول، فإن أسخف ما سمعت تعليقاً على موقف شارون هو انه "مؤامرة". وكنا نعرف أن القيادات الفلسطينية فقدت القدرة على الفعل، إلا أنها في موضوع مستقبل القطاع تبدو وكأنها فقدت القدرة على رد الفعل. رئيس وزراء اسرائيل لم يرَ فجأة النور، ولم يصبح داعية سلام. وفي حين أن المراقب مثلنا لا يستطيع أن يدخل عقله ليعرف دوافعه الحقيقية، فإن بالإمكان مع ذلك ربط خطوته بالصعوبات الكبيرة التي يواجهها من تهم الفساد الشخصي الى هبوط الاقتصاد، وهو لعله يعتقد أن الفلسطينيين سيرفضون خطوته، ليبدوا بعد ذلك كمن لا يريد السير في طريق السلام. أو هو في النهاية لا يريد الانسحاب من القطاع كله، وإنما من جزء منه، لتخفيف الضغوط الأمنية. وربما كان اقتنع في النهاية بأن قطاع غزة عبء على اسرائيل والضرر أكثر من الفائدة لذلك فهو يعني ما يقول ويريد الانسحاب فعلاً. وكانت انباء ذكرت انه يفاوض الأميركيين مقابل الانسحاب من قطاع غزة على أن يؤيدوه بعد ذلك في رفض التفاوض مع السلطة الفلسطينية. في جميع الأحوال، إذا تم الانسحاب، فهو سيتم من دون مفاوضات مع الجانب الفلسطيني، وبالتالي فإن الفلسطينيين غير ملزمين بشيء مقابل الانسحاب. يستطيع الفلسطينيون أن يقولوا ان شارون يريد أن ينسحب لأنه يواجه مأزقاً، أو لأن المقاومة أرغمته على الانسحاب، ولكن مهما يكن الأمر، فمصادر تعرف تفكير شارون تقول انه سيعلن قراره نهائياً في أيار مايو أو حزيران يونيو، وان يجرى تنفيذه خلال أشهر، وقرب نهاية السنة. قطاع غزة من دون اسرائيليين؟ هناك احتمالان لا ثالث لهما في مثل هذا الوضع: إذا نجح الفلسطينيون في ادارة القطاع يصبح الضغط على اسرائيل لانسحاب مماثل من الضفة الغربية. وإذا فشلوا يرفع الضغط عن اسرائيل لإكمال العملية، وينتهي حلم الدولة المستقلة. من يحكم قطاع غزة المحرر؟ السلطة الوطنية ضعيفة، ولكن أي محاولة لإيجاد اطار لإدارة القطاع خارج عباءة السلطة سيكون فخاً، يدفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً له. المطلوب حوار داخلي في العمق يركز على المصلحة العامة، لا مصلحة أي فصيل بمفرده. والمطلوب كذلك تعزيز دور السلطة كممثل لجميع الفصائل، لا كفصيل ضد فصائل، وليس في الأمر سر أو سحر، فمن ضمن المطلوب وضع ترتيبات أمنية بمشاركة الجميع ليخلو قطاع غزة من جميع مظاهر العنف، وليظهر الفلسطينيون بمظهر القادر على العيش بسلام مع نفسه ومع الآخرين. ومن ضمن المطلوب أيضاً منع اي اختناق اقتصادي يزعزع ثقة المواطنين بالسلطة، ويصبح مدخلاً لعودة العنف. في حال انسحاب الاسرائيليين من قطاع غزة، أرجو أن أرى التالي لضمان حسن الختام: أولاً، أن يلعب أبو عمار دوراً إيجابياً في جمع الفصائل الفلسطينية، ووضعها على طريق التعاون. ثانياً، وكتتمة للنقطة الأولى، يجب أن تبدأ فتح وحماس مفاوضات للتعاون، خصوصاً في مجال الترتيبات الأمنية، فالفلسطينيون سيكسبون الرأي العام العربي، والعالم معه إذا أظهروا قدرة على السلام، كقدرتهم على المقاومة، وإذا خلا القطاع من مظاهر الفساد المعروفة. ثالثاً، وهو أهم نقطة، يجب أن يقوم تفاهم فلسطيني - مصري كامل وشامل على أسلوب إدارة القطاع، فهو جزء من الأمن المصري، ولا أعتقد أن مصر ستسمح بسيطرة فصائل أصولية أو دينية، فهذا خط احمر أرجو ألا يحاول أحد تجاوزه. والواقع ان مصر على علاقة طيبة بالفصائل الفلسطينية كلها، بما في ذلك حماس والجهاد الاسلامي، لذلك فالفصائل تعرف التفكير المصري، وما هو ممكن أو غير ممكن. ولعل المصريين يدعون الى اجتماع عام للفصائل تحت اشرافهم. وإذا شئت أن أبحث عن ايجابيات، فقد أقول ان مصر مصممة على نجاح التجربة الفلسطينية في قطاع غزة لأن الفشل غير مقبول، وان قادة الفصائل الأساسية يعرفون التفكير المصري، ويتعاملون مع كبار المسؤولين المصريين في شكل مباشر، وان الجانب المصري مرتاح للتعامل مع عدد من كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين في القطاع. وربما زدت ان "الصلحة" بين الرئيس عرفات والأخ محمد دحلان ستقطع الطريق على كل محاولات الاصطياد في الماء العكر، خصوصاً من جانب حكومة شارون. أما السلبيات فلعل أخطرها رد الفعل، أو إذا شئنا الدقة، غياب رد الفعل الفلسطيني على إعلان شارون عزمه الانسحاب، وتلك "المؤامرة" التي تبرز في كل شيء فلسطيني أو عربي. تقضي الموضوعية أن أقول انني سمعت كلاماً خافتاً، وحدثني أصدقاء عن اجتماعات الا أن كل هذا يظل ضمن أضيق نطاق ممكن، ولا يرقى الى مستوى التحدي الاسرائيلي فيما لو جرى انسحاب فعلاً. والأمل الكبير عند شارون أن يقتتل الفلسطينيون في القطاع، وأن يقسم بين الميليشيات ليقول للأميركيين والعالم ان الفلسطينيين لا يصلحون لبناء دولة مستقلة، ويكمل تقسيم الضفة الغربية للقضاء نهائياً على عملية السلام. هل نرى قطاع غزة، وقد تحول الى سنغافورة، أو نراه وقد أصبح قندهار جديدة؟ الأمر بيد الفلسطينيين ولا أعذار.