يحتم التعامل مع ما يسمى ب "خطة شارون" في سياقها الواقعي وقد تجنى فائدة تحليلية أيضا من تأطيرها في إطار تاريخ أفكار "الفصل الديموغرافي" الاسرائيلية. ويمكن كتابة تاريخ التفكير الاسرائيلي ب"الحلول" من زاوية الفصل الديموغرافي. لقد كان إجلاء الفلسطينيين عن أراضيهم عام 1948 عملية فصل ديموغرافي لتحويل أقلية الى أغلبية وبناء دولة يهودية ديموقراطية في بلادٍ لم توجد فيها أغلبية يهودية. ويمكن تناول "اقتراحات الحلول" منذ اجلاء الفلسطينيين عام 1948 كأنها إقتراحات للفصل الديموغرافي" إقتراح آلون للتسوية مع الأردن بعد العام 1967 بالتخلص من المناطق الكثيفة السكان في الضفة الغربية، إقتراح "الأوتونوميا" الوارد في اتفاقيات السلام الاسرائيلية - المصرية، إتفاقات اوسلو، الاقتراحات التي وردت في كامب ديفيد، والآن ما يسمى بخطة شارون. ويدور النقاش بين هذه البرامج والمشاريع والأفكار حول حجم الأرض وعدد الفلسطينيين الذين يتم اقصاؤهم معها في إطار عملية الفصل للحفاظ على "يهودية الدولة وديموقراطيتها"... ليس في اسرائيل خلاف جدي حول هذا المبدأ، ولكن يستعر خلاف حول شروط الانفصال عن الفلسطينيين التي يمكن ابتزازها منهم ومن العرب. وكما هو معلوم اتهم باراك الفلسطينيين بغياب شريك لرزمة أفكاره بشأن الفصل بين اسرائيل والفلسطينيين. لقد طرح العرب في بيروت مبادرة سلام لا تتوقف عند مبدأ الفصل الديموغرافي، ولا تنطلق منه، بل تنطلق من ضرورة التوصل الى حل عادل قد تجد فيه اسرائيل انفصالاً ديموغرافياً عن الفلسطينيين كدافع لقبوله. ولكن هذا لم يشكل بحد ذاته هدف مبادرة السلام العربية ولا منطقها، وربما استحقت لذلك اسم "مبادرة سلام". فهدفها هو تحقيق السلام العادل بشروط يمكن العرب التعايش معها. ولكن الحكومة الاسرائيلية لم تبد اكتراثاً بشروط عريية للفصل الديموغرافي تشمل حق العودة. وجاءت خطة بوش المسماة ب"خريطة الطريق" لتستبدل مبادرة السلام العربية وتدفنها ولتبني عليها مبادرة بشروط أسهل لإسرائيل. ولكن حتى منطق "خريطة الطريق" بدا أكثر مما أن يقبل به اليمين الاسرائيلي، ولذلك لم تقبلها حكومة اسرائيل رغم كل محاولاتها تجنب الصدام مع أميركا، وقد منحها شارون قبولاً شفوياً، ليس قبل اشتراط القبول بأربعة عشر تحفظاً تفرغها من مضمونها. ويتضح للجميع ان شارون لم يقبلها فعلاً في يوم من الأيام، كما أن غالبية اليمين البرلماني المؤلف من نواب الليكود والمفدال والاتحاد الوطني لم تقبل بها. والآن تأتي مبادرة شارون في الواقع لكي تدفن "خريطة الطريق"، ولطرح أفكار لا علاقة لها ولمنطقها بالسلام، ولا بمبادرات السلام، بل بالفصل الديموغرافي. وفي الواقع تعني هذه الافكار تنفيذ خارطة آلون من جانب واحد، أي التحلي بالجرأة اللازمة لتنفيذها من جانب واحد، وذلك بالانسحاب من المناطق الفلسطينية المكتظة بالسكان والتي لن تكون تحت السيادة الاسرائيلية في "أي حل دائم" بلغة شارون من خطاب هرتسيليا، وتعزيز السيادة، أو على الأقل السيطرة الاسرائيلية على المناطق التي سوف تكون تحت سلطة اسرائيلية في "أي حل دائم" بلغة نفس الخطاب. سبق وقارّنا كلام شارون هذا ومنطقه الداخلي بكلامه ومنطقه من العام 1988. لقد أعلن شارون نيته الانسحاب من طرف واحد من مناطق خطة يغآل آلون عملياً من دون ان يسميها مؤكداً على قطاع غزة المفروغ منه اسرائيليا منذ فترة طويلةً. ولكن ما كان ينقص مقارنة بأفكار الثمانينات هو إقتراح ضم مناطق فلسطينية محتلة لاسرائيل من طرف واحد. وقد تبين من جديد أن لا جديد، إذ طفت على السطح هذه الأفكار أيضاً مرة أخرى، فقد طرح شارون في مفاوضاته مع اميركا امكاناً من هذا النوع. وتبين أن المفاوضات الحقيقية جارية بين اسرائيل والولاياتالمتحدة، وأن المفاوضات الجارية مع العرب هي مجرد "كاموفلاج"، تمويه، إذا صح التعبير. يدرك شارون أن العرب يحاولون تدفئة العلاقة معه لأسباب متعلقة برغبتهم إرضاء أمريكا في مرحلة يزداد فيها ابتزازها لهم على شكل مقترحات الشرق الأوسط الكبير وغيرها، وهم يحاولون تنفيس الضغط بتحسين العلاقة مع اسرائيل. ولذلك فهو لا يريد مكافأتهم بشيء على هذا التقرب المفاجىء، وبالعكس، قد يحاول استغلال هذه الحاجة العربية الرسمية للتقرب لإغراض الابتزاز. والمفاوضات الحقيقية الوحيدة تجري مع الولاياتالمتحدة. وهي تدور حول محورين أساسيين" أولاً، أن تقبل الولاياتالمتحدة أن بإمكانها إقناع ذاتها والعرب والعالم أن خطوات شارون هذه لا تتاقض بل تنسجم مع خارطة الطريق، مع أنها أحادية الجانب، ومع أنها تتم من دون مفاوضات، ولا حتى حول وقف إطلاق النار. واذا ساعد لقاء مع رئيس الحكومة الفلسطيني باظهار شارون بمظهر تطبيق خارطة الطريق فلا بأس، ولكن على الولاياتالمتحدة ان تعلن أن اسرائيل قد انسحبت من الاراضي التي احتلتها عام 1967 في حالة قطاع غزة. هذا بالنسبة الى الانسحاب من طرف واحد. فهو ليس انسحاباً من طرف واحد اذاً، بل خطوة يرغب شارون بتحصيل ثمن لها. أما بالنسبة الى تفريغ المستوطنات، فيحاول شارون أن يبتز من الولاياتالمتحدة اعترافاً، أو غض نظر على الاقل، عن قيامه بأمر خطير سبق ان لوح به لحكومة الوحدة الوطنية عام 1988، وهو ضم "مستوطنات" يرى الجميع بما فيها موقعي إعلان جنيف أنها ستكون تحت السيادة الاسرائيلية في أي حل ممكن. و"سيرتاح" شارون كثيراً في "صدامه" مع المستوطنين واليمين المتطرف إذا ضم مستوطنات قرب القدس الى اسرائيل مقابل تفريغ مستوطنات في غزة. واذا احتج الفلسطينيون فسوف يوجد من يذكرهم انهم وافقوا حتى مع يوسي بيلين ان هذه المستوطنانت ستكون تحت السيادة الاسرائيلية في اي حل دائم، حتى الحل مع يسار حزب العمل وميرتس. ربما يفهم اعتراضنا على اعلان جنيف في هذه الحالة أي حالة استخدام المزاج الذي يخلقه من قبل حكومة لا توافق عليه. وبالمجمل تعود خطة شارون مرةً أخرى إلى أفكار إنفصال ديموغرافي وضم مناطق إلى إسرائيل في الوقت ذاته. أفكار قديمة كما أسلفنا. في الوقت الذي يقوم فيه شارون بإجراء هذه الحملة والمقايضة مع اميركا من دون الإعتراف بالفلسطينيين كطرف حتى لغرض وقف اطلاق النار، يشغل الرجل العرب بأفكاره مع بداية كل شهر أو شهرين فينتقلون معه من رد فعل الى آخر، في حين ينفذ هو في الواقع خطة بمسارين" في حالة رفض أمريكا لخطته يكون قد كسب التسويف والتأجيل خلال ادارة الأزمة، وإما أن يتمكن من تطبيق أفكاره متجاوزاً مصاعب داخلية وخارجية، وذلك في أفضل الحالات بالنسبة اليه، ويكون قد ترك بصماته على شكل الحل الدائم، أو بمنع حل دائم غير مرغوب. وحتى عند ذلك سيختلف تطبيق أفكاره عن الأفكار ذاتها، للأفضل بالنسبة اليه وللأسوأ بالنسبة الى الفلسطينيين، لأن التطبيق أكثر واقعية، والواقع أكثر قرباً من موازين القوى من الكلام. لا يتابع شارون سياسات الاحتلال ابان وقبل وبعد التفوه بهذه الافكار فحسب، بل يصعد القمع في المناطق المحتلة. اجتياح تلو الآخر في غزة ترافقه تأكيدات العسكريين أنهم لن يتركوا مجالاً لتصويرهم كمهزومين، فهم ينتصرون في هذا الصراع يومياً. ولا نسمع أي تعليق على المستوى الحكومي الرسمي الاسرائيلي، وكأن هذه العمليات عسكرية بمنطق عسكري وهدف عسكري دون هدف او توجيه سياسي. ولا يتأخر الرد الفلسطيني في كل مرة. ويصمت شارون ومن حوله تماماً حول الهدف من هذه العلميات العسكرية الاسرائيلية المتكررة التي تناقض في ظاهرها الانسحاب من طرف واحد، وتنسجم معه في باطنها. يعرف شارون تمام المعرفة أنه لا يوجد شريك فلسطيني لعملية التخلص من "الخطر الديموغرافي الفلسطيني". فوجود شريك كهذا هو سخرية من التاريخ والجغرافيا ومجافاة للعقل والأخلاق. هنالك شريك فلسطيني لدولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران مع القدسالشرقية كعاصمة ومن دون استيطان، وقد يتم بصعوبة تسويق مثل هذا الحل. ولكن قباطنة اتفاقات اوسلو قد ضيعوا الفرصة عندما ضاعفوا الاستيطان في سنوات ازدهار هذا الخيار. ولا يوجد شريك اسرائيلي رسمي لمثل هذا الحل، ولا حتى في حزب العمل في السلطة. وشارون يعرف ذلك، ولذلك يطرح فرض حدود من جانب واحد مع استمرار الأزمة بدرجة تماس أقل مع الفلسطينيين، مع أنه يفضل بالطبع لو وجد طرف فلسطيني يقبل بالحل الاسرائيلي الذي تطرحه الحكومة الراهنة: دولة فلسطينية على 40 - 50 في المئة من الأرض، أي لا -دولة ، مجرد "باتستونات". والفرق برأيه هو فقط ان يتم تأمين التواصل الجغرافي لهذا البانتوستان من دون حواجز في داخله. ويؤمن هذا التواصل على حساب حجمه. فكلمت صغرت مساحته ازداد تواصلا، ولكما كبر ازداد عدد الطرق الالتفافية والمستوطنات التي تتخلله وتقطعه. لماذا يعتقد شارون ذلك؟ لإنه لا يرى أن دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران 67 تحل المشكلة الفلسطينية، وحتى لو كانت كذلك فإنه لا يقبل بحل يتطلب منه مواجهة كافة المستوطنين لإخراجهم من المناطق المحتلة عام 67. ولكنه أيضاً يرى أن اقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران لن تحل مشكلة الفلسطينيين لأنها لن تحل مشكلة اللاجئين ومسألة ويهودية الدولة وغيرها. ولذلك فإنه يؤمن ببساطة أنه لا حل للقضية الفلسطينية. ولذلك فإنه على المجتمع والدولة، على الشعب والقيادة في اسرائيل ايجاد المناعة الكافية للعيش معها غير محلولة عبر عملية ادارة أزمات، وادارة صراع طويلة المدى، وأهم عنصر في ادارة الصراع هو استخدام القوة بشكل ناجح وفعال، والحفاظ على العلاقة المميزة مع امريكا، وعدم قطع الصلة مع الرغبة بالسلام علنا، وغيرها. وقد يؤدي استخدام القوة بنجاعة إلى أن يرفع العرب أيديهم وبتخلوا عن استخدام القوة ضد اسرائيل. ولا يجدر مكافأتهم على ذلك برأي شارون، لأنهم يفعلون ذلك بسبب الردع الاسرائيلي. ولا يجب أن يمنح الفلسطينيون إلا السلطة مقابل إدارة السلطة. فنوع الفلسطينيين الذي قد يتعاون مع مثل هذه الاأفكار برأي أمثال شارون هو النوع الذي يقبل بالسلطة ذاتها كمقابل. من هذا المنظار يمكن إعتبار فك الإرتباط من طرف واحد عنصرا من عناصر ادارة الأزمة ومركباً من مركباتها. فإعادة الإنتشار من طرف واحد، من غزة مثلاً، هو أحد أشكال العيش مع القضية الفلسطينية دون حلها. إنه مجرد تطوير لأشكال العيش معها، تطوير نابع من التجربة والخطأ. * كاتب عربي.