فجأة طالعتنا الصحف بتصريحات الدكتور حسن الترابي، الزعيم السوداني الكبير، التي أعلن فيها "توبة" الحركة الإسلامية في السودان عن الانقلابات العسكرية، وقال "إنها زادت واقع السودان تعقيداً". ويبدو أن الرجل بعد مدة من الانزواء الإجباري، قد انتهز تلك الفرصة لإطلاق عدد من التصريحات التي ستعيننا من دون أدنى شك على أن نشرح للناس ماذا نعني بالإسلام الانقلابي. من بين تلك التصريحات ما ذكره عن الكيفية التي استخدموا بها الرئيس البشير كواجهة سياسية للتغطية على ما قاموا به، وعن علاقاته بصدام حسين، وكيف أنه كان يسمع منه ولا يطيعه، وعلاقته ببن لادن واستثمارات بن لادن في السودان. أننا نعتقد أن من المفيد أن يواصل الزعيم الانقلابي الإدلاء بتصريحاته، عملاً بالحكمة القائلة "تكلموا تُعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه". مذهب الترابي الانقلابي براغماتي يقوم على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، والغاية دائماً هي "وصول" هذه الجماعة التي اصطفت نفسها بنفسها من دون العالمين ووصفت نفسها بأنها هي الأهدى سبيلاً، ثم قررت أن تجعل من هذا الاصطفاء الذاتي مؤهلاً كافياً يرشحها لأن تعلو رؤوس العباد، كل العباد. المذهب الانقلابي يجيز المخادعة المتمثلة في الانقلاب على الشرعية الديموقراطية التي كانت قائمة في السودان، وعلى الأحزاب المتعاهدة في ما بينها على نبذ الانقلابات العسكرية. وهو ما لا يختلف في قليل أو كثير عن الملك العضود الذي جاء عبر الوسائل والأساليب نفسها. المذهب الانقلابي يجمع بين الترابي وصدام حسين على خلفية التلويح بالشعارات الإيمانية، وبناء المساجد الخرسانية، ومواجهة الهجمة الإمبريالية، ويتغافل عن العدالة والحرية وحقوق الإنسان والمقابر الجماعية والجمع بين النقيضين القمعي والإسلامي أمر ممكن، ومنه مصلحة تهون إلى جوارها كل مفسدة، بما فيها القمع والقهر واغتصاب حقوق البشر. لقد انطلق هذا التيار الانقلابي من قراءة مغلوطة للتاريخ أولاً وللذات ثانياً، وأخيراً للواقع المحيط بنا. ولا شك في أن من بين أخطر أخطاء هذه المدرسة القراءة توقفها عند نقطة انطلاقها المعاصرة في بداية القرن الماضي، بداية الصحوة المجتمعية الفكرية العامة، التي شهدت بزوغ نجم دعاة الإصلاح المعاصرين مثل الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم. واعتبرت المدرسة "الانقلابية" أن عدم تحقيق هؤلاء المفكرين لأهداف سياسية يعني، ببساطة، فشلاً ذريعاً ناجماً عن عدم لجوئهم لاستخدام القوة المسلحة من أجل تحقيق أهداف سياسية آنية، مثل إقامة حكومة. ولا شك في أن عاملاً آخر لا يقل خطورة عن هذا هو أن هذه المرحلة مثلت الحقبة الذهبية لظهور الحركات الفاشية والنازية والشيوعية، فتصور هؤلاء أن إضفاء كلمة "إسلامية" على تصورات سياسية أو حركية أو حزبية تستلهم تلك النماذج المذكورة يمكن أن يمنحها الشرعية اللازمة للتحرك الانقلابي. لم يكن هذا الطموح والاستلهام غائباً عن فكر مؤسس جماعة "الإخوان" في تلك الفترة عندما قال مستنهضاً همم أصحابه: "... من كان يصدق أن ذلك العامل الألماني هتلر يصل إلى ما وصل إليه من قوة النفوذ ونجاح الغاية؟" ص54 من "رسائل" حسن البنا. فتلك النماذج الانقلابية كانت مصدر وحي وإلهام للرجل الذي طالما بشر أصحابه بانتقالهم من حال الضعف إلى حال القوة، وتحقيقهم انتصاراً يهز أرجاء العالم، محتذياً في ذلك بالنموذج الهتلري الذي ملأ أركان قلبه وهز أعطاف فؤاده. إلا أن تلك الظروف العائدة الى النشأة وسمحت لهؤلاء وغيرهم بتأسيس ميليشيات مسلحة شبه علنية وإلقاء خطابات التلويح باستخدام القوة المسلحة في "الوقت الملائم"، والتحرك داخل الجيش بحرية، والتخطيط لانقلابات قد زالت وكان لا بد لها أن تزول لأسباب بديهية من بينها أن من تملك السلطة بالفعل، عبر تلك الوسائل، لا يمكن له أن يسمح لأحد بإعادة استخدامها ضده، خصوصاً لمن كانوا يوماً شركاءه في التآمر وممن يعلم هو حقيقة نياتهم. والأهم من هذا أن الظروف التي سمحت لهم باختراق المؤسسة العسكرية ومكنتهم من تدبير ما قاموا به من انقلابات، لم تعد ممكنة الآن بعد ثورة الاتصالات، وتطور أجهزة التجسس والتنصت، وبعد أن أثبت هذا المشروع الانقلابي العسكري أنه الطريق الأقصر لخراب الأمم، أو كما قال الترابي: "ولو كان هذا باسم الدين". ولذا فنحن نعتقد أن توبة الشيخ عن الانقلابات ليست توبة قدر ما هي خيبة، خيبة أمل من ضياع فرصة لا يمكن أن تتكرر أو تعود. ان أي قراءة متأنية للتاريخ الإسلامي تقول إن مشكلات الأمة وأزماتها عميقة عمق تاريخها نفسه، وأن قوى الفساد والخراب والقمع كانت لها اليد الطولى. ثم نشأت نظرية التآمر الأجنبي، الإمبريالي الأميركي، وحتمت رص الصفوف من أجل مواجهته بين الفريقين الترابي والصدامي، وكمّ الأصوات المطالبة بالإصلاح الديموقراطي والفكري، باعتبار ألا صوت يعلو فوق صوت "المعركة". وهو عين ما كرره الرجل في تصريحاته المدهشة والتي برأ فيها أسامة بن لادن من مسؤولية الحادي عشر من أيلول سبتمبر. وأخيراً تأتي القراءة المغلوطة للذات من قبل رموز تلك المدرسة التي تنسب لنفسها كل خير، وترى في الآخرين إما أعداء للإسلام والمسلمين أو مجرد حلفاء محتملين، وليسوا شركاء أصليين في تقرير مصير أمتهم، والمشاركة في بناء نهضتها. وإن كنا لا نحبذ التقسيمات أو التصنيفات، إلا أنه من الضروري أن نشدد على القيم السامية التي يتضمنها ديننا العظيم، والتي تجعل من نصرة المظلوم ومقاومة الظالم الفصل في الأمور كلها. وكما قال رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِع". والسعي لتأسيس العدل، والمساواة بين البشر، قيمة حاكمة تعلو فوق كل اعتبار. والأمر كله لا يحتاج إلى تأسيس جماعة، أو لتدبير انقلاب، بل يحتاج إلى مجتمع يقظ واع يؤسس لمراقبة النظم الحاكمة. إذ كيف يمكن أن نصدق أن سلب إرادة البشر، وحقهم في الاختيار من طريق الانقلاب والتآمر، هو الكفيل بتحقيق العدل والرحمة والحقوق المتبادلة والديموقراطية، إلا إذا كان هذا على الطريقة الصدامية؟ مصر - أحمد راسم النفيس