لو أن قومي استبانوا النصح... ولكن كيف ينتصحون وكلهم غير عقلاء؟! أليس مستحيلاً العثور على عاقل وسط شرذمة من المجانين؟ تلك هي محنة الباحث عمن يستطيع أن يعيره أذناً للحديث بما قد يراه حلاً لأزمة السودان، التي استحكمت وضاقت حلقاتها حتى غلب على السودانيين أنها لن تُفرج. والأشد بعثاً للأسى في النفس أن ذلك الاقتناع ذهب بكثرتهم الغالبة إلى أن ما أُخذ بالقوة لن يسترد بغيرها، وأن دعاوى الحوار، وما تم استيلاده من واجهات لها، كالإجماع الوطني، ووحدة الجبهة الداخلية، ورص الصفوف، لا تعدو أن تكون إضاعة للوقت، وسراباً لن يتحقق، وأن من أراد الحرية من السودانيين فليقاتل من أجلها. ومن أراد الديموقراطية عليه أن يضحّي، وإن بدمه، من أجلها. حتى في أوساط السودانيين في المهاجر، أخذت تعلو نغمة التضحية والفداء. وأضحى كثيرون يجاهرون باستعدادهم لفداء الوطن بالروح والدم والموت النبيل. وهو موقف يثير الحيرة في النفوس: تود لو أنك تفاخر به العالمين، وتخشى في الوقت نفسه- إن أنت فعلت - أن ينبجس ينبوع الدم سنوات وعقوداً. والعيب ليس في السودانيين الذين تحوّل مزاجهم إلى تحدي القوة الفاسقة بقوة لا تتزلزل. هو في الفئة الباغية التي فتحت على نفسها جبهات جحيم في كل الأنحاء. ظلّ التخبط السياسي ديدن قرارات المحفل الخماسي وخياراته. لم يكسب أبطال الحركة الإسلامية معركة الحرب الأهلية التي استمرت 20 عاماً، حتى بعدما حولوها جهاداً ضد الأفارقة الكفار، بل خسروا قرارهم السياسي والسيادي، فوقّعوا اتفاق سلام مذلاً ومهيناً من دون إرادة 90 في المئة من السودانيين. وفي سياق التنازلات و»التركيع» داخل غرف المفاوضات المغلقة تخلّوا عن وحدة السودان، ووهبوا ثرواته الطبيعية، وبلغ بهم الإذلال والضغوط مبلغ التنازل طوعاً عن ثلاث مناطق حيوية ظلت منذ استقلال البلاد من بريطانيا، في أول كانون الثاني (يناير) 1956، تتبع السودان الشمالي، الذي لن يتوقف تفتيته على ذهاب الجنوب، بل سيتلوه الغرب (دارفور)، ثم الشرق ولو بعد حين. لكن ثمة خياراً هو الوحيد الذي يمكن أن يبشّر ببارقة أمل في حل: أن يتنحى الرئيس عمر البشير في إطار التحول الديموقراطي الذي يتشدق المحفل الخماسي بقبوله. السودانيون موقنون أن الجنوب ماضٍ إلى استقلال، مهما حسنت نيات الشعبين الشمال والجنوبي. وكثيرون من هؤلاء على يقين أيضاً بأن تعنت المحفل الخماسي الذي اختطف اسم السودان ودولته وثرواته لم يترك أمام الحركة الشعبية الجنوبية خياراً سوى الطلاق. والأشد مرارة أنهم باتوا أكثر تقبلاً للاحتمالات التي ترجّح ذهاب دارفور وكردفان الكبرى في التسوية الآتية لنزاع دارفور. سيتراجع السودان الذي لا يزال حتى الآن يتمتع بصفة أكبر دولة مساحة في أفريقيا والعالم العربي، بعد ذهاب أي شبر منه لينحسر قريباً من الشريط المحاذي للنيل في شمال الشمال نفسه. لن تمنع التبعات الكارثية الجسيمة لسياسات المحفل الخماسي السودانيين من مواصلة صناعة الامتزاج والتحاب، لكن الجغرافيا الجديدة لدولة أقل مساحة، ستجعلها وطناً أشد توتراً وحشداً وتحفزاً للقتال والتآمر واستدعاء نغمة الدين المسيّس لحشد جديد. وهو قطعاً ليس السودان الذي تحلم به غالبية أبناء الشمال الذين يريدون مركزاً جاذباً للسودانيين كافة، تتساوى فيه حقوقهم بمثلما تتعدد سحناتهم وألسنتهم وأديانهم وأعرافهم. مثل هذا السودان لن يسمح استمرار حكم محفل الشريعة المسيّسة بتحققه. والخوف حقاً أن يتحول بؤرة من الفوضى وحروب العصابات، وملاذاً آمناً لجماعة «القاعدة» التي خطط أسامة بن لادن قيامها في السودان، بتخطيط وتآمر مع القيادات الأمنية والسياسية لهذا المحفل الشرير، الذي أكد خطاب البشير في كسلا (19/12/2010) أن التطرف الديني عقيدته، والإقصاء ديدنه، والتطهير العرقي غايته. لأن يذهب البشير خير من أن يبقى ليتعذب ملايين السودانيين، وملايين من شعوب دول الجوار، وملايين من العرب والمسلمين والغربيين الذين يقض مضاجعهم احتمال عودة «القاعدة» إلى أحضان إسلامويي السودان. ولأن يذهب بقراره واختياره أفضل من النتيجة الحتمية التي تقول إنه مهما طال عناده، فإن مآله الالتحاق بمحكمة الجنايات الدولية، أسوة بتشارلز تايلور وسلوبودان ميلوسيفيتش. ولأن يذهب الآن أفضل من أن يذهب بعدما يأتي يوم يقال فيه إنه الرئيس الذي تشظى السودان في عهده. ولأن يخرج اليوم أفضل من أوان يكتشف فيه أن سلطته على السودان تلاشت، وأنه وأتباع محفله سيصبحون مجرد «كانتون» في رقعة تسودها الحروب الأهلية والثورات، وتحكمها شريعة الغاب. كثيرون أسدوا له النصح وقت ما سموه ب «المفاصلة» بين شيخ الحركة وتلاميذه بأن يخرج إلى الشعب معلناً أنه يمثل الفئات جميعاً، ولا ينتمي لحزب غير حزب الشعب. قيل للرجل آنذاك إن عفوية السودانيين وتقديرهم لحكمة الرجال وعقولهم ستدفعهم إلى الخروج بمئات الآلاف لتأييدك، وحمايتك من مؤامرات الإخوان المتأسلمين والحركة الإسلامية الممقوتة. ما استبان الرجل النصح. خرج مما عرف ب «حكومة الرأسين» (البشير/ الترابي)، إلى نسخة ثانية منها (البشير/ علي عثمان)، ومنها إلى «حكومة الرؤوس الخمسة» التي ألقت بالسودان ووحدته في التهلكة. ونصحه عدد من رجال القانون والسياسة بأن يتنازل عن الحكم، ليدفع عن نفسه التهم التي يتمسّك بأنها أُلصقت به جوراً وبهتاناً وتآمراً سياسياً. هل الشجاعة هي أن يجيد فن البقاء في القصر الرئاسي حتى لو أدى ذلك إلى تفتت السودان، واقتتال أهله بعضهم ضد بعض؟ هل سيضمن له التشبث بالحكم إسقاط الاتهامات الجنائية الدولية التي تلاحقه؟ أنت تعرف شعب بلادك - سيدي الرئيس. إذا كان الأمر منطق وقوف بوجه القوة والترهيب والاستئثار والظلم، فلقد نهضوا بوجه العثمانيين والمصريين والبريطانيين والجنرالات. وإذا كان الأمر منطق استغفالٍ وتذاكٍ، فقد بلغ السيل الزبى، والمواجهة التي لن تُبقي ولن تَذر آتيةٌ لا ريب. ستتحول الخرطوم مقديشو جديدة! غداً تتقزم قوات الأمن الحكومية لتضحي مجرد ميليشيا، تقاتل مئات الميلشيات القبلية والحزبية والعشائرية. يا خوف فؤادي من غدٍ. * صحافي من أسرة «الحياة». [email protected]