هناك من يقارن الروائي الإنكليزي جوليان بارنس بالإيطالي إيتالو كالفينو. وينهض وجه المقارنة في التنمط الكتابي. فمثل كالفينو يعمد بارنس إلى الخوض في كتابة إشكالية تنأى عن الأشكال السردية المألوفة. في نصه الروائي دخول إلى الباحات الخلفية للكتابة حيث تتجمهر أسئلة حول الكتابة ذاتها. هناك يواجه النص نفسه بنفسه ويتفرس في ملامحه في مرآة الكلمات. الرواية، أو القصة، ذريعة لسرد روايات وقصص أخرى غير تلك التي يزعم الكاتب عقد حبكتها. وهي، في الوقت نفسه، فسحة من الحرية تُستعرض فيها الرغبة في قول أشياء لا يسع قولها في مكان آخر. وفي رأي بارنس أن القصة التي يدونها الكاتب على الورق تمثل زبدة القصص التي تتحرك وتتدافع من حوله. إنها القصة العليا تمييزاً لها عن القصص الدنيا الجارية في كل يوم. روايته الجديدة المعنونة "حب... إلخ"، الصادرة عن دار "فانتاج" في لندن هي تمرين في هذا المفهوم الكتابي. إنه نص يتأمل في نسج خطوط قصة عليا تتبلور على سطح قصص كثيرة متناثرة. القصة العليا تكثيف. خلاصة تأملات في الطريقة التي نعالج بها أمور حياتنا، أي الطريقة التي نقص بها حكاية وجودنا. تأملات في العيش والصداقة والذاكرة والزمن وتبدل الأحوال. كتاب صغير من شخصيات محدودة تروي فيها ملاحظاتها وتدوِّن آراءها في مصادفات المواجهة اليومية مع الآخرين. يكتب بارنس بحيادية تكاد تكون رياضية. هو يبدو كما لو أنه شخص آخر لا علاقة له بالأشياء التي يقولها. يكتب كأنه يصنع أشكالاً تجريدية تعلو فوق ما هو محسوس. هذه حكاية ثلاث شخصيات رئيسة: ستيوارت، جوليان، وأوليفر. جوليان زوجة ستيوارت، وأوليفر صديقه. زواج ناجح وصداقة متينة. ويسري الزمن. ولكن مهمة الزمن هي التغيير والإدهاش. يقع أوليفر في غرام جوليان. يحتويهما عشق مفاجئ. يتزوجان. هكذا يتحطم زواج ستيوارت من جوليان وتتحطم صداقته مع أوليفر. بهدوء ينسحب ستيوارت ويسافر إلى الولاياتالمتحدة. ينخرط في التجارة. ينجح في عمله. يتزوج. لم تراوده الرغبة في الانتقام من زوجته أو صديقه. غادرهما وفي أعماقه بقايا حب وصداقة. لا يكتب بارنس الرواية كما هو معتاد: أن يعمد الروائي إلى السرد في صيغة الغائب أو أن تقوم بذلك إحدى شخصيات الرواية في صيغة المتكلم. تعمد شخصيات الرواية كلها إلى التكلم مباشرة في تماس مباشر مع القارئ. كما هي الحال في نص مسرحي تقوم كل شخصية بأداء دورها: تتكلم، تفصح عن أفكارها ومشاعرها وتشرح مواقفها. ولكن النص ليس مسرحية. ليس ثمة حوار بين الشخصيات. إنها لا تتبادل الكلام مع بعضها بعضاً، بل هي تخاطب القارئ. كل شخصية تتحدث عن الشخصيات الأخرى وتروي الأحداث من وجهة نظرها. هكذا تمضي القصة فتتكامل وتتشعب بالإضافات التي تهيئها الشخصيات في سردها الخاص للحكاية. ليس ثمة راو يتدخل ليصف الشخصيات أو ليبدي تعليقاً أو ملاحظة. العلاقة فورية مع القارئ من دون تدخل طرف ثالث. ولهذا، فإن استجابة القارئ تأتي فورية بدورها من دون انتظار رأي السارد. هناك إحساس بحدوث لقاء فعلي بينه وبين شخصيات الرواية. يصعب الانحياز إلى وجهة نظر محددة. تكبر الشخصيات مع الزمن. تتبدل قناعاتها ومشاعرها ومواقفها من الأشياء. تصير أكثر مرونة وانفتاحاً وتسامحاً. تتخلى عن المواقف المسبقة والتقويم الجازم. في الوقت نفسه تتبدل ملامحها الجسدية من وطأة الزمن عليها. الثقة هي جذر الخيانة. يقول ستيوارت ذلك لأنه كان تعرض للخيانة من أكثر الناس موضعاً لثقته. زوجته وصديقه. ولكن، هل حقاً كانت فعلة الزوجة والصديق خيانة؟ ثمة إعادة نظر في التوصيفات. قراءة جديدة لقاموس العلاقات. تبدي كل شخصية رأيها في الوقائع. الحال أن ستيوارت يعود من الولاياتالمتحدة. يتصل بأوليفر. يلتقي الإثنان. يتحدثان. يشربان معاً. ثم تعود العلاقة شيئاً فشيئاً. جوليان تلتقي بستيوارت من جديد كأن شيئاً لم يكن. لم يكن ممكناً حدوث ذلك قبل سنوات. كانت النفوس مستفزة آنذاك وكان كل طرف ينظر إلى الآخر كعدو آثم. كان ستيوارت يعتبر نفسه ضحية خيانة مدمرة. فالخيانة، في رأيه، لا تأتي إلا من الأشخاص الذين تحبهم. من يخونك هو من تثق به وتحبه. لو أن شخصاً يكرهك وتكرهه ولجأ إلى الإتيان بعمل سيئ لما كان ذلك أمراً مفاجئاً. لو أن روسيا هاجمت أميركا لما اعتبر ذلك خيانة. فالعداوة راسخة. ولكن الخيانة تنهض حين تتفكك الوشائج الحميمة التي تربط النفوس معاً في الحب والصداقة. ولكن العلاقة ترجع فتترسخ بين ستيوارت وجوليان وتكتشف جوليان أنها لم تكن تحب أوليفر من أعماقها. لم يكن شغفها به حباً. كان شيئاً آخر دفعها إلى الاقتران به والتخلي عن ستيوارت. يكتشف أوليفر، بدوره، أن حبه لجوليان كان مجرد نزوع أناني ورغبة في إيذاء صديقه. وستيوارت نفسه، الذي كان تزوج وأنجب أولاداً في الولاياتالمتحدة، يدرك أنه لم يستطع أن يكف عن حب جوليان لحظة واحدة. كما أنه لم يشعر يوماً بالحنق على صديقه أوليفر. هكذا تبدو الحياة، على الأقل في المدى الذي تشغله هذه الشخصيات، سيرورة دائرية تعالج العقبات التي تظهر في طريقها. تبدو شخصيات الرواية وكأنها تمارس لعبة مسلية. ثمة من يربح وآخر يخسر. ولكن العجلة تدور فتنقلب الأحوال وتعود الحظوظ لتبدل المواقع. وفي هذه الأثناء يكسب كل واحد قدراً أكبر من الثقة بالنفس ويراكم المقدرة على النفاذ إلى باطن الأشياء. تتكلم الشخصيات بالتناوب. وهي في الواقع تتكلم لنفسها في مونولوج لا يفضحه سوى الخطاب الموجه إلى القارئ. الكلام يقوم مقام الحوادث. لا تحيط الرواية بالحوادث، بل هي تروي انقضاءها وتفصح عن آثارها. الرواية، والحال هذه، ليست قصاً أو سرداً حكائياً بل هي دفق كلام يأتي في أعقاب الوقائع. وقيام الشخصيات بالإفصاح عن دواخلها وسرد مجريات حياتها وتشابكها مع حياة الآخرين يهيئ النص ليكون فضاء تنكشف فيه الوقائع وتنعقد حبكتها كما لو كانت رواية تجرى فصولها الآن. ذلك أسلوب جميل يبتكره جوليان بارنس في روايته. ولكنه ابتكار يستند إلى تجربة كتابية غنية تستقر على تسع روايات أشهرها: "ببغاء فلوبير" و"رسائل من لندن". وفي الأحوال جميعاً ثمة مساحة كبيرة للتأمل والتنظير والسخرية السرية من الأشياء. تعج الرواية بالأفكار. من الأفكار وبحسب تطلع العواطف والانفعالات وتترك آثاراً لا تمحى على النفس. داخل الرواية تتوالى الأحاديث عن كل شيء: عن الوجود والناس والسعادة والموت وتفاهات العيش. وفي سياق ذلك تتحدث الرواية عن نفسها، عن الرواية بصفتها حياة أخرى تعج بالناس والوقائع والعواطف ولكن عن الرواية بصفتها فناً كتابياً أيضاً. كتابة عن الكتابة ونص داخل النص. يقول أوليفر ان ما يهم في الرواية ليس موضوعها أو المحيط الاجتماعي لشخصياتها. ما يهم هو طريقة الكتابة. ذلك أن الرواية فن يتطلب رؤية حاذقة وصنعة ومهارة وقدرة فائقة على صوغ العناصر في نسج هارموني دقيق. والفن وحده يستطيع أن يجعل من قصة قملة عملاً أرقى بكثير من تاريخ الإسكندر الكبير. يبدو الروائي جوليان بارنس كما لو أنه يخوض غمار مغامرة في تحدي المجهول. ففي كل رواية ثمة إصرار على الإتيان بشيء جديد غير مسبوق. إنه يضع نصب عينيه أن يجعل النص الروائي بقعة تتجاور فيها اللعبة والتأمل والمتعة والدهشة. هو يفلح في المغامرة. روايته الأخيرة هذه تبدو مثل فصل آخر في رواية طويلة. هي بالأحرى بمثابة تتمة لرواية سابقة بعنوان: "مناقشة الموضوع". كانت الشخصيات آنذاك في مقتبل العمر وكانت تثرثر عن كل شيء ولم تكن تأخذ على عاتقها الاكتراث بما ينتظرها من صدمات العيش.