في ثمانينات القرن الماضي كانت دوبرافكا أوغريشيش إحدى أبرز كاتبات يوغوسلافيا. اشتهرت، أكثر من أي شيء آخر، بابتكارها نوعاً من النص الأدبي تجتمع فيه معاً شذرات من كتب متداولة وفقرات من مجلات وحكايات من كتب الأطفال ونصوص قصصية وروائية لكتاب آخرين مع نصها الخاص في توليفة سردية أطلقت عليها اسم «القصة المرتقة» أو «القصة المرقطة». كانت تتمتع بمكانة وشهرة رفيعتين في يوغوسلافيا التي ارتبطت بها بعلاقة عاطفية حميمة. غير أن البلد انهار وتناثر وتحول إلى أجزاء مبعثرة ووجدت دوبرافكا نفسها تائهة وسط كومة من البلاد الجديدة التي بزغت فجأة. لم تشعر بالانتماء إلى أي من البلدان الجديدة هي التي كانت ولدت عام 1949 في زغرب، عاصمة كرواتيا. لم ترد أن تنتمي إلى أي بلد باستثناء يوغوسلافيا ولهذا رفضت أن تتماهى مع الهويات الجديدة. عندما أرادت الحصول على بطاقة هوية وقفت في الدور أمام مكتب السجل المدني في زغرب. حين سألها الموظف عن قوميتها ارتبكت ثم قالت بحزم: من دون قومية. وظن من كان واقفاً في الصف معها أنها قد تكون غجرية. الحرب الفتاكة التي التهمت الجسد اليوغوسلافي أحرقت الفرح في أعماق دوبرافكا وتركتها كائناً مهشماً على قارعة اليأس. كتبت نصوصاً «مرقطة» جديدة ولكنها استعملت هذه المرة خرقاً من الوثائق الحربية والبيانات الرسمية والحكايات الشخصية لضحايا العنف الرهيب الذي اجتاح البلاد طولاً وعرضاً. تبدلت الحياة اليومية من حولها وأضحت خطيرة. صارت شيئاً لا يطاق بالنسبة لها على المستويين الأخلاقي والمعيشي. بدأت تحتج بشكل عفوي ومن دون سابق إنذار. حاولت أن تستعمل النص الأدبي كسلاح أخير لمقاومة العصبيات القومية والكراهيات الإثنية التي اجتاحت النفوس وجعلت الجار يقتل جاره والصديق يفتك بصديقه من أجل لا شيء. وحين رأت أن الأدب عاجز عن فعل شيء فوري يمكن أن ينقذ ما تبقى من روح لجأت إلى كتابة مقالات سياسية وسجالات فكرية نشرتها في كتاب حمل عنواناً صارخاً: «ثقافة الكذب». تغيرت نبرة الكتابة، لونها، متنها، غير أنها بقيت كما هي من حيث سيادة الروح الأدبية المتوثبة. غير أن البربرية كانت تتقدم وتطيح بكل شيء حي فآثرت دوبروفكا مغادرة موطنها ولجأت إلى هولندا واستقرت في أمستردام لتكتب مأساة بلدها الذي لم يعد موجوداً. تصر دوبروفكا على التعريف بنفسها ككاتبة «من يوغوسلافيا السابقة» وتتجنب ما أمكن أن تحشر في قفص الهويات القومية والإثنية. فيوغوسلافيا اسم عابر للقوميات والإثنيات والشعوب. إنها اسم مكان لا اسم قوم. غير أن لصقة الهوية تلاحقها كلعنة قدرية. في الخارج يصنفونها كاتبة كرواتية وفي كرواتيا يعتبرونها خائنة كرواتيا. تحمل ذاكرة تعج بصور التعايش القومي والتنوع الثقافي والديني والإثني لبلد كان، في نظرها، بستاناً من الزهور الملونة. هي ترفض تسمية «كاتبة في المنفى»، فالتحدي لا يقوم في أن يكون البلد موطناً للكاتب أو لا يكون بل في أن تكون كتابته أصيلة ومبدعة أو لا تكون. وهذا هو بالضبط موضوع كتابها الأخير المعنون «ممنوع القراءة» والذي هو مجموعة مقالات متنوعة عن الكتابة والتواصل الثقافي والقراءة في هذا العصر الذي يخضع أكثر فأكثر لمعايير بعيدة عن روح الكتب قريبة أكثر لطغيان الحديث السهل العابر القادم على شاشة النت. يعد النص الخلاسي، المطعم بأكثر من مذاق والعائد لأكثر من نسب، شغلاً شاغلاً بالنسبة لدوبرافكا. كل كتاباتها هي نصوص متمردة على ذاتها. نصوص قلقة، محيرة لا تقبل الانتماء إلى جنس أدبي أو أفق ثقافي محدد. يمكن القول إن ما تكتبه يتخطى التصنيف ولا يستطيع المرء تعقب السلالة الكتابية التي ينحدر منها. تظل الكاتبة تتحرى أصل الكتابة وفصلها وتسعى في توليد أجناس هجينة باستمرار، فالنص الناجز، الواضح، النهائي، هو نص ميت. رواية «قصة حب» هي غوص في حفريات الكتابة القصصية سعياً وراء جنية السرد القصصي التي كانت أطلقت العنان للكلمات كي تحلق بعيداً عن القصد الأولي للكلام. تقول الكاتبة إنها انطلقت من فكرة كان عبر عنها غابرييل غارسيا ماركيز ومفادها أن الأدباء يكتبون لكي يحبهم الناس. حب الذات هي ببساطة قصة الحب الأساسية التي تختبئ خلف كل القصص. نحن نتكلم ونروي القصص ونسرد الحكايات وندون الوقائع الغريبة والمرويات العجيبة لا لشيء إلا لأننا نريد أن نكون محبوبين. القصة ذات طابع شهرزادي. تتولى السرد امرأة تحاول أن تجذب شاباً يدعى بوبليك وهو كاتب أدبي معتد بنفسه. ولكي ترضيه تأتي إليه بوقائع من سيرة حياتها علها توقعه في شباكها. بوبليك مولع بالأدب وهو يشعر بالحزن لأنه، أي الأدب، يحتضر. ولكي تتمكن المرأة من السيطرة عليه وإعادة الفرح إليه يترتب عليها أن تبين أن الأدب لا يموت بل هو خالد رغم ما يحيق به من أخطار. وهي تسعى في أن تهيئ نفسها كبديل جميل للأدب. غير أن بوبليك يبدو ميالاً إلى التأمل في مصير الأدب أكثر من ميله إلى الاكتراث بإغراءات المرأة. خائبة، حانقة، لا ترى المرأة من سبيل سوى التخلي عنه وتركه في حال سبيله. إنها بارادويا أدبية تحاكي العجز الذي يسيطر على الشاب، في الواقع، مقابل انخراط وهمي، نظري، في الكلام. «الحياة هي حكاية خرافية»، هي مجموعة قصصية ثيمتها الأساسية أن الأعمال الأدبية العظيمة لا تكون عظيمة إلا لأنها لا تكف عن استدراج القراء وتحريضهم على التأمل والتفكير في أحوال البشر عبر حكايات تتأسس على ما هو متخيل. الأعمال الكبيرة تستفز القارئ وتحثه على إعادة كتابة النص بمقاربة جديدة. القراءة تصير مشروعاً أبدياً لكتابة مستمرة لا نهاية لها. كأن الكاتبة تستعيد الأطروحة البورخيسية عن الكتاب الوحيد الذي ما ننفك نكتبه أو أنها ترسخ المقولة مابعد الحداثية عن الأدب بوصفه حواراً متكرراً مع الماضي. في المجموعة القصصية إحالات إلى نصوص مثل الأنف لغوغول وبطل من هذا الزمان لليرمنتوف وأليس في بلاد العجائب وحكايات دانييل هارمس وسوى ذلك. ثمة تلاعب مدهش بالأنواع الأدبية وقفز مقصود من جنس كتابي إلى جنس آخر في سيمفونية نصية متداخلة تشتبك مع نفسها من دون توقف. دوبرافكا تشبه نصها من حيث إنها لا تنتمي إلى جهة بعينها. ليس لأنها ترفض ذلك بالأساس بل لأنها، في أرض الواقع، تنحدر من أنساب متنوعة شكلت أسرة ما برحت تنتقل بين جهات مختلفة وتتوزع على شعوب وقبائل متنافرة. أمها بلغارية. وهي قضت طفولتها على ساحل البحر الأسود. ثم إنها درست الأدب الروسي وعاشت بعض الوقت في روسيا السوفياتية. بعد ذلك انتقلت إلى الولاياتالمتحدة. تتقن البلغارية والروسية والإنكليزية والصربو - كرواتية. النزعة القومية هي أكثر شيء تكرهه دوبرافكا وهي تشاطر زميلها الصربي، الكاتب دانيلو كيش، الرأي في أن التعصب القومي ليس أكثر من سم زعاف يدخل إلى النفوس ويدمرها. من ليس معنا هو ضدنا، هذا هو شعار القوميين المخيف. هو شعار عقائدي لا يختلف في شيء عن شعارات لينين في أن من لم يكن مع البلاشفة هو ضدهم أو شعار هتلر في أن من لا يتفق مع النازية هو عدوها. غير أن الهوية القومية والتراث القومي والتقاليد القومية وأشياء كهذه تعد جنة العاجزين عن امتلاك مخيلة ترفض الوقوف عند تخوم الواقع. البليدون والكسالى والجاهلون والمنافقون يجدون في الخيمة القومية الملجأ الدافئ الذي يقيهم ضراوة التفكير النقدي وقساوة الإبداع البشري. الكسل العقلي هو ملاذ القوميين. غير أنه كسل قاتل. فلكي ترتاح نفوسهم من الأسئلة القلقة عن الأفق الإنساني الرحب لا يجدون غضاضة في أن يستأصلوا كل من يقف في وجههم ويذكرهم بدناءة نفوسهم. الآخر المختلف قومياً وثقافياً ودينياً هو الضحية النموذجية للوحوش القومية. بالنسبة لهؤلاء ليس ثمة ما هو ألذ من إزالة هذا الآخر المختلف. هي لذة السيطرة على من نعتبره غريباً لأنه لا يتكلم مثلنا. الأخطر من القضاء الفيزيائي على الأجساد هو الاغتيال الشنيع للذاكرة المركبة التي تصنعها الجماعات المختلفة. القوميون لا يستسيغون التعدد بل هم يعبدون الوحدانية: وحدانية الأمة الواحدة والشعب الواحد واللغة الواحدة. ما عدا ذلك هرطقات غريبة على أسماعهم. روايتها الأخيرة «متحف الاستسلام غير المشروط»، يبدأ بوصف الأشياء التي يتم العثور عليها في بطن حصان بحري عملاق يدعى رولاند: ولاعة سجائر زهرية اللون، كيس بلاستيكي صغير فيه دبابيس وخيوط، حذاء طفل، ورق لعب، صور حفلات وسوى ذلك. كأن الأمر يتعلق بمتحف يصون أشياء ذات علاقة بالذاكرة الحميمة للشخص البسيط الذي داهمته الحرب. ومحتويات بطن رولاند هي بالضبط الأشياء التي لا تريد الكاتبة أن تفلت من ذاكرتها. روايتها هي متحفها الذي يحفظ أشياءها الفريدة الصغيرة الحنون الحميمة التي تناثرت في الجهات كلها وعصفت بها ريح التقاتل الدموي الرهيب. قصص وروايات ومقالات دوبروفكا هي مونولوغ طويل، بصوت عال، مع الذات، عن الزمن والحب والكره والموت، تذرف عبر سطورها دموعاً سخية في بكاء نوستالجي على أطلال يوغسلافيا التي تهشمت قبل أن تنهار وتختفي مرة وإلى الأبد. هل تشتاق إلى ذلك البلد الذي اختفى؟ تشتاق؟ بل إنها تشعر بالغضب. ولكي تروض هذا الغضب الأسطوري الذي يغلي في أعماقها فإنها تعيد إحياء ذلك البلد في مخيلتها في كل لحظة.