سوف يمر وقت طويل، يا أبا سيما، قبل ان أصدق، أصدق حقاً، أني لن أراك، وانك لن تراني... سوف يمر وقت طويل، يا أبا سيما، قبل أن أصدق، أصدق حقاً، أنك مت... هل تذكر بيتك الأثير: كأن لم يكن بين الحجون الى الصفا أنيسٌ... ولم يسمر بمكة سامرُ هل تذكر كم مرة قلت لك ما قاله الشاعر القديم: إذا ما أتى يومٌ يفرق بيننا بموتٍ... فكن أنت الذي تتأخر؟ وكم مرة قلت لي: بل كن أنت!... وهل تذكر كم مرة "ذاق كلانا ثكل صاحبه قِدما"؟ وشاء الأجل ان تتقدم أنت... وان أتأخر أنا... ان أكون الذي يتجرع كأس الثكل... وثكل الصديق أقسى من أي ثكل آخر... الصديق الذي كان بحجم الحياة... يملأ الحياة بالحياة... كنت تنفر، يا أبا سيما، من الموت... كنت تنفر من حديث الموت... واعجباه! لماذا، إذن، قلت لي قبل رحيلك بليال خمس انك ستموت قرير العين بعد ان "دبرت شؤون البنات"؟! ولماذا كنت، ليلتها، سعيداً كما لم أرك سعيداً منذ سنوات؟! سيكتب الكثيرون، يا أبا سيما، عنك الكثير... سيكتبون عما قدمت لوطنك، ولخليجك، عبر نصف قرن من الخدمة الدائبة... سيشيرون الى بصماتك على مئة مشروع... ومشروع... سيختلفون فيك بعد موتك... كما اختلفوا فيك قبل موتك... كأنك تآمرت مع الحياة على ان تبقى حياً بعد الموت... تبقى ابتسامة تطير مع "طيران الخليج"... وفكرة تحوم على مصاهر "ألبا"... ونسمة تداعب "جسر الملك فهد"... تبقى هنا... وهنا... وهنا! وهناك... وهناك... وهناك! هذا كله للناس كلهم، يا أبا سيما، يتفقون ويختلفون عليه... وعليك... أما أنا، يا أبا سيما، ففي أعماق روحي مملكة شاسعة... شاسعة... اسمها "مملكة الشيراوي"... لا يدخلها غيرك... وغيري... مملكة تسكنها أيامنا معاً... وذكرياتنا معاً... وفي أيامنا، يا أبا سيما، الكثير من المعاناة... والكثير الكثير من الضحك... وفي ذكرياتنا، يا أبا سيما، الكثير من الحزن... والكثير الكثير من الفرح... عرفنا، معاً، نشوة النجاح... وعرفنا، معاً، مرارة الفشل... عرفنا، معاً، روعة الصعود الى القمة... وعرفنا، معاً، صدمة الانحدار الى السفح... كان الناس، عندما يسخطون، يسخطون علينا معاً! وعندما يرضون، يرضون علينا معاً! وفي "مملكة الشيراوي" هناك الكثير من الذخائر... والكنوز... وهناك الكثير من العجائب... والغرائب... أو حسب تعبيرك الطريف: "عجايب غرايب!" في "مملكة الشيراوي" ألف بيت للمتنبي! يا الله! هل يصدق أحد ان "الوزير الكيماوي" يحفظ للمتنبي، وحده، ألف بيت؟! وفي "مملكة الشيراوي" مراصد سحرية تحدق في ملكوت السماوات... وفي "مملكة الشيراوي" أرى أبطال "الشطرنج"... واساطين "البردج"... وعمالقة "كرة القدم"... وفي "مملكة الشيراوي" معلومات عن كل شيء... عن كل شيء... تقريباً... عن أول هيكل عظمي كامل اكتشف في افريقيا... عن الخسوف الذي مضى... والكسوف الذي سيجيء... عن سيمفونيات بيتهوفن... عن معركة "واترلو"... عن الجمل العربي... والحصان الروماني... وفي "مملكة الشيراوي" فتنٌ... وخطوب... وحروب مع أشخاص حقيقيين... ومع طواحين الهواء... سوف أبقى ما حييت، يا أبا سيما، اضرب في اعماق هذه المملكة... انتزع منها طرفة اذا احتجتُ الى طرفه... وجملة مفيده... وأخرى غير مفيده... ومعلومة أُبهر بها الحاضرين... واشعر بالكثير من السعادة... أما الحزن... يا أبا سيما... أما الحزن فقصة اخرى... ... عندما ينفض المعزّون... وتنتهي المراسم... وتواصل الحياة سيرها المعتاد... وأعود الى قواعدي... سوف ألمس ثقباً اسود... عميق الغور... كثقوبك السوداء في الفضاء - بقرب "مملكة الشيراوي"... يذكرني انك ذهبت... ولن تعود... ألم أطلب منك، ألف مرة، أن تكون أنت الذي تتأخر؟! سامحك الله! رحمك الله!