مع غازي القصيبي - 3 سئل أعرابي لماذا مراثيكم أجود أشعاركم؟ قال: لأننا نقولها وأكبادنا تحترق. كاد القلب يحترق بعد أن قرأت في «النهار» ما اعتقدت أنه شعر يودع به الوزير غازي القصيبي الدنيا عنوانه «قصيدة الوداع»، ورُدّت الروح في اليوم التالي وقد قرأت أن القصيدة منسوبة الى صاحبها وليس له منها سوى البيتين الأولين. وراجعت في نهاية الأسبوع بضع مئة صفحة مما كَتَب الدكتور في «الحياة»، أو كُتِب فيها عنه، وفوجئت بحجم المادة وتنوع المواضيع، ثم فوجئت بمجموعة من المراثي كتبها الشاعر في قادة وأصدقاء، خصوصاً أن أكثر أصدقائه أصدقائي، فكأنه كان يكتب باسمي أيضاً، ويقول شعراً ما لا أستطيع أن أجاريه فيه. أُعلِنت وفاة الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، في أول آب (أغسطس) 2005، وخصّ الدكتور «الحياة» في السابع من الشهر نفسه بمرثية منها: لم نجده وقيل هذا الفراق/ فاستجارت بدمعها الأحداق كان ملء العيون فهدٌ فما/ حجة عين دموعها لا تراق هدرت حولك الجموع وماجت/ مثل بحر والتفّت الأعناق هو يوم الوفاء حب بحزن/ نتساقاه والكؤوس دِهاق يا أبا فيصل عليك سلام الله/ ما خالج القلوب اشتياق. عرفت الملك فهد ولي عهد وملكاً على امتداد ثلاثة عقود، إلا أنها كانت معرفة عمل واحترام تعززت خلال حرب تحرير الكويت ودور «الحياة» فيها عبر الأمير خالد بن سلطان، قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات. غير أنه إذا كان لي أن أسجل رئيس دولة في خانة صديق شخصي فهو بالتأكيد الشيخ عيسى بن سلمان، رحمه الله. قال غازي القصيبي في رثائه: عيسى ويجهش بالبكاء بكاء/ أأعود والبحرين منك خلاء أفرحتني زمناً ففيم تركتني/ وعلى ضلوعي غيمة سوداء حسناؤك البحرين مثلي في الأسى/ يا للأسى إذ تُطْرِقُ الحسناء أعراس أهل المجد لا تدري بها/ وتزور عرساً أهله فقراء ومآتم الأعيان تزخر بالملا/ ولديك كل الميتين سواء أنا واحد ممن أتيت تعودهم/ والداء يقتلهم وأنت شفاء دعوات كل الناس في جنح الدجى/ لك، هل يخيب مع الكريم دعاء الدكتور رثى أيضاً صديقاً مشتركاً هو طارق المؤيد، وزير الإعلام البحريني السابق، وكان لا أذكى ولا أصعب، رحمه الله ورحمنا. قال الدكتور غازي: كان حركة مستمرة/ وضجة لا تهدأ/ واندفاعاً في كل اتجاه/ كان هناك من يعتبره الولد الشقي/ وكان هناك من يرى فيه «الطفل المعجزة».../ كان يحيِّر الناس/ بشخصية تجمع بين الماء والنار... من المذهل أن أراه فيصمت/ ويراني فلا يضحك/ كان يرقد في هدوء/ وهمست/ أبا أسامة/ في رحمة الله نمْ/ ويا صاحبي اللدود الغريب/ لك مني هدية/ صدق أو لا تصدق/ لك مني هذه الهدية الغريبة/ كل هذه الدموع. وقرأت في «الحياة» رثاء نثرياً للدكتور غازي القصيبي في الدكتور فايز بور، وزير الموانئ السعودي في حينه رحمه الله، وهو كان أيضاً ذكياً عنيداً ومقاتلاً لا يهاب كبيراً أو صغيراً. وقد عرفت الدكتور فايز منذ حل مشكلة زحام ميناء جدة وحتى تركه العمل بداعي المرض ووفاته، ولعلي كنت من قلة بين أصدقائه، فلم أختلف معه يوماً حتى يتبع الخلاف صلح. وفجعت مع الدكتور غازي القصيبي بوفاة صديق عزيز كريم هو يوسف الشيراوي الذي عرفته مراهقاً وشاباً و «شيبة» وكان كل اجتماع بيننا سياحة أدبية مع ظرف غالب. قال الدكتور غازي ما كنت أود أن أقوله عن أبي سيماء: هل تذكر كم مرة قلت لك ما قاله الشاعر القديم:/ إذا ما أتى يوم يفرق بيننا/ بموت فكن أنت الذي تتأخر/ وكم مرة قلت لي: بل كن أنت/ وشاء الأجل أن تتقدم أنت وأن أتأخر أنا/ أن أكون الذي يتجرع كأس الثكل/ وثكل الصديق أقسى من أي ثكل آخر/ الصديق الذي كان بحجم الحياة.../ في «مملكة الشيراوي» هناك الكثير/ من الذخائر والكنوز/ وهناك الكثير من العجائب والغرائب/ أو حسب تعبيرك الظريف «عجايب غرايب»/ هل يصدق أحد أن «الوزير الكيماوي» يحفظ للمتنبي وحده ألف بيت. وودع غازي القصيبي نزار قباني في قصيدة نشرتها «الحياة» في أيار (مايو) 1998 منها: كتبت اسمك فوق الغيم بالمطر/ وبالجدائل في سبّورة القمر يا للوسيم الدمشقي الذي هرمت/ دنياه وهو على عهد مع الصغر نسيتنا كلما لاحتْ قرنفلة/ وكلما اصطبغ الرمان بالخَضَر تموت كيف وللأشعارِ مملكة/ وأنت فيها مليك البدو والحضر إذا قرأناك عشنا رحلة عبرت/ بكل شوق جميل في دم البشر. وكتب الدكتور غازي أيضاً مقالة شعرية جميلة عن آخر مرة رأى فيها نزار قباني وقد غلبه المرض، إلا أن المجال ضاق ولا بد من تسجيل كلمات قالها في رثاء محمود درويش: وجدت إذن أن للموت رائحة/ مثل قهوة أمك تغسل من بركة الشعر/ سكتّ إذن بعد أن نزفت كلماتك/ وهي تعالج قفل القلوب التي صدأت/ والقلوب التي تنتشي بالهوان/ قف الآن محمود نشهد بأنك ما خنت/ دارك والبعض خان/ ونشهد بأنك كنت تحارب حتى النهاية.../ قف الآن محمود وانظر ترَ الورد ينبت/ من كلماتك يصبغ قبرك/ ترب فلسطين/ ترب العروبة/ بالأرجوان. وأُكمل غداً [email protected]