لقد كان الحزن أكبر مني ، ولذلك أُمعن في الهرب منه ، أو - على نحو أدق - ألتف على حتمية المواجهة باحتمالية التأجيل . أكثر من أربعة أشهر مضت على وفاة خالي وصديقي (أتجرأ على مقامه وأقول : صديقي ؛ رغم كونه يكبرني بربع قرن) والحزن لا يزداد إلا حضوراً وضراوة وألماً . تَمرُّ بنا - جميعا - تجارب الفَقْد / الفراق الأبدي (= الموت) ، كأقسى ما يواجهه الإنسان في هذه الحياة الفانية ، هذه الحياة التي هي في صيرورتها لا تحكي حقيقتها التي ننتشي بها كحياة ، كوجود يقابل العدم ؛ بقدر ما تحكي حقيقة العدم المُتَضَمن في جوهرها ضرورة ، بقدر ما تحكي العدم الكاشف عن معناها الكُلي بأقصى ما تستطيع أن تعبر به - وعنه - كلّ الطلاسم الصماء البكماء ، وكل الرموز العمياء ، المُضللة ضلالًا يتسع بحجم ما يتسع له هذا الكون من عَدَم وعَماء لا نهائي .تجارب الفقد ليست صورة واحدة ، بل هي صورٌ شتى ، تتعدد ، وتتنوع ، وتختلف في درجة عمقها وفي طول أمدها الزمني . لكن ، رغم كونها تخضع لحالة من التعدد والتنوع والاختلاف ، أي لتلك الحالة التي تمنحها كثيرا من الفرادة ؛ بحيث تستحق كل تجربة أن تكون حالة متفردة بعالمها الخاص ، ورغم كون تلك الصفحات التي يكتب عليها الموت حضوره الأليم مختلفة - أشد ما يكون الاختلاف - بحيث تُعيد تشكيل التجربة الشعورية على نحو مختلف بدرجة اتساع عالم التلقي ؛ إلا أنها في النهاية تعود إلى جوهر مأساة الإنسان ، مأساة الإنسان الإزلية مع حتمية الفناء ، ومن ثمَّ حتمية الفراق . من هنا ، فإن ما أكتبه مسطورا في هذا المقال يتخلق نصّاً بوصفه تجربة لها بُعدها الموضوعي ، رغم أنها تجربة ذاتية خاصة (= وفاة شقيق والدتي : حمد بن صالح المحمود - رحمه الله -) . إنها تجربة تخرج من ذاتيتها وخصوصيتها ؛ لتعمّ وتتسع بمستوى عمومية واتساع الإنسان . فحزني الكبير ، حتى قبل أن أكتبه ، هو فِعلٌ أتأنسن به ، حزن أحقق من خلاله إنسانيتي المهددة في كل لحظة ، أحقق به إنسانيتي التي لا قيمتة لها ما لم تكن تضيف شيئا من الإنسان إلى الإنسان . شعر الرثاء ، كما هو نثر الرثاء ، ليس رثاء ، أو هو ليس رثاء فحسب ، وإنما هو - في عمقه - انتصار للحياة ؛ بتوسل كلِّ سُبُل المواجهة مع الموت . الرثاء هو ثورة الحياة ، هو إعلان حرب على كل صُور الموت ، ومن ثّمَّ على كلِّ الموت الذي يتحدّى بعُنف من خلال تجسده في فرد ، هو مواجهة يقوم بها كلُّ فرد ؛ كلٌ بحسبه وقدر طاقته ، حتى ولو كانت طبيعة الحرب لا تتعدى كونها اعتراضاً سلمياً ، بل حتى ولو كانت تمارس تكتيكياً سياسة رفع الراية البيضاء ، تلك السياسة التي قد تكون أقسى صور المواجهة مع أشرس الأعداء . من الطبيعي أن مواجهة الموت لا تتم بالصمت ، أو يستحيل أن تتم بالصمت (فالتسليم والاستسلام لغة ناطقة تعكس بُعداً آخرَ للاعتراض) ، الصمت - فيما لو حدث - موت آخر ، عَدَمٌ أعمق . لا نستطيع مواجهة الموت إلا بالاعتراض المُعلن عليه (-وليس شرط الإعلان كونه نطقا-) . مواجهة الموت لا تتم إلا بالاعتراض الغاضب على وظيفة الموت الأزلية التي لا تكل ولا تمل عن أداء دورها السالب في إفشال مسيرة اكتمال الإنسان . أبو ذؤيب الهذلي لم يرثِ أولاده ، ومتمم بن نويرة لم يرث أخاه ، وكذلك دريد بن الصمّة ، ومالك بن الريب لم يرثِ نفسه ، والخنساء لم ترثِ أخاها ، وأبو تمام لم يرث قائده ، وابن الرومي لم يرثِ ابنه ، والبحتري لم يرثِ غلامه ، والمتنبي لم يرثِ جدّته لأمه ، والشريف الرضي لم يرثِ الحسين - عليه السلام - والمعري لم يرثِ صديقه الحنفي ، ونزار قباني لم يرثِ زوجته ، وإنما واجه كلُّ هؤلاء الموت كواقعة عامة في الوجود الإنساني ؛ من خلال وقائع فردية خاصة بهم ، وقائع عَينية اصطدموا بتجربة الموت من خلالها ، وقائع مباشرة تمتلك حرارة الحياة ونبضها ؛ بقدرما تتشبع بالعناصر الإيجابية التي تضيف إلى هذه الحياة كل ما يمنحها النماء ، ويصد عنها عوادي الفناء . ليست هذه أول تجربة لي مع الفقد ، مع هذا الفراق الأبدي ، ولكنها الأعنف والأقسى ؛ لكونها الأبلغ في تشويه معنى الحياة . إنها التجربة التي واجهني فيها الموت بأن اغتصبني بعضَ حياتي ، باستحواذه على أجمل ما في حياتي ؛ لأنه ليس من السهل أن تجد آخرين ، يقعون خارج ذاتك الفردية ، خارج حدود جسدك المحدود ، ولكنهم - في الوقت نفسه - يُجسّدون حياتك أنت ، يُجسّدون امتدادك الأجمل والأروع والأقوى ، يجعلونك تعيش تلك العوالم الوجدانية اللامحدودة من الاستقواء ، عوالم تستشعرها طمأنينة وأَمَانا ، أمانا لكل صور وتجليات الحياة (وأنت جزء منها) ضد كل صور المَوَات . لقد كان الحزن أكبر مني ، ولذلك أُمعن في الهرب منه ، أو - على نحو أدق - ألتف على حتمية المواجهة باحتمالية التأجيل . أكثر من أربعة أشهر مضت على وفاة خالي وصديقي (أتجرأ على مقامه وأقول : صديقي ؛ رغم كونه يكبرني بربع قرن) والحزن لا يزداد إلا حضوراً وضراوة وألماً . إنه الحزن الذي توقعته ، كما توقعه مني أهلي ؛ فلم يخبروني - وأنا البعيد مكاناً - بخبر وفاته ، ومن قبل ذلك بخبر مرضه إلا بعد عدة أسابيع . لكن ، وعلى عكس خبر المرض ، جاءني خبر الوفاة في اللحظة ذاتها ، ليس عن طريق أحد من أهلي الذين لا يمتلك أي منهم شجاعة إبلاغي بخبر الوفاة ؛ لعلمهم بأن حزني سيكون بحجم محبتي للراحل الكريم ، وليقينهم أن أياً منهم ليس يستطيع ضميره تحمّل كونه سبباً فيما سيخلُقه الخبرُ الأليم في عالمي من أحزان لم ولن تنتهي ! . رسائل الجوال التي حملت عبارات العزاء كانت قاسية ؛ رغم لغتها النازفة رقة وحناناً ومواساة . لا أحاول ، وأنا أكتب الآن ، استحضارها ؛ حتى لا أعيش تلك اللحظات ؛ رغم كونها حاضرة تتضخم في عالمي الذاتي باستمرار . ما أذكره هو أنني في الثواني الأولى التي تلقيت فيها الرسالة الأولى ، عمدت إلى الهروب من الخبر بشتى أنواع الاشتغال . لم أتصل بأبنائه لتقديم واجب العزاء ؛ لأنني لم أتخيل يوما - على المستوى الوجداني ، لا العقلي - أنني أستطيع أن أعزي فيه أحداً ، وكأنه حدث لن يكون ، ويجب ألا يكون . كما أنني لم أرد على تلك الرسائل المُعزّية ؛ لأن الرد يعني أن أعيش صدق الخبر (الذي فزعت فيه بآمالي إلى الكذب) في كل لحظات الكتابة ، أن أحيا التجربة في إبّانها ، وهو ما أعرف يقينا أنني لا أستطيعه بحال . وكما كانت هذه هي حالي مع الرسائل ، فكذلك كانت حالي مع الاتصالات ، إذ تجاهلتها تماما ، تركت جوالي في المنزل ، وخرجت أمشي لساعات على قدمي ؛ لعل الإنهاك الجسدي إذا ما تجاوز حدود ما يُحتمل الجسد ؛ يُقلل من غُلواء الإنهاك النفسي الذي لا يُحتمل ، ولو إلى حين . اليوم ، أحاول الهروب من أحزاني بمواجهتها بعد أن طال أمد الهروب ، ولكن لا فائدة . فأنا أعيش مع متمم بن نويره قوله : أبى الصبرَ آياتٌ أراها وأنني أرى كلَّ حبلٍ بعد حبلك أقطعا وأني متى ما أدعُ باسمك لا تُجب وكنتَ جديراً أن تجيب وتُسمِعا أحزن ، ولكن ليس كحزنه ، بل وليس كما هي الأحزان جميعا . لن يتصور أحد غيري كم كنت يا أيها المرحوم إشراقة إنسان كاملة ، بل وكافية لي إلى أبعد الحدود . فعندما يخبو الإنساني في الإنسان ، وعندما يكفر الإنسان بالإنسان ، كنت أجدك مؤمنا به (= الإنسان) أشد ما يكون الإيمان . غالبا ما كنت ألتقيك مساء . كنتُ بمجرد أن أراك أمامي نابضا بالمحبة والوفاء ؛ أحس فورا بأنني أغسل وجهي من عشرات الوجوه الكالحة التي علقت به طوال نهار ذلك اليوم ، أتطهر بفيض وجهك من عشرات الوجوه النضاحة بالكراهية والبغضاء والحقد الأعمى لمجرد الاختلاف على بعض الآراء . ولهذا كنت أحس بأن التسامح الإنساني اللامحدود فيك ، وأنت مجرد فرد / واحد ، كفيل بأن يسد كل ذلك الفراغ الكبير الذي أحدثته ثقافة الكراهية في نفوس مجتمع كامل من الأبرياء الأشقياء . أناديك بأجمل نداء وأنبل نداء ، يا أيها الإنسان ، وأقول : لقد كان جمال روحك طاقة إيجابية كبرى تُعوّض حالة فقر مدقع في جمال الأرواح لدينا . لقد كان جمالا أخّاذا ينداح في محيطك ، يمتد على امتداد حضورك ؛ ليداوي بشاعة وشناعة تلك التشوهات التي استشرت في أرواح كثيرين ؛ من حيث يعلمون أو لا يعلمون . هناك معادلة ، إنسانية وحضارية وإيمانية ، يُطالب بها أكثرنا - نظريا - ، ولكن تفشل الأغلبية الساحقة منا في التطبيق . إنها معادلة أن نتعاطى المحبة والوفاء فيما بيننا ؛ في الوقت الذي نختلف فيه أبعد ما يكون الاختلاف . أيها الراحل ، على مستوى التطبيق العملي ، أنت حققت تلك المعادلة الصعبة ، بل وأقول جازما : إنك حققتها بمثالية لم أرها حتى في أكبر دعاة التسامح مع الاختلاف . فأنا لا زلت أذكر كم كنت تختلف معي ، كم كنت تواجهني برفض أكثر الآراء التي تبنيتها وكتبت عنها ، حتى لقد قلت لي ذات يوم : لماذا تكتب عن السلفية التقليدية بهذه االطريقة ؟ ، ولعلمك بقدر محبتي لك قلت : أنا سلفي أنافح عن السلفية بكل ما أستطيع ...إلخ كلامك . وأذكر حينها أنني قلت لك : إنني لا أكره السلفية المستنيرة التي تنشر المحبة بين الناس ، السلفية التي تنشر الوعي بخطر الخرافة وبخطر تصنيم البشر ، وإنما قصدي تحديدا : تلك السلفية التقليدية التي يتبناها بعضنا ، أقصد تلك التي تنشرالكراهية بين الناس ، التي تدعو للكراهية لمجرد الاختلاف . ورغم أنك لم ترض بشرحي هذا ، ولم تقتنع بكلامي ؛ إلا أنك (وهذا هو التطبيق المثالي للتسامح) لم تستشعر أي شعور سلبي من جهتي ، بل لو وافقتك على كل ما تقتنع به تماما ، لم أتصور أنك يمكن أن تمنحني قبولا يزيد على ما هو موجود حال الخلاف ، بل وحال الاختلاف . أيها الإنسان ، في اللحظات التي أعيش فيها موتك بتذكر حياتك ؛ تفقد الأشياء ، كل الأشياء ، قيمتها ، تتساقط عنها معانيها ، حتى الوجود ذاته ؛ يبدو لي حينها وكأنه محض وهم . في هذه الأثناء ، أصدق المتنبي في قوله : " فإنما يقظات العين كالحلم " . استيعاب حقيقة رحيلك ، يعني استيعاب زوالية كل شيء بالنسبة لي ، حتى الحقيقة ذاتها تتهاوى . استيعاب يوم فراقك ، يعني استشعار عبثية الوجود بأعمق درجات الاستشعار ، أي بالعمق الذي يلغي الحاضر والمستقبل . لذلك ، أنت لم تكن لي ماضياً يوم كنت ، بل كنت مستقبلًا . وعندما أهرب من تذكرك الآن ، فأنا لا أهرب من تذكر الماضي ، وإنما أحاول الابقاء على نوع من التماسك المعنوي للمستقبل ؛ من أجل شيء من البقاء .أيها الراحل الكريم ، مضت الأيام ناطقة بما يُشبه لغة الانتقام ، توارت تلك الأمسيات الرائعة التي كنا فيها نستحيي كل شيء ، نستحيي حتى الحياة ذاتها بالمحبة وبقول المحبة ، توارت وغابت في فضاء العدم . ابتلع الصمت الرهيب كل الكلام ، كل الحياة ، وكأن شيئا لم يكن ، وكأننا لم نكن ثَمَّ هناك ، في بيتك ، في مجلسك المتأنسن بك . كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر رغم يقيني بمُضي كل شيء ، بتلاشي كل شيء ، وبأن الموت هو الصمت ولا صمت غيره .؛ إلا أن روحي تتمرد بالمحبة على كل ذلك . هناك في داخلي ظمأ إليك ، توق كبير إلى فضائك الحي . أريد اليوم أن أكلمك، أن ألامس ولو صوتك ؛ كي أتحسس شيئا من رَوْح الحياة ، كي أعيد ترميم الحياة في داخلي ، ولكن هيهات هيهات ! ، فنحن كما قال الشريف الرضي : ليس التنافثُ بيننا بمعاودٍ أبداً وليس زماننا بمعاد