جاء اعلان الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي في كانون الاول ديسمبر 2003 التخلي عن برنامج بلاده للاسلحة النووية مفاجئاً لكثير من المراقبين، على رغم ان المفاوضات مع ليبيا، التي تعتبرتها الولاياتالمتحدة منذ وقت طويل النموذج الصارخ ل"الدولة المارقة"، تواصلت على مدى سنوات عدة. وجرى التوصل الى الاتفاق مع الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة عبر مفاوضات سرية همّشت جهاز التفتيش النووي التابع للامم المتحدة، الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وكانت ليبيا بدأت في السنوات الاخيرة، في مسعى لرفع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولاياتالمتحدةوالاممالمتحدة، ترحب بمبادرات الحد من انتشار الاسلحة النووية وتشارك فيها. وفي 19 كانون الاول 2003، تعهد القذافي الالتزام بمعاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية التي كانت ليبيا صادقت عليها في 1975، وتوقيع البروتوكول الاضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي يسمح للوكالة باجراء عمليات تفتيش مفاجئة وواسعة للمواقع النووية. وفي اواخر كانون الثاني يناير الماضي، قدمت ليبيا لمفتشي الوكالة تخطيطات لسلاح نووي يماثل تصميم رأس حربي نووي. وتكمن اهمية هذه التخطيطات في انها كانت المرة الاولى التي يعترف فيها أحد بنية ليبيا تطوير اسلحة نووية. وجرت الانشطة الخاصة بدورة الوقود النووي التي اعترفت بها ليبيا في مجمع تاروجا النووي الذي يأوي مفاعل ابحاث طاقته 10 ميغاوات كان الاتحاد السوفياتي زود ليبيا به. وعندما رفعت عقوبات الاممالمتحدة في 1998، استأنفت روسيا تعاونها النووي مع ليبيا، وقدمت لها التمويل لاجراء تصليحات في منشأة تاروجا. وافادت تقارير ان مئات الفنيين والعلماء النوويين كانوا يعملون في تاروجا، وتلقى بعضهم تدريبه في الغرب. ونجحت ليبيا خلال الثمانينات في الحصول على كمية من اليورانيوم بخصوبة 80 في المئة من الاتحاد السوفياتي. وتشبه اجهزة الطرد المركزي لدى ليبيا تلك التي طورها صدام حسين في اواخر الثمانينات، الاّ انها اكبر بكثير. وفي اواخر التسعينات، بدأت ليبيا بشراء مكونات جهاز طرد مركزي غازي بسيط مصنوع في شكل اساسي من الالمنيوم. لكن بعد الحصول على اجزاء لحوالى 100 ماكنة، تحول العلماء الليبيون الى تصميم اكثر تطوراً لجهاز طرد مركزي مصنوع من فولاذ عالي القوة. وحصلت طرابلس على دعم "سوبرماركت عالمي" نووي زودها تصاميم اسلحة ومشورة تقنية ومواد ومكونات ضرورية، وفي شكل خاص من باكستان. ويماثل هذا السيناريو مساعي العراق النووية والكيماوية والبيولوجية الاولى في الثمانينات التي لقيت دعم وتشجيع شركات غربية. وبحسب محمد البرادعي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية فقد "نشأت سوق سوداء نووية تحرّكها براعة مدهشة. التصاميم توضع في بلد ما، وتنتج اجهزة الطرد المركزي في بلد آخر، ثم تشحن عبر بلد ثالث، ولا يوجد اي وضوح في شأن المتلقي النهائي". وتبدي ليبيا استعدادها لزيادة تعاونها بتقديم معلومات عن مجهزيها وطرق الايصال. الولاياتالمتحدة في مواجهة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بحلول منتصف كانون الثاني الماضي، زارت الوكالة بالفعل تسعة مواقع نووية كانت حتى ذلك الحين سرية. واكتشف المفتشون جهوداً متواصلة لبناء تكنولوجيا الطرد المركزي الضرورية لانتاج يورانيوم عالي الخصوبة لاسلحة نووية. لكن البرادعي اعلن بعد ذلك بوقت قصير ان شوطاً يبلغ سنوات ما يزال يفصل ليبيا عن انتاج سلاح نووي على رغم تصريحات من لندنوواشنطن بانها اقرب الى ذلك مما كان يفترض سابقاً. وفي اواخر كانون الاول الماضي، قال البرادعي انه على رغم ان ليبيا حاولت ان تخصّب يورانيوم كجزء من برنامج اسلحة، فانها "لم تكن قريبة كما يبدو" من انتاج سلاح نووي، وان "منشأة تحويل" تستخدم عادةً للتخصيب كانت "ما تزال في الصناديق". كما جرى تفكيك منشأة تخصيب صغيرة قبل فترة من الوقت. ونشأ خلاف في البداية حول الدول او المؤسسات التي ستتولى تنفيذ عملية تفكيك المنشآت النووية الليبية، ويرجع السبب على الأرجح الى ان التقويم الأولي الذي اعطته الوكالة الدولية للطاقة الذرية لطموحات ليبيا النووية كان ادنى بكثير من تقديرات الولاياتالمتحدة. وفي الوقت الذي تصر فيه الوكالة على ان لها الاولوية في التعامل مع انشطة ليبيا النووية، اعلنت ادارة بوش ان الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة ستتوليان مهمة التفكيك والتدمير الفعلي للمواد والتكنولوجيا النووية. وتفضل الولاياتالمتحدة ان يكون للوكالة "دور، لكن بشأن الجوانب التقنية فحسب" المتعلقة بتأكيد وجود برنامج نووي ليبي، مشددة على ان واشنطنولندن لديهما اتفاق سياسي يقضي بازالته. وفي 20 كانون الثاني، تلطّف مسؤولون اميركيون وبريطانيون بالسماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بان يراقبوا عملية التفكيك. وستقوم الوكالة بتثبيت علامات وختم المكائن والمواد التي ستدرج في لائحة جرد لكل المواقع العشرة الليبية ذات الصلة بالبرنامج النووي تمهيداً لازالتها في المستقبل. كما ستتوثق الوكالة من اعمال النقل والتدمير في الاسابيع اللاحقة، لكن التدمير الفعلي للاسلحة ستنفذه فرق اميركية وبريطانية في وقت لا يتعدى مطلع الشهر المقبل. ويمثل هذا اختلافاً بارزاً بالمقارنة مع عملية التفكيك الناجحة للبرنامج النووي العراقي التي نفذتها الوكالة في اعقاب حرب الخليج في 1991. وكانت الولاياتالمتحدة اوقفت بالفعل عمليات التفتيش التي تجريها الوكالة في العراق في 2002 عندما قررت غزو العراق. لكن الوكالة ادعت ان لديها فهماً افضل لبرنامج العراق النووي مما لدى الولاياتالمتحدة، بمعنى ان العراق لم يكن يملك برنامجاً نووياً. ان الوكالة الدولية للطاقة الذرية هي الجهاز الوحيد الذي يمكن ان يقوّم على نحو فاعل حجم البرنامج النووي ويتحقق من ازالته. اللحاق باسرائيل التحذير القوي الذي وجّهه القذافي الى الآخرين ممن يسعون وراء الحلم النووي، بدا انه يقدم تأكيداً لصواب سياسة الديبلوماسية التي تتبعها لندن والمدعومة بتهديد واشنطن بشن ضربات استباقية. لكن خطر العمل العسكري الاميركي او الرغبة في استعادة الرخاء الاقتصادي قد لا يكون، مع ذلك، كافياً لاقناع آخرين بنزع اسلحتهم طالما ان دولاً في منطقتهم تملك، او تسعى الى امتلاك، اسلحة نووية او كيماوية او بيولوجية. كانت الاسباب التي دفعت ليبيا الى تطوير اسلحة دمار شامل هي اللحاق بالدولة النووية الوحيدة المثبتة في المنطقة، اسرائيل، التي تملك رؤوساً نووية يماثل عددها ما يوجد لدى بريطانيا. ولم تعط الدولة التي تدير اكثر برامج اسلحة الدمار الشامل سرية في العالم اي اشارة الى نيتها نزع سلاحها النووي او حتى خفض وتيرة انتاجه. فقد التزمت الصمت المعتاد في اعقاب التطورات في طرابلس وطهران في كانون الاول الماضي. واذا مارست ادارة بوش ضغوطاً على اسرائيل كي تعلن عن وجود اسلحتها النووية وتحدد الحالات الطارئة لاستخدامها فان ذلك سيطمئن الدول العربية المعتدلة حيث ينظر الى اسرائيل عادةً باعتبارها جوليات وليس داود. لكن الضغوط على اسرائيل كي تنزع اسلحتها، سواءً من واشنطن او من داخل اسرائيل، مستبعدة مع استمرار المعايير المزدوجة التي تتبعها واشنطن في ما يتعلق بامتلاك اسلحة نووية. * مستشار بريطاني في الشؤون الدفاعية.