فشلت المحاولات العديدة لتحقيق السلام في منطقتنا. ورغم أن السلام مع المصريين لم يكن كاملاً أبداً إلا أنه يثمر بعض النتائج، فليست هناك حرب ولا سفك دماء على الحدود المشتركة. ومع الأردن، أيضاً، لا يزال خط الحدود الدولي صامداً. وصمدت كذلك اتفاقيات وقف إطلاق النار على طول الحدود مع سورية لأكثر من ربع قرن. فقط مع الفلسطينيين، أقرب الجيران إلينا جغرافياً وسياسياً، لم نُمنَ بالنجاح. والأسباب وراء ذلك عديدة ومتنوعة. فقد نجح المسؤولون عن هذا الفشل، من الطرفين، في أن يجنّبوا أنفسهم استهجان الرأي العام ردحاً طويلاً من الزمن، رغم أنهم معروفون جيداً. في هذا المقال، أود أن أشرح باختصار الأسباب الرئيسة وراء تداعي مبادرة السلام السابقة: أوسلو، والخلاصات التي يمكن لها إنقاذ وإنجاح المحاولة المقبلة: جنيف. للتذكير فقط: بعد مرور عشرين عاماً من الرفقة بين الغازي والمقهور، بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يعلن لنا الفلسطينيون أنهم رأوا ما يكفي من نور الاحتلال "المتنوّر" وأنهم لم يعودوا معنيين بالاستمرار بهذه الرفقة. أعطوا هذا الإعلان اسماً لم يكن حتى تلك الساعة معروفاً في قاموس الشرق الأوسط: الانتفاضة. وأدهشت الانتفاضة الأولى إسرائيل والعالم أجمع. فوجودها كشف، في الواقع، عن شدة العنف واليأس اللذين أطلقا زمامها. وولدت اتفاقيات أوسلو من رحم هذه الانتفاضة، حيث وضع صناع هذه الاتفاقية، في السّر وفي جو حميم وبعيداً عن الأنظار، مبادئها التي أدهشت العالم وأدهشتنا، فأصبحت أوسلو حقيقة سياسية واقعة. مباشرةً، ودون تمحيص في التفاصيل والمضاعفات، تبنى المجتمعان، الفلسطيني والإسرائيلي، خيار الأمل. ثمانون في المئة من الإسرائيليين، وعدد مماثل من الفلسطينيين قالوا حينذاك نعم للاتفاقية، "نعم" غالية عبّدت الطريق ورسمت ملامحها إلى فصل محترم متفق عليه بين الشعبين المترابطين. لكن، وكما هي الحال هنا دائماً، لا يعد أحد العدة لليوم التالي. نحن نعبئ الدم والمال والضحايا والنقود لنتجادل حول الأمس، لكننا غير مستعدين لإعطاء أي انتباه يُذكر إلى ما قد يأتي به الغد. نحن مرتبطون بعرى الموت مع كافة الأجيال السابقة، لكننا لسنا على استعداد لإيجاد عُرى للحياة من أجل هؤلاء الذين سيأتون بعدنا. بهذه الطريقة، أهملنا التعامل مع اليوم التالي لأوسلو. فاحتفلنا بالحاضر المدهش، لكننا فشلنا في صياغة اتفاقيات لغد واعد. كلانا، إسرائيل وفلسطين، أهملنا ما كان أكثر حساسية وألماً للطرف الآخر. فلم تستوعب إسرائيل كم كانت تشكل المستوطنات أسلاكاً شائكة تجرح وتفتك بجسد وروح بقاء الفلسطينيين. كل فلسطيني وافق على سلام أوسلو ردد في قرارة نفسه أن السلام يعني التوصل إلى حل وسط. والحل الوسط يكون غير كامل وغير شامل، لكن حلا وسطا مشرفا أفضل من شغف لا يمكن تحقيقه. نحن نحقق السلام، ونتوقع أن يتسلم الطرف الآخر الرسالة، وأن يتوقف بناء المستوطنات - ذلك الرمز الجلي المؤلم للاحتلال "المتنور" العنصري. بل أن تزال هذه المستوطنات من مشهد الحياة للمستقبل الفلسطيني. وما كانت تنصت إسرائيل. منذ أوسلو وحتى اليوم، تضاعفت أعداد المستوطنات وكلفتها وألمها، أيام رابين وبيريز ونتانياهو وباراك، وطبعاً أيام شارون. من ناحية أخرى لم يفهم الفلسطينيون ما يفعله التحريض بنا. في كل يوم، غطينا آذاننا بأيدينا لنحجب الأصوات القادمة من المساجد والمدارس، وجلسنا نرتعش - إذا كان هذا هو صوت الوعي الفلسطيني الجديد، فمعنى ذلك أنهم لا يعملون على خلق جيل جديد يتجاوز نقاط التفتيش والحواجز والنزاع. إنهم لا يستثمرون في تطهير أرواحهم وتنقيتها من الحقد وسيكولوجية الانتقام. ويخرج جيل آخر إلى الشارع مشبعاً بمشاعر اليأس والانتقام والغضب والعداء. هكذا كانت الحياة حينذاك: الوجه السياسي لأوسلو في عناوين الجرائد، والمستوطنات مقابل التحريض في الأزقة. ولم تتوحد روح الشعبين مع الفرصة التي منحت لهما. كان الصدام قضية وقت فقط، وكان الانهيار مكتوباً على الجدران. ثم جاء الانهيار، تماماً مثل حادث اصطدام قطار رهيب، وغاب شخصان عن المكان لمنعه. اسحق رابين، الذي قُدّم ضحية على مذبح أوسلو، وياسر عرفات الذي استسلم عند اللحظة الحاسمة، مفضلاً الاستمرار في النزاع مع إسرائيل عبر حوار الدم والرعب، متخلياً عن طاولة المفاوضات السياسية. منذ ذلك الحين، ولسنوات ثلاث ملعونة، خيّم جو مسموم على الشرق الأوسط: "ليس هناك أحد لنتفاوض معه، ولا شيء نتفاوض عليه". وفي غياب شريك وشراكة، استُلت السيوف من أغمادها، وتسلم الموت أذناً رسمياً ليطلق العنان لجنونه في الشوارع. بعد ثلاث سنوات من سفك الدماء وسيول من دموع الحزن، أدرك الطرفان أن النزاع لا يمكن حله بالعنف. يستطيع الأفراد المطالبة بالثأر والاستمرار في التعطش إلى الدم، لكن الشعوب والقيادات لا يمكن أن يسمح لها ببساطة أن تدمر مواطنيها بسياسات لولبية من الانتقام والانتقام المضاد. لقد خان القادة شعوبهم، فلم يوفروا لنا الأمن ولم يقرّبونا قيد أنملة من السلام. وفجأة، جاءت اللحظة التي شعر فيها الشعبان والمجتمعان المدنيان اللذان يبنى عليهما النظام السياسي، بالإعياء من حالة القنوط. لقد سئما اليأس بينما الحل واضح لهما، وواضح ما يمكن لهذا الحل أن يحقق لهما. ومن حسن الحظ، في هذه اللحظة، أن جنيف كانت تنتظرنا. شخصان، صديقي وزميلي وشريكي يوسي بيلين، وياسر عبد ربه، لم يستسلما - ليس عندما أخطأ باراك، وليس عندما اخطأ عرفات. قالا لنفسيهما: إذا لم نتمكن، نحن اللذين نعتبر الأقرب إلى رؤيا السلام من بناء جسر، فلن يستطيع أحد آخر عمل ذلك. ببطء شديد، وعمل مضنِ وصبر، عاد معسكر السلام إلى الظهور. بعد ثلاث سنوات نجحنا في الوصول إلى اتفاق. للمرة الأولى وضعنا أمام الشعبين الصورة النهائية. عبر السنوات وخلال كافة الاتفاقيات لم تكن الصورة النهائية سوى سراب خال من أي محتوى، "ثمن مؤلم"، "تنازلات تاريخية"، "قرارات موجعة". هذه الكلمات الفارغة مكنت القيادة من تجنب تحمل مسؤوليتها التاريخية أمام شعبها. اتفاقيات جنيف هي الصورة الحقيقية. هكذا ستبدو العلاقة بيننا وبينكم في اليوم الذي تنهض فيه الحكومات إلى مستوى مسؤولية المخططين لاتفاقيات جنيف. فرضيات جنيف بسيطة ومؤثرة. أنا لا أريد نصراً لأحد الأطراف على حساب عدوي السابق وشريك المستقبل بإهانته وإذلاله. أريد اتفاقاً يصون الكرامة باحترام كل ما هو مقدس وغالٍ للطرف الآخر، وأتوقع المعاملة نفسها من قبله تجاهي. جنيف هي اتفاقية احترام متبادل، وليس مواجهة مُشتركة. من المستحيل الهروب من الحقيقة في إطار وثيقة جنيف. لكلي الطرفين أحلام جميلة، أحلام بوطن كبير، وحقوق تاريخية وأبعاد دينية بعمق الزمان. لكن الاتفاق السياسي ليس المكان الذي تتحقق فيه الأحلام. بل على العكس، فالاتفاق هو المكان الذي يجتمع فيه الحالمون ويقررون بأنفسهم، من طريق الاتفاق، الحدود التي يصبح ضمنها حلمهم أمراً ممكناً. كيهودي، لن أتخلى أبداً عن حلمي المتعلق بعودة الرب إلى ملاذه في الهيكل الثالث. لكن إلى حين عودته، لا يتوجب علي ممارسة سيادتي على موقع ملاذ الرب. لقد صليت في موقع كان يوماً ما فارسياً ثم عربياً ثم رومانياً ثم مملوكياً وصليبياً وتركياً وبريطانياً وأردنياً. وليس صعباً علي أبداً أن أتقرب من "إله الأمم جميعها" وأسجد أمامه حتى لو كانت السيادة في ذلك الملاذ فلسطينية. فحلمي الروحاني والسيادة السياسية للغير أمران ممكنان إذا كنت أحترم عقيدتهم ويحترمون عقيدتي. بالنسبة لي، فأنا أعرف كم هو عميق ومؤلم دعاء القلب الفلسطيني في صلاته لعودة الفلسطينيين إلى المدن والقرى التي هُجروا منها بسبب تقلبات الحرب والتاريخ. فحلم العودة كان دائماً العمود الفقري الذي دَعَم فرص الفلسطينيين في العودة من الفناء. لقد حانت الفرصة، وهي الآن موجودة ويجب عدم تفويتها. جنيف فرصة للعودة من الفناء وللحصول على الاستقلال. حان الوقت للتمييز ما بين الحلم وبناء ما هو ممكن. أتوقع من كل زميل فلسطيني أن يدرك ويقرّ بأن الدعاء في الصلاة أمر، والتنفيذ أمر آخر. لا أحد يستطيع أن يأخذ حنين إنسان وتوقه للحصول على حق العودة. هذا حقه الذي يسكن قلبه. لكن التطبيق الفعلي لذلك لن يحصل، تماماً مثلما سيبقى هيكلي في مملكة الأحلام حتى يأتي تاريخ آخر. فجنيف تقول للطرفين: فقط الذين يستطيعون ترك أحلامهم في عالم الأحلام، قادرون على أن يخلقوا رؤيا أفضل ومستقبلاً أجمل بكثير لأطفالهم. وكل من يصر على الاستمرار بالعيش في عالم حلمه، سينتهي به الأمر للعيش في كابوس أبدي. وحتى أكثر أمهات الشهداء فخراً، هي أم من لحم ودم، وأود أن أعرض عليها حياة لأطفالها في هذا العالم، وابتسامة فرح وبهجة لأحفادها في السنوات القادمة، بدلاً من المعاناة والجنازات وثياب الحداد وشوق لا نهاية له لابن قام بعملية انتحارية قتل فيها كثيرين من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء على مذبح سوء التقدير والانتقام. لقد استبدلت جنيف اليأس بالأمل في معادلة الشرق الأوسط. لذا، وفجأة، أفاق الجميع من سباتهم. هناك مساندة بحجم 40 في المئة في إسرائيل وفلسطين. والمعارضة العنيدة للمتطرفين، في كلا المعسكرين، الذين يعلمون أن أمل جنيف هو البديل للتطرف الديني، تقتلنا جميعاً باسم الحياة الأبدية. لذا أفاق المجتمع الدولي من سباته أيضاً واحتضننا، لأن جنيف أمل المنطقة والعالم أجمع في الاستقرار السياسي ولمستقبل صنع السلام المتبادل والاحترام. والمراحل المقبلة واضحة تماما لي. يجب على جنيف أن تصبح جزءا لا يتجزأ من المعادلة الدولية، مثل قراري 242 و 338. يجب على جنيف أن تصبح الإعلان السياسي الذي تطالب به جماهير المواطنين من الطرفين قياداتها. ليس سياجا من الوهم، ليس إرهاب المجرمين والمنحرفين الذين لا قلوب لهم، ليس انفصالا من طرف واحد وليس كلمات جوفاء من قيادة بائدة قديمة لا مستقبل لها. جنيف هي ضد هذا اليأس الرهيب كله. جنيف هي الأمل العظيم. سوف نقول نعم مرة أخرى للاتفاقية، وهذه المرة، سوف نفعل كل ما في وسعنا لكي تنجح. * أبراهام بورغ كان رئيس الكنيست الإسرائيلي بين 1999 و2003، وشغل منصب رئيس الوكالة اليهودية، وهو حالياً عضو الكنيست عن حزب العمل. يُنشر هذا المقال بالشراكة مع وكالة Common Ground الإخبارية.