يعتبر وجيه رضوان من رواد الكتابة التلفزيونية في لبنان، إذ قدم للتلفزيون اللبناني سلسلة اعمال تعدّ من افضل ما عرفه حتى اليوم. من "السراب" الى "عازف الليل" الى "حول غرفتي" و"ألو حياتي" مروراً ب"الأسيرة" و"الصمت" و"قادم من الضباب" وأخيراً "زمن الحب"... اعمال لمعت وازدهرت حاصدة شعبية كبيرة، مدخلة اضافة الى التسلية الثقافية الى كل بيت، قبل ان ينسحب ليفسح المجال "لجيل جديد اكثر شباباً" كما يقول، ويتابع: "غيابي سببه تحول العمل التلفزيوني الى عمل اكثر شمولية. في الماضي كان هناك محطات تلفزيونية ارضية تسير في اطار محدد وضمن موازنات معينة وكان لا يزال هناك عدد جيد من الممثلين والمخرجين... وكان الطموح يعد بمستقبل افضل لهذه الدراما اللبنانية الوليدة، لكن الحرب جاءت وقضت عليها كما قضت على اشياء كثيرة اخرى في البلد. والحقيقة ان زوال ذلك الماضي بكل تقنياته وفنانينه ومجيء حاضر آخر مختلف كلياً سبب هذا الغياب لي ولأشخاص كثر شعروا مثلي بعدم قابليتهم للتأقلم مع الواقع الجديد، علماً ان هذا الواقع لجهة الحرية والإمكانات التقنية، افضل عشرات المرات من سابقه. في الماضي كنا مقيدين بظروف انتاج معينة، في التمثيل والإخراج والإنفاق والديكور والرقابة والحرية، كانت التقنية الجيدة غير متوافرة. اليوم كل شيء متوافر والإبداع غائب، من هنا عزوفي عن الكتابة وهي مشكلة تقنية خالصة. فلقد لاحظت ان نجاح مسلسلاتي لم يكن قائماً على القصة بل على الحوار. إذ توجد قصص كثيرة اجمل مما كتبته، إلا ان ما ميّزني هو الحوار الذي كان وقتها جديداً ومشغولاً في شكل افضل مما كان يكتب في حينه، اضافة الى النفس الرومانسي واللغة الجيدة البسيطة. اما في مقابل هذا الحوار فكان ثمة ضعف في التنفيذ على كل الصعد، الأمر الذي ازعجني خوفاً من ان اشدد في التركيز اثناء الكتابة على الحوار باعتباره البطل الرئيس في نصي الذي يعوّض عن ضعف التقنيات والأمور الفنية الأخرى فأتحول بذلك الى كاتب إنشاء لا كاتب درامي. غياب الإبداع "غياب الإبداع اكثر ما يتجلى اليوم في غياب لبنان نفسه عن الخريطة الدرامية في العالم العربي، اذ هناك تراجع كبير في الإخراج والتمثيل، ناهيك بغياب النصوص التي تتناول الواقع اللبناني"، يقول وجيه رضوان، ويتابع: "لا نزال نعيش اليوم في اجواء رقابية شديدة ترفض معالجة الأمور كما هي. في الماضي كنا نهرب الى الأجواء الرومانسية والعاطفية، اما اليوم فلا بديل. من جهة ثانية، لا يوجد منفذون جيدون من ممثل ومخرج الخ... لا يوجد ممثل ذو حضور مميز، اذ تغيب الممثلة "المرأة" بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان وتحلّ بدلاً منها عشرات العارضات الحسناوات. ولا أبالغ في القول ان الأنوثة والرجولة من حيث الشكل والمضمون تغيبان كلياً في كل ما نشاهده. لبنان غائب في فن الدراما تاريخياً إلا انه نجح حديثاً في تقديم البرامج التلفزيونية كما نجح في الموسيقى في الخمسينات والستينات وحقق حركة موسيقية موازية لحركة الموسيقى المصرية في الثلاثينات والأربعينات ثم تراجعت هذه النهضة واختفت تماماً بسبب غياب جيل الموسيقيين الكبار. والآن سقط الاثنان مصر ولبنان على هذا الصعيد، وعليك ان تتصوري وتضحكي اذ ان مصر تستورد راقصات من رومانيا". فهل يجوز هذا الغياب بعد ان كان لبنان في الستينات الرائد في العالم العربي وكانت الدراما المحلية مصدر إعجاب الخارج قبل الداخل؟ يجيب وجيه رضوان قائلاً: "عوّدنا اللبناني ان يكون رائداً في كل مجال جديد إلا ان غيره يكمّل الطريق، مثلاً مارون نقاش ذهب الى مصر وأدخل المسرح لكن المصريين هم المسرحيون. اللبناني ساهم في تأسيس السينما المصرية لكن المصريين هم السينمائيون، اللبناني كان الرائد في الصحافة لكن الصحافيين هم المصريون... كل بلد يمتاز في شيء معين: يقولون الجوخ الإنكليزي والسباغتي الإيطالية والنعومة الفرنسية والسينما الأميركية...". وفي الستينات كانت توجد الدراما اللبنانية؟ "في الستينات كانوا يقولون الدراما اللبنانية لأن الأمور لم تكن تفتحت بعد. في تلك الفترة كانت السينما المصرية تراوح مكانها ولم يكن هناك مجال لدراما اخرى الى ان برزت الدراما اللبنانية وفاجأت الجميع. من هنا صار المشاهد العربي ينتظر الدراما اللبنانية كتعويض له عن دوران السينما المصرية في الأفق ذاته. بات المشاهد العربي يتابع الدراما اللبنانية لا لكونها جيدة، إنما كمجرد تعويض اذ مهما فعلنا نبقى مقصرين امام المصريين. حتى السوريون الذين هم اليوم ابرز المنافسين لمصر لا يزالون بعيدين عنها اشواطاً لما يعانون من ضعف على اكثر من صعيد باستثناء التمثيل والإخراج، اما النص فما زال لديهم ضعيفاً. مسألة جينية ويشكك وجيه رضوان في قدرة اللبناني على الوصول الى دراما جيدة إذ يرى ان المسألة جينية وراثية لا حول للبناني فيها ولا قوة ويقول: "المسرح في لبنان ليس وليد الستينات، المسرح في لبنان وليد القرن التاسع عشر. كذلك في اوائل القرن العشرين كان هناك نشاط مسرحي في المدارس وكانت هناك ايضاً فرق مسرحية، من هنا لو كان لبنان متميزاً في هذا المجال فلمَ لم يفلح خلال كل تلك السنوات؟". فهل كانت الأعمال التلفزيونية والمسرحية التي سبقت الحرب اللبنانية مجرد طفرة انقذتها الحرب من الزوال ام كانت نهضة حقيقية جاءت الحرب وقضت عليها؟ "بالفعل وضعت الحرب علامات استفهام كثيرة حول هذا الموضوع"، يقول وجيه رضوان: "كان ممكناً ان تتحول هذه الطفرة الى نهضة حقيقية لو استمر التواصل. فالحضارة هي خط متواصل. وأهمية مصر تتجلى في التواصل الحضاري الذي استمر فيها منذ الفراعنة حتى اعتلاء محمد علي الحكم، وصولاً الى سقوط فاروق في الخمسينات حيث توقف كل شيء بمعنى انها حضارة ظلت متواصلة طوال اربعة آلاف سنة... السينما في اميركا متواصلة، كذلك السينما الأوروبية والمصرية علماً ان مصر لم تستطع حتى الآن إنتاج فيلم واحد على مستوى عالمي، لكن اذا قارناها ببقية الدول العربية فهي تسبقها من بعيد. مهما يكن من امر، التواصل ضروري امام الظهور المستمر للمواهب الجديدة". ويعود وجيه رضوان الى الوراء مستعيداً شريط الذكريات ويقول: "في البداية كانت هناك بشائر، يمكن ان توصل الى إنتاج معين الى ان جاءت الحرب وقضت على المسرح الذي كان نسبياً "طالع طلعة جيدة" وعلى الدراما التلفزيونية. اما السينما فهي غائبة، ففي الأساس لا توجد صناعة سينمائية لبنانية. وبرأيي يوجد فيلم واحد يمثل السينما اللبنانية هو فيلم جورج نصر "الى اين". اما قبله او بعده فلم يتم انتاج فيلم واحد بهذا المستوى، فيلم يحمل طموحات الفيلم السينمائي علماً انه كان في إمكان هذا الفيلم ان يكون مؤسساً للسينما اللبنانية تماماً مثلما كان فيلم "العزيمة" في مصر مؤسساً للسينما المصرية. وكما قلت سابقاً لبنان لم ينجح في الدراما اذ ان الممثلين فيه والمخرجين محدودون. في الماضي كان الكتّاب افضل والتقنيات افقر. اليوم التقنيات افضل والكتّاب اقل. صحيح يوجد عدد من الكتّاب الذين يحاولون التعويض عن النقص الحاصل إلا انهم يواجهون صعوبات كثيرة بحيث ان النص لا يكتمل وحده إنما يكتمل بوجود الممثل والمخرج الجيدين باستثناء مروان نجار بالذات الذي امّن تواصل الدراما التلفزيونية اللبنانية خلال الحرب وتحول الى مؤسسة تامة اذ هو ناشط على صعيد السينما والتلفزيون والمسرح معاً ويتميز بثقافة اكاديمية واسعة. ما نراه اليوم على الشاشات يتميز بضعف كبير في الإخراج والتمثيل علماً ان الكتّاب الحاليين يعطون افضل من القطاعات الأخرى ولا يزال النص حتى يومنا هذا هو السيد الأفضل بين سائر العناصر التي تؤلف العمل الدرامي اذ لم يكن عندنا يوماً مخرج كامل بالمعنى الحقيقي للكمال. كان المخرج إما يفهم في الكاميرا ولا يفهم في النص او يفهم في النص ولا يعرف شيئاً غير ادارة الكاميرا. لم تكن الدراما يوماً استثنائية لكن ماذا عن الشباب اليوم والمواهب التي تتخرج بأعداد كبيرة في المعاهد والجامعات الفنية ملمّة بأصول الإخراج في مستوياته كافة؟ "اليوم اذا ظهر مخرج جيد سيكون مصيره مثل الكاتب الجيد، اي ستصطدم مواهبه امام عجز كبير في التمثيل. فالمشكلة هي في غياب الممثل او حضور الممثل الجيد. ولنكن صريحين، لا يوجد عندنا ممثلون جيدون وطوال الوقت لم يكن في لبنان ممثل جيد. حتى الذين نترحم على ايامهم اليوم، اي الممثلون الذين ظهروا في المرحلة الأولى لم يكونوا في هذه الأهمية او على هذه القيمة الفنية". فهل حقاً ان المشكلة في غياب الطاقات البشرية الجيدة ام هي مشكلة إنتاج؟ "لا شك يلعب الإنتاج دوراً اساسياً في هذا المجال"، يجيب وجيه رضوان ويتابع: "ومع هذا غياب لبنان اليوم عن الساحة الدرامية ينحصر بالأسباب التي ذكرتها سلفاً لا في الإنتاج. صحيح ليس في استطاعة لبنان ان ينافس الرساميل الضخمة والفضائيات الكبيرة التي وراءها إلا ان الأساس هو في غياب الكفايات الفنية الدرامية". وفي الختام يقول: "الدراما اللبنانية لم تكن يوماً استثنائية. فلنكن واقعيين ولا نبالغ في الزجل، لم تكن هذه الدراما حالاً استثنائية بل كانت حالاً جميلة لم تتجاوز زمنها. من هنا لا يجوز المبالغة وتضخيم الأمور قائلين اننا كتبنا مسلسلات ونصوصاً لم يسقبنا إليها احد. بكل بساطة ميزتنا الأساسية كانت في صدقية ما كتبناه وأصالته وشعورنا القوي بأننا ننتمي الى الثقافة الغربية ونفهم اسرارها ونعايشها كما يعايشها اصحابها. فميزة اللبناني انه يجيد استخدام هذه الثقافة بصورة عميقة، لكن هذا لا يعني اننا افضل من الآخرين في مجال الكتابة الدرامية".