المخرج السينمائي والتلفزيوني انطوان ريمي الذي غيّبه الموت امس عن 65 عاماً كان في طليعة الجيل الجديد الذي صنع مجد تلفزيون لبنان ايام كان - هذا التلفزيون - وحيداً لا تزاحمه اي فضائية او شاشة اخرى. لكن انطوان ريمي الذي عمل في السينما انجز - حتى رمقه الأخير - اجمل المسلسلات. ارتبط إسم أنطوان ريمي بدءاً من منتصف السبعينات باسم الممثلة الراحلة هند أبي اللمع التي كانت زوجته قبل ان تقف أمام الكاميرا التي كان يقف وراءها مخرجاً يرسم للزوجة الممثلة أبهى الإطلالات التلفزيونية. وعندما رحلت في العام 0199 بدا هذا المخرج الرائد شبه وحيد وكان المرض بدأ ينعكس سلباً على حركته ومزاجه. غير ان مرض كليتيه لم يمهله الكثير من الوقت لينهي بعض السيناريوهات التي كان سيشرع في تصويرها. رحل أنطوان ريمي عن خمسة وستين عاماً أمضى ردحاً طويلاً منها يصوّر ويخرج ويكتب السيناريوهات أو يشارك في كتابتها ويدرّس في الجامعات والمعاهد. وإن بدأ مسيرته مخرجاً سينمائياً بعدما تخرّج في معهد الدراسات العليا للسينما في باريس عام 1961 فهو لم يلبث ان أصبح واحداً من المخرجين التلفزيونيين الذين أسسوا حركة جديدة إنطلاقاً من دراستهم الأكاديمية ومن الإرث الذي تركه لهم بعض الذين سبقوهم في هذا الحقل ومعظمهم من أصحاب التجارب الشخصية. و كان ريمي أنجز أفلاماً عدّة روائية ووثائقية قبل ان ينتقل الى الحقل التلفزيوني. وشاركت أفلامه في تأسيس المعالم الأولى لما سمّي سينما لبنانية حديثة ذات طابع جادّ وإن لم تخل من فنّ الكوميديا. لكنّ أنطوان ريمي مثله مثل معظم أبناء جيله لم يلبث أن يئس من العمل السينمائي وعوض أن يصمت أو "يتقاعد" باكراً على غرار بعض رفاقه الموهوبين وفي طليعتهم جورج نصر وعوض ان يقع في شرك السينما التجارية والساذجة على غرار البعض الآخر، قرّر ان يواصل مساره في ميدان الشاشة الصغيرة. وسرعان ما نجح ولمع إسمه وخصوصاً بعدما اختاره الإخوان رحباني مخرجاً تلفزيونياً لأعمالهما المسرحية والغنائية. ومنذ ذاك الحين نشأت علاقة متينة بين فيروز والأخوين رحباني وهذا المخرج الطليعي صاحب العين المرهفة والنظرة النافذة. غير ان أفلام أنطوان ريمي السينمائية عرفت نجاحاً شعبياً في حينها على رغم أنها لم تتعدَّ الخمسة وأوّلها "شوشو والمليون" 1964 وتلاها فيلم "للنساء فقط" 1968 و"بيروت 11" 1969، و"زواج الحبّ" 1975 و"لكِ يا فلسطين" 1976. وفي تلك الأفلام بدت أساليب ريمي السينمائية متعدّدة ومتفاوتة بين الواقعية والكوميديا والمغامرة والالتزام... وبدت لغته كأنها تتلمّس أبجديّتها الأولى في عالم السينما اللبنانية التي كانت حينذاك صناعة شبه هجينة وفرديّة. أما هويّة أنطوان ريمي الحقيقية فلم تتحقّق إلا عبر أعماله التلفزيونية وأفلامه الوثائقية. استطاع أنطوان ريمي أن ينجز أكثر من ألفين وخمسمئة ساعة تلفزيونية. هذا الرقم كبير ولكن ليس في نظر مخرج مثل أنطوان ريمي كان يقبل على الاخراج والتصوير والكتابة بنهم ومثابرة وقلق... كان في أحيان يعمل أياماً متواصلة من أجل أن ينهي ما يتطلّب الكثير من الجهد والإبداع. ومعروف عنه أنه لم يكن يكتفي بدور المخرج الذي يقف وراء الكاميرا فقط بل كان يعمل على تركيب الشخصيات وبناء العلاقات ورسم اللقطات وتقطيعها موظّفاً ثقافته الكبيرة في السينما والمسرح. كان الممثلون في مسلسلاته يمثّلون في كل ما يعني التمثيل من عيش للشخصيات ووعي للحظات الانسانية وإدراك للتقنيات. ولعلّ تعاونه مع الكاتب وجيه رضوان أتاح له أن يجعل من بعض المسلسلات أعمالاً ثقافية بامتياز. فمسلسل "حول غرفتي" الذي لا ينساه جمهور التلفزيون في لبنان كان أشبه بالعمل الأدبي الذي تمّ خلاله عرض عيون الأدب العالمي من خلال شخصية الفتاة المعقدة والتي لم تجد من سلوى أو عزاء سوى القراءة قبل ان تقع في الحبّ. أما مسلسل "آلو حياتي" الذي كتبه وجيه رضوان ايضاً فكان من أنجح الأعمال التلفزيونية وعرف نجاحاً شعبياً كبيراً من غير ان يقع في فخّ الاستهلاك أو الموجة التجارية. وجملة "آلو حياتي" أضحت - ولا تزال - من المأثورات الشعبية الرائجة عبر صوت هند أبي اللمع وعبدالمجيد مجذوب. أخرج أنطوان ريمي الكثير من المسلسلات التي تابعها الجمهور بشغف أيام كان تلفزيون لبنان هو المحطة الوحيدة ومنها "السراب" و"عازف الليل" تأليف وجيه رضوان و"من يوم ليوم" تأليف الأخوان رحباني... والمسلسل الرحباني هو من الأعمال البديعة التي لا تزال قادرة على تحدّي الزمن تبعاً لجمالية النصّ وشعرية المناخ الدرامي وطرافة الشخصيات ومتانة الإخراج. وفي الفترة الأخيرة ظلّ أنطوان ريمي يصرّ على العمل إشباعاً لهواه القديم واستسلاماً للإغراء الذي تمارسه عليها الشاشة... فأخرج "سنابل الحب" و"حكاية أمل". ومن البرامج الشعبية اللطيفة التي أنجزها ايضاً "المعلّمة والأستاذ" وقد جمع بين هند أبي اللمع وابراهيم مرعشلي. وفاة أنطوان ريمي تذكّر برحيل زوجته هند أبي اللمع الممثلة القديرة التي استطاعت أن تترك حضوراً جميلاً ولطيفاً في عالم الشاشة الصغيرة. والسرّ الذي جمع بينهما يتخطّى علاقة الزوج بالزوجة. إنه سرّ الفنّ الذي يدفع المخرج إلى منح الممثلة كلّ ما يملك من خبرة وجهد. بل إنه سرّ الممثلة التي تشعر أمام كاميرا زوجها أنها تعطيه مقدار ما تأخذ منه. أنطوان ريمي وهند أبي اللمع اكتملت الآن صورتهما معاً. هذه الصورة ستظلّ مطبوعة في عيون الجمهور الحقيقي وفي ذاكرته. ولعلها ستزداد التصاقاً بذاكرة هذا الجمهور كلّما شعر أنّ عالم الشساشة الدرامية يزداد غربة وانحداراً... صورة أنطوان ريمي وهند أبي اللمع صورة من صور الماضي الجميل الذي لن يبرح الذاكرة.