فتحي الهداوي أحد أبرز الوجوه المسرحية والتلفزيونية في تونس. في بداياته ارتبط اسمه بالفاضلين الجعايبي والجزيري، ثم انتقل إلى خارج حدود الوطن ليشارك الممثلين السوريين في مسلسلي "الطويبي" و"تاج من شوك". وفيما يعتقد البعض أنه هجر المسرح، يزمع الهداوي هذه الأيام على المشاركة في عملين مسرحيين قد يقودانه إلى كل من روماوزوريخ. وقبل مغادرته تونس في جولة أوروبية لهذا الغرض التقيناه وأجرينا معه هذا الحوار: عرفك المشاهدون ممثلاً مسرحياً من خلال دوريك المميزين في "عرب" و"العوادة". ولكن بعد ذلك لم نرك في أي عمل مسرحي، لماذا؟ - بسبب الظرف الموضوعي وقتذاك في التسعينات وهو تمثل في اقتراحات عدّة فضلت منها الأعمال السينمائية والتلفزيونية. لأن الاقتراحات المسرحية كانت غير جديرة بالاهتمام. لكنني خضت بعض التجارب المسرحية التي لم أكملها بسبب رفضي أعمالاً أدركت أنها غير مميزة ولن تكسبني الزخم الذي أطمح إليه. فالمسرح كمهنة يتطلب الصرامة والجدية، لأنه يدفع بالممثل إلى مراجعة نفسه باستمرار والغوص في أغواره. وأهمية المسرح في نهاية الأمر ليست محصورة في العرض بل في التمارين على رغم انسانية الإبداع من خلال الاحتكاك المباشر مع الجمهور وحرارة القاعة. وهكذا تتبلور علاقة حميمية بين الممثل وفريق العمل الذي يجب أن يكون جديراً بما تقدمه، لأنك مضطر كممثل، إلى أن تعري نفسك ووجدانك أمامه. هناك عتمة وظلمة وكأن هناك شيئاً سرياً في المسرح سيظهر لاحقاً أمام المتلقي. ولذلك على الممثل أن يتأنى كثيراً في اختياراته. أمامي الآن اقتراحان لمسرحيتين: الأولى ستجرى التمارين عليها في زوريخ أولاً ثم في نيويورك وهي من انتاج سويسري - أميركي مشترك. والثانية مع مسرح روما الذي يعتبر من أهم المسارح في ايطاليا مقارنة مع أهم المسارح في أوروبا وسأحاول إذا أسعفني الوقت أن أقوم بهما معاً. لماذا اخترت العمل مع الأوروبيين وابتعدت عن إطار المسرح التونسي؟ - أنا لا أختار، بل أُختير. لست نجماً كبيراً له صلاحيات الاختيار، فقط لي حق الرفض. هل تجد نفسك في عمل غربي أو داخل نص عربي؟ - المسألة ليست نصوصاً مكتوبة أو مقروءة، بل مسألة مسرح في كل مفرداته. لا أنفي ثقافتي وانتمائي العربيين لكن هذا لا يجبرني بالضرورة على العمل فقط انطلاقاً من نصوص عربية. كان العالم ولا يزال قرية صغيرة في الفكر والإبداع وليس ثمة حدود كي يعمل الممثل في عمل غربي. وعلى العكس كم من مخرج أوروبي اشتغل على نصوص عربية في الأصل. العلاقة الثقافية علاقة جدلية، أما أنا فإنني أحب الموروث الثقافي العربي وأعتز به باعتباره فكراً كبيراً في تاريخ الحضارة الانسانية. لكن المسرح ليس كذلك، فهو عبارة عن نظرة شمولية إبداعية نصاً وإخراجاً وتمثيلاً. من خلال تجربتك الشخصية، ما هي ملاحظاتك على الطريقة التي يدير بها فاضل الجعايبي الممثل، وما الفرق بينه وبين فاضل الجزيري على هذا الصعيد؟ - لا تمكنني الإجابة عن هذا السؤال لأنني لا أريد الدخول في مقارنات. هؤلاء الأشخاص تعاملت معهم لسنوات وتعلمت منهم، ويصعب الحديث عن مجمل أعمال مخرج عربي وتقويمه في شكل شامل. أهمية المسرح أنه لا يُكتب ولا يُصنع ولا يُسوق في البلاد العربية التي هي أساساً - وبما فيها تونس - خارج التاريخ مسرحياً. فنحن لا نملك مخرجين لهم من الخبرة والمعرفة القدر الكبير ولم تصل أعمالهم إلى أن تُبرمج في مقررات المعاهد والأكاديميات. الحقيقة أن المسرح صُنع في أوروبا وأميركا فقط. تجربتك كمساعد لفاضل الجزيري في "النوبة" لا يبدو أنها عززت رصيدك عند المشاهد المسرحي، فماذا أضافت إليك شخصياً؟ - النوبة أولاً ليست عملاً مسرحياً بل موسيقى. وعملي فيها تمثل في الفكرة التي اشتركت بها مع الجزيري على مستوى الصورة والموسيقى والتعرف إلى التراث التونسي والحضري. عملنا موسيقي بحت وحاولنا أن نجعله تجديدياً انطلاقاً من رصيد موسيقي فيه الديني والشعبي. لست مساعداً لأي كان وبحثي لم يكن للظهور أو لتعزيز رصيدي. فأنا أملك اهتمامات موسيقية وأحاول رصد الحركة الموسيقية في العالم العربي خصوصاً الشعبية والبدوية منها. فهي تترجم مصائر الشعوب وتتحدث عن الوعي العام. وباعتقادي أن أجمل موسيقى هي تلك النابعة من غياهب التاريخ العربي الإنساني والتي تتعلق بالتراث. في لبنان مثلاً يزعجني كثير من الأصوات والألحان، مع بعض الاستثناءات كوديع الصافي الذي أعتبره أحد أهم الأصوات العربية في العالم الحديث. فهو لصيق بالتراث وحامل رايته ولا يضاهيه أحد على مستوى الأداء والصدق والتصرف في المقامات وفي الخيال. وهناك زكي ناصيف الذي يشكل القلب النابض أو الرئة التي يتنفس عبرها التراث اللبناني. كذلك فيروز وزياد الرحباني. إلا أن زياد، بمقدار ما هو مغرق بالموسيقى الحديثة، يملك وعياً بالتراث اللبناني عن بكرة أبيه. وعلى المستوى المصري نرى بليغ حمدي الذي يملك روحاً متوهجة للإبداع والتحديث. "النوبة" تندرج في البحث أو الاهتمام بالتراث العربي وغير العربي مثل غارسيا لوركا. وبغض النظر عن أنه كاتب مسرحي وشاعر، فهو من جمّع التراث الموسيقي الاسباني خلال فترة الدكتاتورية وقبلها وسافر بها إلى أصقاع إسبانيا التي هي مدينة له. وهو الآن يمثل الفترة الذهبية للموسيقى الإسبانية. الممثل الذي يهجر المسرح إلى التلفزيون لا يكون الفن هاجسه بل البحث عن المال والنجومية... متابعو تجربتك في تونس يرون أن ذلك ينطبق عليك. ما تعليقك؟ - من حق أي قائل أن يقول ما يشاء. وصراحة ليست المسلسلات أو السينما التونسية هي التي ستثريني. ولكننا متفقون. فعادة ما أقوم بعملين من أصل عشرة في السينما مجاناً وتحديداً الأفلام القصيرة وربما تعاطفاً أحياناً لمساعدة المخرج صاحب الإمكانات المادية المحدودة. ولو كان هاجسي المال لاشتغلت في أمور أخرى بعيدة من السينما والتلفزيون. هل تعتقد أن المشاركة في أعمال تلفزيونية سورية أو أردنية قد توصلك إلى نجومية لم تحققها من خلال الأعمال التونسية؟ - لا أبحث عن النجومية وليس لدي نية لأن أكون نجماً عربياً. كل ما في الأمر أنني شاركت في مسلسلين سوريين الأول بعنوان "الطويبي" وكنت فيه ضيفاً، والثاني "تاج من شوك" للمخرج التونسي شوقي الماجري. وقصة هذا المسلسل أنه ليس عملاً مشتركاً ولا يدخل في بعد أيديولوجي أو فلسفي، وإنما ترجع إلى صداقتي بالممثل الفنان أيمن زيدان التي تعود إلى بداية الثمانينات وإلى رغبة حقيقية في التعامل مع البعض أثمرت هذا النجاح. ومشاركتك في أعمال عراقية خلال سنوات الحصار، ألا تندرج بدورها في سياق بحثك عن المال والنجومية؟ - مطلقاً لم أشارك في المشرق العربي إلا في مسلسلين سوريين كما قلت. جرى الحديث عن عمل في الأردن ولكنني لم أصل إلى اتفاق مع طلال العوالمة. لم أعمل مع العراقيين أو الأردنيين أو اللبنانيين. ما الذي ينقص الدراما التونسية كي تصنع نجوماً وتطلقها عربياً مثلما تفعل الدراما السورية والأردنية وقبلهما الدراما المصرية؟ - التلفزيون قادر على تغيير الشعوب، والدراما بدورها قادرة على خلق شعوب بليدة وركيكة وصاحبة ذوق رديء. وتستطيع في المقابل المساهمة في ايجاد جمهور على غاية من الوعي. من الضرورة أن نكثف أعمالنا شرط أن نتساءل أولاً: ماذا سنصنع ولمن؟ ثم تأتي مسألة الاستراتيجية وهي كيف نغزو السوق ونصنع نجوماً؟ وكل هذا يندرج في عمل شمولي. المهم الفكرة. وبصراحة علينا أن نستعين باللبنانيين لأنهم تجار كبار ثم إن هناك علاقة موجودة في عمق التاريخ بيننا كصور وأليسا وأليسار. هل تندرج الثغرات برأيك في موضوع الاستراتيجية فقط أم تتطرق إلى مستوى الواقع من خلال النص والتقنيات والشخصيات؟ - باعتقادي أن الكتّاب والمخرجين والممثلين موجودون ولكن علينا زرع روح التخصيب والاتفاق على زيادة الإنتاج خطوة خطوة، شرط تحديد المضامين وطبيعة المتلقي. برأيك، في لبنان ما بعد الحرب وتحرير الجنوب، ما هي الدراما التي يجب تقديمها في التلفزيون المحلي؟! أصدقاؤنا اللبنانيون يحاولون الآن إيجاد حلول حضارة، بمعنى الوصول إلى إجابات تسعى إلى رفع ذوق المستوى اللبناني خصوصاً بعد أكثر من خمس وعشرين سنة من الحروب. المشكلة تكمن في عدم وجود قرار يسمح للعالم العربي إن في لبنان أو تونس أو سورية بإعطاء دور مميز لإنتاج الدراما. وقد غيّرت حرب الخليج المفاهيم وتحولت رؤوس الأموال إلى سورية التي بنت عبر المعنيين فيها علاقات مع التلفزيونات الخليجية أثمرت عن نجاح قالوا عنه إنه نوع خاص من الدراما التاريخية وهي بنظري لا تنتمي إلى شيء. أدركوا أن المصريين محصورون في أجواء الحي، فأرادوا التميّز، ولعبوا على وتر التاريخ مبرزين عملية الانتماء العربي وخرجوا إلى الصحارى والبراري، وصمموا أزياء تتناسب مع هذه الرؤية. وهكذا حققوا انتصاراً حقيقياً وربما كان من حقهم. واضطر المصريون إلى تمرير مسلسل سوري في القناة الفضائية المصرية، وهي الأولى من نوعها. غير أن على السوريين أن ينتبهوا إلى أن استمرارهم في سلوك هذا النهج سيدفعهم إلى التهام أنفسهم من ذيولهم. وفي تونس يحاولون الآن تقديم مشروع درامي يغطي حضارة ثلاثة آلاف سنة، وهذا عمل مميز لو كتب له النجاح. ولكن يبقى السؤال: ماذا سنقول عن أليسا ولمن سنتوجه؟ الأمور معقدة وهذا العمل ليس حكراً على الكاتب فقط، بل يتعدى السياسي وعالم الاجتماع ليصبّوا جميعهم في بوتقة واحدة. لنعد إلى فتحي الهداوي... ما ثمار علاقتك بالمخرج المنصف السويسي؟ - لم أعمل معه، بل أعرفه جيداً وتربطني به علاقة صداقة متينة. ربما العمل الوحيد الذي جمعني به هو عندما كان مديراً لمهرجان قرطاج المسرحي في دورة عام 1994. ورشحني يومذاك بموافقة وزير الثقافة إلى منصب المدير الفني للمهرجان. وأعترف بأن السويسي يعتبر من المحطات المهمّة في تاريخ المسرح العربي الحديث وربما لدينا الكثير من الكلام عمّا قام به في السنوات الأخيرة. وأعماله المسرحية دليل واضح على مدى تألقه، إذ أنتج أكثر من 53 عملاً أعتقد أن فيها على الأقل ستة أعمال مميزة خصوصاً تلك التي أنتجها في الستينات والسبعينات. فهو الذي عرّف الخليج ومصر وسورية إلى المسرح التونسي وساعد على ريادته عربياً. أسند إليك المخرج السينمائي إبراهيم باباي دوراً في فيلمه الجديد "الأوديسا"، فماذا عن هذا الدور؟ - اسأل باباي لماذا أسنده إلي! الفيلم يتحدث عن عملية تهريب لآثار تاريخية بين تونس وإيطاليا. ودوري فيه ضابط شرطة يقوم بالتحقيق حول هذه العمليات. شخصيتي مزيج من التناقضات فيها الحيرة والألم، الحب والكراهية. يقال إن غيابك عن الأعمال التلفزيونية التونسية الأخيرة سببه ارتفاع أجرك. هل هذا صحيح؟ - كلا، فعادة ما تمر العلاقة بين الممثل والمنتج في مراحل يكون آخرها مسألة الأجر. لم أرفض يوماً عملاً بسبب الأجر، لكنهم يريدون تبرير عدم وجودي بهذه المشكلة، علماً أن معظم الأعمال التي قدمت إلي كانت هابطة ولم أندم يوماً على رفضها. أنا لست ممثلاً رخيصاً والذي يريدني عليه أن يدفع. فالمسألة مسألة عرض وطلب.