لم يكن الحدث الذي نقلت الفضائيات العربية والعالمية وقائعه يوم الخميس 29 كانون الثاني يناير الماضي مثيرا فقط ولكنه كان بالغ الدلالة أيضاً. ففي مساء ذلك اليوم أقلعت من مطار فرانكفورت الألماني، وفي وقت متزامن تقريبا، طائرتان: أحدهما اتجهت إلى مطار اللد وحملت بداخلها عميل الموساد الحنان تننباوم الذي كان قد سقط أسيراً في يد حزب الله ورفات ثلاث جنود إسرائيليين كانوا قد سقطوا قتلى أثناء محاولة لأسرهم من جانب رجال المقاومة في الجنوب. أما الطائرة الأخرى فقد اتجهت إلى مطار بيروت الدولي وحملت بداخلها: رفات 59 شهيدا ينتمون إلى كل ألوان الطيف السياسي اللبناني المقاوم، بدء بالحزب الشيوعي وانتهاء بالحزب القومي السوري، و23 أسيرا لبنانيا و7 أسرى عرب من جنسيات مختلفة. وفي اللحظة نفسها كانت حافلات تقل 400 أسير فلسطيني قد بدأت تتحرك، عبر الحواجز الإسرائيلية داخل الأرض المحتلة، متجهة إلى المناطق التابعة للسلطة الفلسطينية حيث الأهل والأحباب. وبينما كان السكون المشوب بحزن الانكسار يخيم على مطار اللد لحظة هبوط الطائرة التي لم يكن في انتظارها أحد من كبار المسؤولين، كان الصخب المعبر عن فرحة الانتصار يعم أرجاء مطار بيروت الدولي الذي امتلأ بكل رموز الدولة و المجتمع اللبناني، يتقدمهم الرؤساء الثلاثة: رئيس الدولة الماروني ورئيس الوزراء السني ورئيس مجلس النواب الشيعي الذين حرصوا جميعا على أن يحظوا بشرف استقبال الأسرى المحررين وتحية رفات الشهداء من المقاومين العرب واللبنانيين. لم تكن الصور الحية التي راح مراسلو الفضائيات يبثونها في الوقت ذاته من ألمانيا وإسرائيل والأراضي الفلسطينيةالمحتلة ولبنان، وتتراءى في اللحظة نفسها عبر الشاشات الفضية أمام أعين ملايين المشاهدين العرب، سوى تأكيد قاطع على أن الجزء الأول من صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحزب الله، والذي كان أعلن عنه قبل ذلك بأيام قليلة. يجري تنفيذه على الأرض بدقة تامة وفق المخطط المرسوم له. وليس من الصعب تصور حقيقة المشاعر التي كانت تعتمل في نفسي بطلي الصفقة التي صنعت هذا المشهد المثير: أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي، والذي لم يكن حاضراً حفل الاستقبال الهادئ في مطار اللد، والسيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، والذي كان نجم حفل الاستقبال الصاخب في مطار بيروت الدولي. فمن الواضح أن الإحساس بذل الانكسار كان هو المسيطر على مشاعر شارون العجوز، بينما راحت نشوة النصر تضيء وجه نصر الله وتزيد من شبابه المتألق توهجا. ومن الطبيعي أن تكون تلك هي المشاعر المعتملة في نفوس قائدين في لحظة تجسد ثمرة مفاوضات مضنية دامت ما يقرب من ثلاث سنوات، استطاع خلالها أحدهما فرض شروطه بالكامل على الآخر. غير أن الأمر الذي يتعين أن نبحث هنا في دلالاته الحقيقية ونتوقف عندها بالتأمل والتحليل، يتعلق بماهية الرسالة الكامنة وراء الموافقة على تلك الصفقة وإخراجها على هذا النحو. فقد كان بوسع شارون في الواقع أن يرفض الصفقة برمتها، لأن شروطها صعبة وغير متكافئة، من دون أن يثير غضب شعبه. بل كان بإمكانه أن يرفض الدخول أصلا في مفاوضات مع منظمة كان وما زال يعتبرها إرهابية. وبالتالي يفترض أن شارون قبل الصفقة مرغما لأن وراءها رسالة أراد لها أن تصل إلى كل من يهمه الأمر. من ناحية أخرى كان حرص السيد نصر الله شديدا ليس فقط على إظهار قدر من المرونة في اللحظات الأخيرة يسمح بإبرام الصفقة، ولكن لإخراجها بطريقة تضمن إيصال رسالته أيضاً بأكبر قدر من القوة والوضوح إلى من يهمه الأمر. أراد شارون بموافقته على الصفقة أن يتوجه، في تقديري، إلى شعبه أولا، ومن خلاله إلى العالم كله، برسالة إنسانية وسياسية في الوقت ذاته توحي بأنه يضع مصالح الإنسان الإسرائيلي وتقاليده الدينية فوق أي اعتبار آخر، وأنه على استعداد لأن يفعل أي شيء كي تعود رفات يهودي واحد يموت في سبيل وطنه لكي يضمه تراب الوطن الذي ضحى من أجله أو لكي يعود أي أسير لحضن أسرته وأحبائه. وأراد شارون أن يقول لأعدائه في الوقت نفسه أن دم أو جسد أو حياة يهودي واحد تساوي عنده، إن لم تكن أغلى، من دماء وأجساد وحياة كل البشر، خصوصاً إذا كانوا عرباً. وعندما يفرج هو عن 400 أسير عربي، مقابل أسير إسرائيلي واحد، فهذا يمثل في حد ذاته دليلا على أن كفة الموازين الأخلاقية والسياسية في الصراع، وليس الموازين العسكرية وحدها، تميل لصالحه، وبالتالي فهو المنتصر في الحقيقة حتى وإن بدا الأمر غير ذلك على الصعيد الإعلامي. ولأن موازين القوة الشاملة ما تزال تميل بشكل كاسح لصالح إسرائيل فلا بأس إذن من عقد صفقة من هذا النوع، لأن السجون الإسرائيلية لن تلبث أن تمتلئ من جديد بأسرى عرب كثيرين، ولن يغير أسر جندي إسرائيلي هنا أو هناك من الأمر الواقع شيئا. هذه الرسالة تعبر أصدق تعبير عن رؤية محارب قديم ولد في فلسطين التاريخية وانضم إلى "الهاجانا" بينما كان عمره لا يتجاوز أربعة عشر عاماً، و خدم في الجيش الإسرائيلي لمدة 28 عاما خاض خلالها جميع حروب إسرائيل وحقق في بعضها نتائج غير تقليدية، كان من أهمها قيادته لعملية الثغرة خلال حرب 73، ولم يتردد في ارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية خلال جميع هذه الحروب، بدء بالمذابح الجماعية التي ارتكبت ضد الفلسطينيين لحملهم على مغادرة وطنهم في حرب 48، وانتهاء بمذابح صبرا وشاتيلا في بيروت، مرورا بقتل الأسرى المصريين في حرب 1956. فقد نشأ شارون وترعرع وهو يرى المشروع الصهيوني يكبر ويحقق الإنجاز تلو لآخر، ويكبر هو نفسه ويترعرع معه ويساهم بدور بارز في تحويله إلى حقيقة على الأرض. رجل هذا تاريخه لا يمكن أن يرى في الأزمة الراهنة سوى أزمة عابرة، بل ويرى في الوضع الدولي الراهن فرصته التاريخية ليتحقق انتصاره النهائي ليكتمل المشروع الصهيوني على يديه ويصبح هو ملك إسرائيل الجديد. أما حسن نصر الله فقد أراد، بإصراره الهائل على فرض شروطه، وصبره الكبير، ونجاحه في نهاية المطاف أن تكون رسالته التي أراد إيصالها ليس فقط للشعب اللبناني وإنما للشعوب العربية والإسلامية قاطبة، واضحة وقوية. وهي رسالة تقول ببساطه: أنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وأن إسرائيل لا تعرف سوى لغة القوة ولا تدفع إلا ثمن ما تضطر إلى دفعه وتجبر للتنازل عنه. كما أن إسرائيل لا تعترف بأصدقاء ولا تبحث سوى عن عملاء، بل ولا تتردد في التخلى عنهم إذا لزم الأمر، مثلما تخلت من قبل عن أنطوان لحد ورفاقه الذين بذلوا دماءهم في سبيلها، ولا تحترم الذين ليس لديهم وسائل أخرى سوى التوسل لها، بل وتتعمد استخدامهم والتغرير بهم، مثلما استخدمت وغررت بأبي مازن من قبل. ومع ذلك، تقول رسالة نصر الله، فإسرائيل يمكن أن تحترم أعداءها الأقوياء الذين يملكون أوراقا حقيقية قابلة للاستخدام في ساحة القتال وفي ساحة العمل الديبلوماسي سواء بسواء. والسيد نصر الله استخدم سلاحه على الساحتين معاً بالكفاءة والاقتدار نفسيها. فقد استخدم السلاح في ساحة القتال في المكان المناسب وفي التوقيت المناسب ولم يبخل بأي تضحية، حتى ابنه قدمه شهيداً. ليس أمام إسرائيل إذن من خيار آخر سوى أن تحترم حزب الله، حتى وإن كانت تكرهه، وأن تتفاوض معه، بل تتوسل للآخرين ليتوسطوا من أجل أن يقبل هو التفاوض معها، رغم ادعائها بأن الحزب ليس سوى منظمة إرهابية. وهكذا تبدو المفارقة واضحة بين رسالتين متناقضتين كل التناقض. فرسالة شارون تنبعث من الماضي، ومن خبرة رجل عسكري وسياسي محنك أثبت كفاءة وفعالية من قبل يبحث في دفاتره القديمة عن شيء يستطيع به إقناع شعبه أن يتحلى بقدر من الصبر لأن النصر الكبير قادم لا محالة. فهو يؤمن يقينا أن الفلسطينيين و العرب شعوب تخاف لكنها لا تستحي، وأنهم قد ينفعلون ويغضبون ويثورون لكن نفسهم قصير وليسوا قادرين على كسب معارك استراتيجية وإدارة أزمات وصراعات طويلة وممتدة، وبالتالي فسوف يرضخون للقوة في نهاية المطاف. والدليل على ذلك أن أوضاعهم العامة مزرية إلى حد يثير الشفقة، وقدراتهم تتآكل وصراعاتهم البينية تشتد وتتصاعد، وينتقلون دائما من سيئ إلى أسوأ. أما رسالة السيد حسن نصر نصر الله فهي رسالة تتوجه إلى المستقبل وتحاول استنهاض وبعث طاقات أمة بأسرها وليس تحقيق مكاسب سياسية ضيقة صغيرة أو حزبية. فالأمة بالنسبة له قد تكون مأزومة لكنها لم تهزم بعد، والحكومات ربما تكون ضعفت واستكانت لكن الشعوب لم تستسلم بعد. صحيح أن بعض الفرق والطوائف والتيارات غيرت من مواقعها ومواقفها وخطابها وضبطتها على أنغام السيد الأمريكي المهيمن، لكن إرادة المقاومة لم تمت بعد وتنتظر من يوقظها ويقدم النموذج والطريق الذي يتعين على الأمة أن تسلكه إذا ما أرادت النهوض والخلاص. رسالة السيد حسن نصر الله لها صدقية كبيرة وبدأت تسمع وتستوعب باهتمام وعمق في أرجاء العالم العربي والإسلامي. و في تقديري أنه نجح في أن يقدم نموذجا نضاليا فريدا، لأنه تبنى خطابا سياسياً ودينياً وحضارياً يركز على ما يجمع الأمة وليس على ما يفرقها، وعلى ما يحبب وليس ما ينفر، وعلى ما يبني الجسور مع الآخر في الداخل وفي الخارج، وليس على ما يهدمها، وعلى الأصول والقضايا الكلية والرئيسية، وليس على فروع وتفصيلات لا تقود إلا للتيه والضلال. لقد أدرك بعمق أن انتصار المشروع الصهيوني سيهزم الجميع في الوطن العربي: عربا و غير عرب، مسلمين وغير مسلمين، سنة وشيعة، ولن يكون بوسع أي طائفة أو أي تيار وطني حقيقي أن يجد له مكان في ظله. هزيمة المشروع الصهيوني تبقى إذن هي الهدف الاستراتيجي الأسمى الذي يجب أن تحشد لتحقيقه كل الطاقات والإمكانات وعدم السماح لأي أمر آخر يصرف الأمة عنه. والأمة تستطيع أن تقاوم، بكل الوسائل، وفي الوقت نفسه تنمو وتزدهر، بل إن نموها وازدهارها يتوقفان على بقاء ثقافة المقاومة، وليس ثقافة الاستسلام حية وعميقة، في النفوس. وهزيمة المشروع الصهيوني لا تعنى إلقاء اليهود أو حتى إسرائيل في البحر، لكنها تعنى الوصول إلى توازن للردع يسمح بتسوية تعطي لكل ذي حق حقه وليس تسوية تحول الأمة إلى مواطنين من الدرجة الثانية لدى مملكة إسرائيل الجديدة. لو كانت قراءتي لرؤية وفكر السيد حسن نصر الله صحيحة فإنني أعتقد أن رسالته ستصل إلى قلوب الملايين من أبناء هذه الأمة، وأن الخطاب الذي تحمله سيكون مسموعا وله صدقية، لأنه هو خطاب المستقبل لأمة تبحث عن خلاص. ونسأل الله لأي قيادة عربية أو إسلامية مخلصة أن يقيها شر الغرور وأن يحميها من كل المتربصين والذين يتحينون لتوجيه ضربة قاضية. * كاتب وأكاديمي مصري.