قبل عام ونصف تقريباً في آب اغسطس 2002، عقدت بعض الشخصيات والقوى السياسية السورية المعارضة في الخارج مؤتمراً في لندن، خرجت منه بميثاق توافقي عرف باسم الميثاق الوطني. وفي منتصف كانون الثاني يناير الفائت، عقدت شخصيات سورية مؤتمراً لها في مدينة بروكسيل تحت اسم "التحالف الديموقراطي في سورية" دشنت فيه ما تعتبره خطة لإسقاط الحكم وإقامة نظام ديموقراطي في البلاد. يختلف المؤتمران في نوعية الحضور. فغالبية المشاركين في مؤتمر لندن من رموز مهاجرة وتنظيمات سياسية عتيقة، بينما هي حديثة السن والتشكل في مؤتمر بروكسيل. ويفترق المؤتمران بصورة جلية، في ما رسماه من طرق ووسائل للوصول الى هدف التغيير الديموقراطي. فبينما عول مؤتمر بروكسيل بمنتهى الوضوح، على دور الخارج وروج للعصا الأميركية، بصفتها الفعل الوحيد المجدي المتبقي لكسر الجمود وإزالة واقع التسلط الذي تعرفه سورية منذ عقود، اجمعت معارضة لندن، بمعظم ألوانها وأطيافها، على التزام صريح "بمواجهة التحديات المفروضة على الوطن مهما كان مصدرها وصبغتها، وبتقديم مصلحة الوطن العليا على المصالح الذاتية والخاصة في كل الموازنات السياسية". وأضافت في بيانها الختامي: "ان الاستقواء بالآخر على الوطن، كياناً ومؤسسات وإنساناً، هو خط احمر لا يقترب منه الا من هانت عليه نفسه". اما وجه الشبه فهو تماثل الشعارات التي رفعاها في ادانة واقع التسلط والفساد القائم، ونصرة قضايا الحريات وحقوق الإنسان والتغيير الديموقراطي، في كونهما اقتصرا على الوجود المهاجر او المنفي، وغابت عنهما اية مشاركة او حضور لشخصية سياسية او فئة معارضة من الداخل السوري. جراء خوف كامن من رد السلطة، إذا ما حصل تعاط ايجابي مع تنظيم "الاخوان المسلمين" الذي يمثل الجسم الرئيس المشارك في مؤتمر لندن. لقد فتحت مؤتمرات الخارج العين على واقع المعارضة في الداخل. وكشفت مشكلاتها وأمراضها وربما ازمتها، مثيرة اكثر من سؤال عن حدود دورها ومكانتها في المجتمع، وعن اسباب قصورها وعجزها، وحال الارتباك والتفكك التي تسم ممارساتها. ولكن لا يستقيم الحديث عن هذه المعارضة من دون الحديث عن الظروف الموضوعية التي عاشت في كنفها. فالبحث الدقيق في واقعها، وما آلت إليه، يتصل اساساً بشروط النشأة والتطور وفهم طبيعة المناخ الذي فرض، طوال عقود، على الحياة السياسية في البلاد. إن امساك الدولة بكل مفاصل العمل السياسي، وسيطرة الحزب الواحد على انشطة الحياة، والرفض القاطع لوجود اي مستوى من الاعتراض السياسي تحت طائلة الاعتقال والسجن المديد، عكس نفسه بقوة على واقع وإمكانات مختلف فصائل المعارضة السورية. فنجدها مفككة، عاجزة عن المبادرة، وقد خرج بعضها من سراديب العمل السري حاملاً امراض النمو المشوه تحت الأرض، بينما لم يستطع بعضها الآخر التطور والامتداد وكسب ثقة الناس، جراء روح المهادنة التي حكمت ممارساته او طرائقه في العمل "بذكاء وحربقة"، كما يحلو له وصف ما فعله، لبناء خطاب نقدي تقبله السلطة ويقيه شر القمع المباشر والصريح. وعلى رغم ان الأمور اخذت منحى مختلفاً منذ سنوات، وصار في الإمكان الحديث بصوت مسموع عن قوى معارضة في سورية، ظهرت على السطح بعد المستجدات العالمية التي فرضت نفسها بقوة على الواقع السوري، وأثمرت دعوات متكررة من اجل الإصلاح والتطوير، فتقلص العمل بقانون الطوارئ، وتراجع حجم الاعتقال التعسفي، وحصلت بعض الإفراجات عن معتقلين سياسيين، وظهر تقبل حكومي لبعض المواقف الناقدة والفاعليات السياسية المستقلة وأنشطة العمل المدني. إلا ان تطور مسار الأحداث لم يستمر في الاتجاه ذاته، وانعكس ارتداده سلباً على شروط حياة المعارضة السورية، وآفاق تطورها، خصوصاً ان ما حققته من حضور لم يأت بفعل وزنها وعزم قوتها على الأرض، بل لملء الحيز الذي تركه النظام في سياق اعادة صوغ علاقاته، كسلطة، مع الدولة والمجتمع، ومع نتائج المتغيرات العالمية. وهي حقيقة مرة يجب الاعتراف بها بكل وضوح وجرأة. ان عمر التجربة القصيرة التي عاشتها قوى العمل المعارض، وضيق فسحة الحرية والأمان، لم يمنحاها فرصة جدية للنمو والتطور، لتبقى، من زاوية وصف الحال، اشبه بجماعات صغيرة، ضعيفة وغير مؤثرة، لا تملك وضعية قانونية او سياسية واضحة، وتحتاج الى جهد كبير كي تتأهل لاحتلال موقع منافس للنخبة السياسية الحاكمة. وتبقى لهذه التجربة فوائد كثيرة في تكريس اسلوب الحوار العام، وتوسيع النشاط العلني، وفي اعادة ترتيب المهمات لتحتل مهمة التغيير الديموقراطي، عند غالبية قوى المعارضة، المرتبة الأولى في سلم اولياتها، على حساب الموقع الذي كانت تحتله اهدافها ومواقفها السياسية القديمة. وساندها في ذلك نشوء هيئات جديدة داعمة لهذا التوجه، كلجان أحياء المجتمع المدني، وهيئات وجمعيات حقوق الإنسان، والتحول الملحوظ الذي شهدته بعض القوى الإيديولوجية ذات التوجه الاشتراكي، او ذات الأصول الدينية التي وجدت في المشروع الديموقراطي مادة مناسبة لتجديد هويتها وخطابها السياسيين. لكن لا ينبغي الركون الى الشرط الموضوعي فقط في تفسير ضعف المعارضة وعجزها وارتباكها. فثمة اسباب وأمراض ذاتية لعبت دوراً مكملاً على هذا الصعيد، ربما من اهمها: اولاً: ان القوى السياسية والثقافية التي تشكل الجسم الرئيس للمعارضة، لا تزال قوى متنافرة تنحدر من منابت ايديولوجية وسياسية شديدة التعارض، ولا يزال معظمها عاجزاً عن التحرر، إن لم نقل متردداً في نفض يده من ثوابت فكرية وايديولوجية عفا عنها الزمن، وصارت تتناقض مع جوهر وروح الفكر الديموقراطي الذي يدعو إليه. ثانياً: لا تزال هذه القوى متعثرة في بناء خطاب سياسي يميزها، وفي تجاوز خلافاتها حول ماهية المرحلة الراهنة، ومحتوى برنامج الإصلاح الذي طرحته السلطة، ودور الخارج والداخل في عملية التغيير الديموقراطي المستحقة، وطابع المهام الملقاة على عاتقها. ثالثاً، وجود ازمة ثقة، وإن بدرجات مختلفة، بين صفوف المعارضة السورية، خلقتها معاناة ماض مثقل بروح التنافس المرضي، وعرف كثيراً من الدماء والألم. ولا نقصد نشر الغسيل، او هتك الأسرار، بل الوقوف موقفاً نقدياً يدعو للتجاوز. ففي صفوف المعارضة لا تزال قوى تدعي لنفسها الحق التاريخي في الزعامة والريادة، تحكم سلوكها الحسابات الذاتية والمصالح الحزبية الضيقة، وثالثة لا تزال تستسيغ استخدام وسائل فوقية او بيروقراطية، ان صح التعبير، لنصرة افكارها، تتنافى مع الروح الديموقراطية التي تدعو لها. لا شك في ان سنوات العطالة والمماطلة التي لم تثمر إلا وعوداً بالإصلاح تلو الوعود، اشاعت جواً من اليأس والإحباط ينذر بنمو تيار جديد يجاهر برهانه على التدخل الأميركي في عملية التغيير، ويسخر من صبر المعارضة الجميل وهي لا تكل عن مناشدة النظام وقادته للتدخل، بسرعة، من اجل تحقيق الإصلاحات الضرورية، وبدء مسيرة المصالحة الوطنية. بينما الموقف الرسمي الذي يتباهى ب"وطنية المعارضة" ولا يخشاها بصفتها معارضة ضعيفة وقليلة الحيلة لا تستطيع ادارة مدرسة ابتدائية، لا يكف، في الوقت ذاته، عن حصارها ومضايقة نشطائها، وحجب حقها في الوجود والنشاط. ولعل ما تحتاجه المعارضة، اليوم، هو فسحة اوسع من الحرية كي تختبر نفسها جيداً، وتثبت وجودها على الأرض، وتصنع من كيانات متفرقة ومشتتة حضوراً موحداً ومميزاً يحوز ثقة المجتمع ومؤسساته، خصوصاً اذا نجحت في التحرر من كوابح الماضي وآلامه وتعقيداته، وفي بناء وعي جديد، لا يأخذ الديموقراطية وسيلة يسعي من خلالها لتحقيق هدف ما، او اكتساب نصر سياسي عابر، بل بصفتها غاية في حد ذاتها، تظلل كل اوجه النشاط، فكراً وسياسة وسلوكاً. * كاتب سوري