في خضم النقاش الدائر حول الإصلاح عربيا، يبدو أكثر فأكثر أن كلمة إصلاح قد انفصلت عن الواقع ذاته لتصبح قائمة بذاتها. فالناس مع الإصلاح أو ضد الإصلاح تعني موقفا ضد النظام في بعض الحالات ومع بقائه في حالات أخرى. وكلمة"ضده"قد لا تعني الكثير، أو قد تعني أمورا كثيرة جدا. فهي قد تعني موقفا يؤيد تدخل أكثر للولايات المتحدة في شؤون النظام من أجل فرض انتخابات ديموقراطية كاملة أو قلب نظام الحكم. وقد تعني أيضا معارضة النظام من منطلقات أصولية. كما قد تصدر المعارضة عن أسباب طائفية وعرقية وجهوية، أي تهدف إلى معارضة الدولة ذاتها وليس النظام فحسب. وتعود معارضة النوع الأخير إلى عدم اعتراف بشرعية الدولة تكوينيا، أي منذ أن تكونت. وتشكك بعض هذه القوى"الإصلاحية"الطائفية في أيامنا بشرعية الدولة العربية أكثر مما فعل التيار القومي العربي في حينه. لم يعد الإصلاح يعني الكثير، ولكنه بالتأكيد بقي راية تعقد باسمها المؤتمرات وتدار الأموال وتقام الجمعيات. ومع فقدان معناه أصبح أداة لأهداف أخرى تماما. تصنم مصطلح الإصلاح خارج العلاقات البشرية التي انتجته، ثم بعثت الحياة في الصنم لأهداف أخرى تماما. وعربيا حل هذا اللبس وهذا الارتباك على مفهوم المجتمع المدني أيضا. إذ جرد من قوته وأهميته نتيجة لتحويله إلى تقليعة أو إلى مرادف لمفهوم المنظمات غير الحكومية. وكما عربت الديموقراطية إلى"إصلاح في خدمة الداعين له"، كذلك عرِّب المجتمع المدني فلم يعد يعني ما عناه في أوروبا من إعادة انتاج المجتمع لذاته بموجب قوانين مستقلة عن قوانين القوة والقسر التي تميز السلطة، ما يخلق لديه القدرة على إنتاج الدولة مفهوميا بالعقد الاجتماعي، بدل أن تنتجه الدولة كرعية للسلطان او للحاكم... وبعدما سخِّر عربيا لم يعد يعني العلاقات الاجتماعية الناجمة عن التبادل الحر في السوق، ولم يعد يعني مجتمع المدينة خارج علاقات الإقطاع، أو الحيز العام الواقع ما بين العائلة والدولة، ولا تفاعل المجتمع في الحيز العام الاجتماعي خارج الدولة وحتى خارج علاقات الربح في مراحل متأخرة من صياغة المفهوم. غابت هذه المعاني التي تحمل سر قوة المجتمع المدني في تفاعل مع الدولة لانتاج الديموقراطية. وأصبح يعني عربيا في ما يعنيه إما المجتمع العضوي القبلي أو مجتمع الجمعيات بإضافة اقتصاد طفيلي ريعي آخر إلى الاقتصاديات الريعية الموجودة والتي لا تنتج ديموقراطية ولا مواطنة، وذلك بتحويل قطاعات متزايدة من المثقفين إلى العمل في قطاع يعيش على أموال الدعم. ولو فهم المجتمع المدني، ولو استخدم في إطار ضرورته البنيوية لعملية التحول الديموقراطي لكان فعلا مفهوما مهما من الناحيتين التحليلية والمعيارية. ومنه كانت ستشتق أهمية المنظمات غير الحكومية لو فهمت في هذا السياق، أي في سياق دورها في عملية إعداد المجتمع والدولة للتحول الديموقراطي دون السعي غير المبرر وغير المفيد لمرادفة مفهوم المجتمع المدني أو الحلول محله. أما إذا احتل مفهوم محل الآخر وأوهمت مؤسسة أن دورها يعوض عن وظائف المجتمع المدني كمجتمع يعيد انتاج ذاته خارج الدولة وبتفاعل معها فسوف يحل بهم جميعا تشويه وتخريب للتحول الديموقراطي، وهذا التحول هو الهدف في نهاية الأمر. وإذا لم يكن هدف الإصلاح إزالة عثرات اقتصادية طفيلية وعثرات إدارية في جهاز الدولة معادية للديموقراطية وعوائق اجتماعية وثقافية معيقة للتحول الديموقراطي وإرساء الأسس البنيوية اللازمة لتمكين هذا التحول الديموقراطي، فليست هنالك حاجة له إلا من باب تنجيع سلطة النظام القائم وتنفيس الضغط الأميركي القائم لأسباب يمكن ترجمتها إلى سياسة، وبما أنه يمكن ترجمتها إلى سياسة تصبح مقايضتها ممكنة: السياسات الداخلية بالخارجية والخارجية بالداخلية. وأخشى أن هنالك من لديه مصلحة بتحويل مفاهيم مثل الإصلاح والمجتمع المدني وحتى حرية التعبير إلى تقليعات. وذلك لسببين، أولهما، أن كل ما يبدو تقليعة غربية يجد معارضة محلية بحجج أصالة وتميز وخصوصية من مختلف الألوان والأشكال والمشارب، فتنشأ تحالفات يضطر النظام، أو يرغب أن يضطر، إلى أخذها بعين الاعتبار ضمن التعددية القائمة وذلك"احتراما"للموقف التعددي ضد وحدانية النظام والثقافة التي يشيعها وضد الحزب الواحد الخ، فتتكون تعددية، ولكنها تعددية معادية للديموقراطية. ويتم الإدعاء أن تثبيت التعددية هو جزء من الإصلاح ذاته، وهي تتضمن تيارا واسعا معاديا للإصلاح ينبغي للإصلاح أن يأخذه بعين الاعتبار. ونحن نعرف هذه الحجة من الديموقراطية ذاتها: ماذا لو كانت هنالك أغلبية ضد الديموقراطية؟ وما دامت الأغلبية ضد الديموقراطية ومع نظام أصولي فلم لا نبق على النظام الحالي؟ فما تعرفه على الأقل أرحم مما تجهله. مع الفرق أن هذا الإدعاء الأخير يبرر قمع معارضة الديموقراطية، أما الاختباء وراء وجود تيارات معادية للإصلاح لتبرير تعثره، فيبرر تثبيتها كجزء من التعددية والإصلاح ذاته. وثانيهما، أن التقليعة تنتج صناعة الإصلاح وتنمي فئة مستفيدة من استمراره كتقليعة لا توصل إلى هدف. وكما في كل صناعة أخرى يتنافس على صناعة الإصلاح بدعم غربي وكلاء الإصلاح، وهم يتنافسون على وكالات حصرية وعلى توسيع نفوذ وكالاتهم، كما في كل وكالة تروج لبضاعة وتربح من اتساع السوق وحصرية الوكالة. وتكاد بعض الدول تدعي أن لها وكالة على نشر الإصلاح وإفهام غيرها في كيفية تطبيقه ونشر السلام وإفهام غيرها في كيفية تطبيقه لمجرد أنها تحتفظ ببعض التعددية الملجومة وغير الديموقراطية في ظل علاقات تبعية مع الولاياتالمتحدة. كل الفرق بينها وبين غيرها أنها تستخدم نشر الإصلاح كأيديولوجية في خدمة الولاياتالمتحدة بدل الإصلاح الفعلي في بيتها. وبين هاتين النزعتين معاداة الإصلاح والإصلاح كصناعة يصل الإصلاح إلى طريق مسدود. قوى دينية أصولية معادية للديموقراطية فهمت فجأة أن الإصلاح هو بطاقة الدخول إلى دار الأمان فتبنت الإصلاح، وطرحت نفسها للتفاهم والتحالف مع أميركا كقوى معتدلة في مقابل النظام المعادي لأميركا الذي يقمعها مستغلة السحر الكامن في الإدعاء أنها تشبه النموذج التركي محولة قوى علمانية متمسكة بالموقف من سياسة الولاياتالمتحدة إلى قوى متطرفة...ننموذج آخر نماذج الإصلاح. وفيما يجول المواطن العربي بناظريه ولا يجد مواقف تستحق كنية موقف إزاء ما يجري في غزة أو إزاء ما يجري في العراق أو إزاء الإعتداء على سيادة سورية لا يتبادر إلى خاطره أن الأنظمة العربية باتت أكثر واقعية أو أكثر عقلانية كجزء من نزعة بل عقلية الإصلاح الشاملة التي تعمها، بل يصاب الشارع العربي بالإحباط إذ يدرك أنه يدفع دفعا إلى اجترار الإصلاح فيبقى بلا ديموقراطية وبلا كرامة في الوقت ذاته. لقد استعصت المنطقة العربية على الإصلاح مرة أخرى بسبب تعددية الكيانات السياسية القادرة على المناورة لأنها تنتمي إلى الإطار المرجعي نفسه، ألا وهو المنطقة العربية والسياسات الأميركية في ما يخصها. إن سلاحها الأساس هو بالضبط ما تنكره على القوى المعارضة لها، أي وحدة الإطار المرجعي العربي. فهذا الإطار هو الذي يمكنها من المقارنة بين ما يسمى الإعتدال والتطرف في المسألة الفلسطينية... فالتقسيم بين الاعتدال والتطرف يفترض إطارا واحدا مشتركا يصح فيه هذا التقسيم، وهو الذي يجعل التنافس في ما بينها على إرضاء الولاياتالمتحدة في مسائل متعلقة بسياسات الأخيرة الإمبريالية في المنطقة العربية، مما يمكنها من المقارنة بين دولة عربية وأخرى في هذه المسائل. والسياسة الأميركية التي تدعي أنها هي الباعث والمحفز على عملية الإصلاح ولو بالتهديد والابتزاز هي أيضا العائق أمام عملية الإصلاح. والمقصود هو الإصلاح باتجاه التحول الديموقراطي وليس فقط الإصلاح كتقليعة وكصناعة. لقد أصبح الإصلاح تقليعة إلى درجة استخدامه كشعار من أجل وصول قوى معادية للتحول الديموقراطي الى الحكم. والمسألة بسيطة جدا. نظريا، من المفترض أن يؤدي الإصلاح تدريجيا الى فقدان المبادر إليه زمام المبادرة فتصل إلى الحكم قوى شعبية نتيجة لعملية انتخابية وقد تكون هذه القوى معادية للديموقراطية فتعطي الحجة لردة حقيقية على الإصلاح من قبل النخب القديمة، أو تفقد زمام المبادرة فتصل الى الحكم نخب ديموقراطية تتكيف معها النخب القديمة أو تحاول التسلل من جديد الى الحكم من خلالها فقط، كما حصل في اوروبا الشرقية، وخاصة في روسيا. ولكن في ما عدا حالة واحدة تحققت فقدت فيها النخبة المبادرة للإصلاح زمام المبادرة ثم عادت واستلمت الحكم بالإنقلاب كما في الجزائر، لم تفقد النخب الحاكمة الحالية في العالم العربي زمام المبادرة رغم طول الحديث عن الإصلاح. وقد تعاملت مع الإصلاح كأداة للبقاء في الحكم فقط. ولكم ماذا في ذلك؟ فمن الممكن الإدعاء أصلا أن الإصلاح في دولة غير ديموقراطية قد يبدأ كأداة لغرض البقاء في الحكم، ولذلك يرى فيه النظام مصلحة، أي لأن الحكم بالأدوات القديمة لم يعد ممكنا. وإذا لم ير به مصلحة له فلن يبدأ أصلا. هذا ما يرجى عندما يتعلق الأمر بالإصلاح الاقتصادي مثلا. ولكن من المفترض أن يتطور الإصلاح إلى ما هو أبعد من ذلك لكي يستحق تسمية إصلاح للتحول نحو الديموقراطية. وهذا غير قائم في العالم العربي بالمطلق. هذه حالة غير معروفة حاليا. هنالك تمثيلية متفق عليها أميركيا للقيام ببعض الإصلاحات الشكلية في نمط السيطرة دون فقدان زمام المبادرة. ولم ينجح الإصلاح ولو في حالة واحدة في إحداث تغيير جذري للنخب الحاكمة والمسيطرة. لقد تغيرت عناوين سياساتها ولكنها استرجعت زمام المبادرة في كل مرة بدا أنها ستفقده مرة بواسطة تغيير نهج الإصلاح ومرة بواسطة إرضاء لأميركا أو التخلي عن موقف نقدي تجاه سياساتها في قضايا سياسية أخرى متعلقة بالمنطقة العربية خاصة في العراق وفلسطين. وهامش المناورة الذي يتيحه التفتت العربي يساهم هو بدوره في زيادة هذا التفتت، ويجعل الرؤساء والملوك يتجنبون القمم العربية، أو يتجبنون الكلام فيها إذا حضروها، باعتبارها عبئا. والنتيجة طبعا هي كيانات كما نراها، تزيد من القناعة أنها بوضعها الحالي لا تنتج لا إصلاح ولا موقف، ولا سياسة ولا ثقافة، بل ثقافة سياسية رديئة تصلح مرشدا للمواطن العربي الى الانحلال الأخلاقي، ما دامت هذه أخلاقيات النخبة الحاكمة والقيادة. ينشأ انطباع أن الأزمة في العمق هي أزمة أخلاقية. فمن يزاود في مراحل المد الشعبي لكي يحتويه ثم ينتظر تعب شارعه لكي يمارس ما يرى أنه صواب، لا يمكن أن يكون ديموقراطيا، فهو ينفذ نقيض ما يعتقد عندما يساير الغالبية، ثم ينفذ ما يعتقد عندما تكون الأغلبية قد تعبت. وهو يرى أن الإصلاح صنم الامبراطور لا بد من نصبه والتظاهر بعبادته في ساحة المدينة في مرحلة الباكس أميركانا، ولكنه صنم على كل حال. الامبراطور سعيد بعبادته حتى لو كان صنما لا ينفع ولا يضر، ولكنه لا يتخلى عن وجوده لأن مجرد وجوده هو دليل هيمنته وانكسار داخلي عند المحكومين. كاتب عربي.